حين يموت وزير صحة أسبق في مستشفى جهوي إثر تعرّضه إلى أزمة قلبيّة دون أن يتلقّى الإسعافات اللازمة في الوقت المناسب، حين يسقط طبيب داخل مصعد معطّب في مستشفى آخر ويلقى حتفه في غضون دقائق في حادثة فظيعة هي الأغرب من نوعها في العالم كلّه، حين ينطفئ أربعة عشر رضيعاً في اليوم ذاته داخل مستشفى جامعي بسبب إهمال تفصيل تافه وروتيني متعلق بالتعقيم، حين يجد أطباء/ات متربصون (مقيمون) زميلهم جثة هامدة في غرفة الاستمرار (غرفة الأطباء أثناء المناوبة) إثر إرهاقه الشديد في ساعات المناوبة الليلية، فإنّنا حينها لا نتحدّث عن واقع صحّي لبلاد في القرن الحادي والعشرين، بل عن كابوس داخل رواية من روايات فرانز كافكا أو قصّة من أقاصيص صامويل بيكيت. 

يموت وزير الصحة ويموت الأطباء/ات، يتعرّض البعض الآخر إلى جلطات قلب في الشغل، إلى اكتئاب أو نوبات عصبية حادة، إلى حوادث عنف تتهشّم فيها أنوفهم وتتكسّر عظامهم، أو إلى عدوى من أوبئة تودي بحياتهم بسبب غياب معدات الوقاية اللازمة، بينما تفرّ البقية المتبقية إلى الخارج هاربة من كلّ هذا، فما هو حال المرضى أنفسهم؟ ما هو واقع كواليس المستشفيات في تلك الدهاليز التي لا يصل إليها ضوء الإعلام والتي لا يعرفها إلّا من عاشرها عن قرب؟ أيّ فظاعة ستكون عليها الأخبار التي لا نقرؤها في الجرائد أو نشاهدها في التلفاز؟

أعملُ طبيباً في مستشفى حكومي شمال غرب البلاد التونسية، وهذا الخبر بمفرده مدعاة للعزاء. 

مشهدان أو ثلاثة مشاهد فقط بإمكانها اختصار كلّ شيء، كفيضان مراحيض المستوصفات بالخراء على كامل أرجاء القاعة في فصل الشتاء، أو موت مرضى الأزمات القلبية يومياً، بشكل عادي جدّاً، بعد نقلهم من قسم إلى قسم وانتظارهم ساعات طويلة في القاعات والأروقة دون توفّر طبيب قلب واحد في أيّ من هذه المستشفيات ودون توفر المعدات الصالحة أصلاً لإنقاذهم، أو كإنعاش جثّة هامدة بالغصب، في قاعة مليئة بعشرات المرافقين الذين يهددون بحرق المستشفى في الحال إن لم يعد فقيدهم للتو إلى قيد الحياة، فهل هناك جدوى من وصف بقيّة التفاصيل؟

أشعر بالارتباك فعلاً وبالحنق، حنق التورّط في الوصف، بل أخاف أن يتحوّل مقالي هذا ذاته إلى فسحة للتذمّر والشتيمة عوض أن يكون إصبع اتهام موجهاً إلى كلّ مسؤول عن هذا الخراب منذ سنوات طويلة وحتّى هذه اللحظة. فهل تسمحون لي بذكر بعض هذه التفاصيل حتّى لا يتحوّل مقالي إلى جملة واحدة هي مجرّد كلمات متراصّة من الشتائم اللاذعة؟

حسناً:

مبنى العيادات الخارجية في المستشفى أشبه بقنّ دجاج فاخر، وهو عبارة عن بيت وظيفيّ مهجور يعود إلى تسعينات القرن الماضي. لا شيء يعمل، لا حنفيات الماء ولا قنوات التصريف ولا أقفال الأبواب أو النّوافذ ولا حتى فوانيس الكهرباء. 

قاعة انتظار المرضى عبارة عن صالون بيت سكنيّ يسع خمسة عشر فرداً -مع وجوب التلاصق- على أقصى تقدير، لكنّه يستقبل كلّ يوم عدداً يتراوح بين الأربعين والمائة وعشرين زائراً يتزاحمون كلّهم ويتراشقون بالأيدي إلى أن يتقيأهم الصالون في النهاية إلى الخارج.

منذ عامين فقط من عمر المستشفى كلّه (أكثر من ثلاثين عاماً) بُنيت عيادات جديدة، لكنّ هذه العيادات هي في الحقيقة عبارة عن رواق طويل عرضه أقلّ من مترين، يفتح في النهاية على أربعة غرف فحص شديدة الضيق. يصطفّ عشرات المرضى داخل الرواق متلاصقين، وكي تتمكّن من المرور، تكون مجبراً على التعثر المتواصل بسيقانهم حتى الوصول إلى المكتب، ثمّ البدء في العطس وحكّ العينين بسبب الرطوبة والروائح الكريهة. 

مستوصفات الأطراف التي تتبع المستشفى عبارة عن أكواخ قديمة، مبنية بشكل سريع وعشوائيّ، غالبيتها القصوى لا تدخلها الشمس، بأثاث قديم وكراتين في كلّ مكان، لا وجود فيها لأسرّة فحص طبية وأحياناً لا وجود لماء. مستوصفان تمّ إغلاقهما مؤخراً بسبب تصدّع الجدران والسقف.

قسم الاستعجالي (الطوارئ) في المستشفى هو قسم مكشوف بالكامل. تدخل من البوابة المفتوحة على الشارع فتجد نفسك مباشرة في القسم. في أحيان كثيرة يشقّ أناس مجهولون رواق هذا القسم حاملين أكياساً فيها خبز وحليب أو معدات منزلية وكأنّهم يعبرون شارعاً في المدينة، دون أن تكون هناك أيّة حرمة للقسم أو للمستشفى نفسه، ودون أن تكون هناك حراسة دنيا أيضاً. لا وجود لشيء اسمه سريّة الفحص مطلقاً، يدخل الجميع دفعة واحدة إلى المكتب، إلى غرف الكشف والعلاج ليكون القسم يوميّاً أشبه بسوق أسبوعية لا أحد يقدر على تنظيمها، بل يكون هدفه الوحيد هو أخفّ الأضرار الممكنة.

لا يستقبل هذا القسم الحالات الخطرة حصريّاً، لكنّه يستقبل الجميع، بما في ذلك الحالات الباردة. وأحياناً ما يمتلئ أيضا بالمتسوّلين، أو بالصعاليك والسّكارى. يصعب في أحيان كثيرة فرز الحالات الخطرة بالفعل وسط كلّ تلك الفوضى، لتكون نتيجة ذلك تعكرات صحية غير محمودة العواقب لمرضى لا يتمّ علاجهم على الفور. عليَّ أن أخبركم أنّني أنا نفسي تعرّضت إلى أزمات صحية كثيرة بسبب العمل، كادت إحداها أن تودي بحياتي بعد إجهاد كبير دام أكثر من يوم وليلة فحصت فيها ما يفوق المائتي مريض. وقد تمّ إشفائي في قسم العناية المركزة أربعة وعشرين ساعة خرجت بعدها في عطلة مرضيّة دامت شهراً كاملاً. عليّ أن أخبركم أيضاً أنّه بعد عودتي إلى العمل في ذلك الوقت، تساءلتُ عن حالة مريضة فصامية تعرّضت إلى نوبة عصبية حادة أهلكت إثرها معدات قسم الاستعجالي مُقدِمةً على قتل نفسها، بينما رفضت الشرطة نقلها إلى قسم الأمراض النفسية في العاصمة رغم موافقة النائب العام، فكانت الإجابة أنّها انتحرت في الأسبوع الموالي رمياً من الطابق الرابع بعد أن هربت من المستشفى.

لا أريد أن يذهب بكم الظنّ إلى أنّ وضعية مستشفيات العاصمة والمدن الساحليّة أقلّ فظاعة من مستشفيات الدّاخل. صحيح أنّها تحوز على أقسام جامعية باختصاصات مختلفة وأطباء/ات مختصّين/ات من جميع الرّتب، وصحيحٌ أنها تحتوي على معدات طبية غير متوفرة في المناطق الداخلية، لكنّها لا تقلّ بؤساً عنها من حيث الاكتظاظ المهول والإهمال والمعمار الفوضوي والافتقار إلى أبسط قواعد الصيانة والسلامة الصحية والمهنية. إذ هناك قاعات عمليات في مستشفيات جامعية، تقطر أسقفها بالماء وتتجول في أروقتها الفئران. بعض المرضى الذين تكتظ بهم المستشفيات إلى حدود تفوق أضعاف طاقة استيعابها، يموتون في المراحيض. أحد هؤلاء  أقدم على حرق نفسه في قسم من أقسام الأمراض النفسيّة في العاصمة دون أن يتفطّن إلى ذلك أحدٌ في الحين.

هل تتضح الصّورة أكثر؟ لا أعتقد. فالأكيد أنّ الكثيرين منكم يجهلون نظام عمل الأطباء في المستشفيات الحكومية التونسيّة، وربّما يجهلون أيضا التدهور اللوجستي الذي طال القطاع في الآونة الأخيرة.

فلتربطوا أحزمتكم:

يعمل طبيب/ـة الصحة العمومية ستة أيام في الأسبوع إلى جانب تأمين ساعات الاستمرار في قسم الاستعجالي في الأيام العادية، كما في العطل والأعياد بالتناوب مع زملائه. لكنّ هذا الطبيب/ـة، وخلافاً لأقرانه في كافة أنحاء العالم، لا يتحصّل على راحة تعويضيّة فور الانتهاء من ساعات المناوبة على مدى أربعة وعشرين ساعة متواصلة. إذ أنّه بعد ذلك يواصل القيام بالعيادات الصباحية في اليوم الموالي- شخصياً أعود عدداً يفوق الخمسين مريضاً في قسم العيادات الخارجية إثر ساعات المناوبة الليلة- دون التمتّع بالراحة الضرورية بعد ذلك. وقد تَواصَل نظام العمل بهذا الشكل على مدى سنوات، رغم كلّ الحكومات المتعاقبة منذ الانتفاضة الشعبية، دون الوصول إلى إصدار ولو قرار سياسي أو منشور وزاري واحد يمنع العمل المتواصل أكثر من أربعة وعشرين ساعة على التوالي، لتكون النتيجة في النهاية الاستنزاف الخارق لطاقة الطبيب جسدياً ونفسياً، وتَضاعُفَ نسبة الأخطاء الطبية الناتجة عن الإرهاق وفقدان التركيز، بل تحوّل هذه الخدمات نفسها إلى عمل أوتوماتيكيّ متّسق وكريه، يسوده جوّ كامل من الضغط والتوتر. 

لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، إذ عليكم أن تعرفوا أنّ الأطباء/ات المغادرين سواء بالاستقالة أو الإحالة على شرف المهنة، تظلّ أماكنهم شاغرة، دون أيّ تعويض يُذكر، ليتحمّل بالتالي الأطباء/ات الباقون هذا الشغور، ويقوم كلّ واحد منهم بعمل أكثر من طبيب واحد، متحملاً ضغوطاً جسدية ونفسية إضافية تصبح هي نفسها سبباً إضافيّاً يدفع به، إلى هجران المستشفيات العمومية أو إلى الهجرة خارج البلاد نفسها، ليصبح نقص الأطباء/ات في المستشفيات حلقة مفرغة تؤدي إلى تصحّر تصاعدي لا يتحمّل عواقبه سوى المرضى ومن بقي صامداً من هؤلاء الأطباء/ات. 

في المستشفيات الجامعية، لا يؤمّن أقسامَ الاستعجالي سوى الأطباء/ات المتربصون الداخليون والمقيمون، الذين لم يتحصّلوا بعد على شهاداتهم الجامعية والذين يواجهون بمفردهم جحافل المرضى هناك في غياب التّأطير المباشر وعلى عين المكان من الأطباء الجامعيين، متحمّلين بالتالي عبئاً يفوق قدراتهم وكفاءتهم المهنية كي يضعهم ذلك أمام مسؤولية جزائية وإيتيقية ليست من مشمولاتهم، ولتكون الخدمات الصحية نفسها مجرّد (Bouche trou) أو مجرّد جبر خاطر مرضى لن يتلقوا في كلّ الأحوال العلاجات أو الفحوصات الملائمة.

 تفتقر مستشفيات البلاد التونسية بكاملها إلى عمليّة في غاية الأهمية ألا وهي فرز المرضى قبل الدخول إلى عيادات الاستعجالي، وهو ما يجعل من هذه الأقسام تعيش حالة فوضى عارمة أربعة وعشرين ساعة على التوالي، حيث تختلط الحالات الباردة بالحالات الاستعجالية في غياب قانون أساسي واضح سواء بالنسبة إلى الممرضين/ات أو الأطباء/ات ينظّم عملهم على عين المكان، ويحدّد مسؤوليتهم القانونية أمام مواطنين يتعاملون مع هذه الأقسام باعتبارها عيادات خارجية مفتوحة طول الليل والنّهار، يطالبون فيها بالفحص غير المشروط، ويلجؤون إلى العنف في بعض الأحيان إن تمّ إخبارهم مجرّد الإخبار بعكس ذلك. تغيب أبسط المعدّات الطبية في المستشفيات، وحين أقول أبسط، فذلك يشمل المحرار أو لوحة خفض اللسان من أجل أدنى الفحوصات على الإطلاق ألا وهو فحص الحنجرة. 

يتفاقم نقص الأدوية في الصيدليات الداخلية إلى أرقام مفزعة كي يهدّد ذلك حياة المرضى بصفة فوريّة ومباشرة، ويجعل من العمل داخل المستشفيات أمراً ليس مضنياً فحسب بل عقيماً أيضاً، حيث أنّ الأمراض المزمنة لعدد مهول من المرضى، كالربو والسكري وضغط الدم والكلوستيرول وأمراض القلب وأمراض الغدد وغيرها لا تشهد أيّ استقرار يذكر على مدى العيادات المتوالية في غياب الأدوية، بل إنّ عدد المرضى  يتضاعف في أقسام الاستعجالي علاوة على أقسام العيادات الخارجية، أين يبحث هؤلاء عن حلول وقتيّة لتعكّر أمراضهم، أمام عجز الأطباء/ات وشعورهم المتواصل بالعقم والإحباط. في أحيان كثيرة ما تحدث مشادات كلامية تتحوّل إلى عنف وأعمال تخريب من مرافقي المرضى الذين يحمّلون مسؤولية تدهور صحة أهاليهم  للأطباء والممرضين على عين المكان.

المثير في الأمر، أنّه في ظلّ كلّ هذه الفوضى العارمة، تجتمع بعض اللجان والهيئات العلميّة للقيام ببعض الإصلاحات المزعومة، لكنّها في الحقيقة لا تفعل شيئاً آخر سوى مزيد من إغراق الجميع. فهي لا تحرّك ساكناً فيما يخصّ مشاكل الصيانة والمعمار العشوائي وانعدام المعدات والتدهور المهول للخدمات الصحية وأقفال الكثير من الأقسام والفجوة الكبيرة بينما هو نظري وتطبيقي. أمّا عن تصحّر المستشفيات، وفي ظلّ النقص الفظيع لأطباء/ات الاختصاص بجميع أصنافهم في الأماكن الداخلية، فإنّ هذه اللجان تفتح أماكن عمل لأطباء/ات الاختصاص المتخرّجين حديثاً، شرط أن يستمرّوا بالعمل هناك خمس سنوات على أقلّ تقدير إثر خمس سنوات أخرى يكونون قد أتموا فيها تخصصهم، وهو في الحقيقة شرط مجحف يجعل هؤلاء الأطباء/ات يفرّون بجلودهم نحو الخارج. لكنّ الأدهى من ذلك هو أنّ عدد هذه الأماكن يكون عدداً ضئيلاً للغاية وفي اختصاصات بعينها دون أخرى. أذكر على سبيل المثال أنّ المستشفى الجهويّ بجندوبة ( شمال غرب البلاد) والذي يستقبل عشرات الآلاف من الزائرين، يعمل فيه مختصان اثنان فقط في جراحة العظام- أيّ أنّ كلّ واحد منهما يؤمّن أسبوعا كاملاً وعلى التوالي ساعات الاستمرار الليلية هناك، باستثناء العيادات الخارجية والعمليات الباردة- بإمكانكم تخيّل حجم الكارثة-، ورغم ذلك لا يُفتح سوى مركز إضافيّ واحد في هذا الاختصاص، بينما تظلّ اختصاصات أخرى شاغرة بالكامل مثل اختصاص المفاصل أو المجاري البولية أو جراحة الأعصاب أو الطب الباطني. 

تُصلِحُ هذه اللجان أيضاً – إصلاحاً مزعوماً- الدراسات الطبية عبر اختراع اختصاص جديد اسمه اختصاص الطب العائلي عوض الطب العام قديماً، لكنّها في الآن ذاته لا تسوّي أبداً وضعية الأطباء/ات العامين من النظام القديم ولا تقوم بإدماجهم قانونيّاً في النظام الجديد لتجعل من وضعيتهم المهنية والقانونيّة مُحرِجة وغامضة بالكامل، رغم أنّ هؤلاء الأطباء/ات أنفسهم يؤمّنون الخطوط الأمامية في المستوصفات وأقسام الاستعجالي بكامل تراب الجمهورية أي بنسبة ثمانين بالمائة من مجموع عدد المرضى، كما يعملون أحياناً بخطة أطباء/ات مساعدين في أقسام خاصة كأقسام المعدة والقلب والطب الباطني وغيرها، وقد أدّى ذلك منذ سنتين إلى إحداث كثير من البلبلة والإضرابات التي لم تُفضِ إلى أيّ حلّ يذكر في هذا الخصوص، بل الأكثر من ذلك، أنّ هذه اللجان لم تجد إلى الآن أيّ صيغة قانونية لانتداب المختصين الجدد في طب العائلة، هؤلاء الذين يجدون أنفسهم فريسة البطالة فور تخرّجهم، والذين هم في الحقيقة يعزمون منذ البداية بغالبيتهم القصوى على الهجرة نحو ألمانيا، لتصبح كليات الطبّ في الحقيقة مجرّد مصانع مناولة ليد عاملة في المستشفيات الأجنبيّة، وليجعلنا ذلك نعتقد أنّ هذه الأكاديميات هي في الحقيقة مجرد دينصورات بعيدة كلّ البعد عن الواقع الصحي للبلاد، وأنّ كلّ ما تفعله هو استيراد المعارف والمناهج التربوية من الخارج دون أن تكون ملائمة ولو بقدر ضئيل لحاجيات البلاد وخصوصياتها ووضعيتها الاستثنائية جدّاً، بل الأدهى من ذلك أنّ المناظارات الطبية التونسية هي الأشدّ صعوبة على الإطلاق مقارنة بأنظمة صحية تفوق تونس تطوراً بسنوات ضوئية كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، إذ إنّ ألمانيا مثلاً تفتح أذرعها لاستقبال أطباء/ات من الخارج تتكفّل بتكوينهم في جميع الاختصاصات دون مناظرة أصلاً بمرتّبات هي الأفضل على الإطلاق وبانتداب مباشر فور تخرّجهم، بينما تغلق تونس الأبواب في وجوههم، تونس هذه التي تستجيب بالكامل لمثلها الشعبيّ القائل: «عريان الزكّ في صبعو خاتم».

أتوقف عند هذا الحدّ، لأضع بين أيديكم بعض الإحصائيات، رغم أنّها في الحقيقة، لا تساوي شيئاً أمام واقع معيش يومياً بتفاصيل لا يمكن حصرها في أرقام أو نسب مئوية:

– وفق إحصائية قامت بها وزارة الصحة في شهر مارس (آذار) 2021، انتقل عدد المستشفيات الجهوية من 33 مستشفى سنة 2009 إلى 31 مستشفى سنة 2017 وعدد المستشفيات المحلية من 109 إلى 108.

– ستة أطباء من معتمدية فوسانة – ولاية (محافظة) القصرين- في شهر ديسمبر (كانون الأوّل) من السنة المنقضية أقدموا على تقديم استقالة جماعية.

– هاجر سنة 2021 أكثر من 970 طبيباً تونسيّاً للعمل في الخارج، مقابل 570 فقط  سنة 2018، وفق ما أدلى به الكاتب العام للعمادة الوطنية للأطباء، والذي أكّد أنّ العدد المصرّح به أقل بكثير من العدد الفعلي.

– توقف انتداب الأطباء/ات بصفة رسمية منذ سنة 2018 والآن يقع تشغيل البعض منهم وفق عقود عمل لا تمكّن من ترسيمهم أو تمتيعهم بأبسط حقوقهم الاجتماعية.

– وصل عدد الأدوية المفقودة في حدود شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 إلى 532 دواء مقابل مائتين فقط في حدود شهر فيفري (شباط) من العام ذاته. 

– تشهد الصناديق الاجتماعية في تونس تفاقماً في عجزها المالي، وقد ذكر عبد الكريم جراد الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، أن عجز الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يقدر بـ1200 مليون دينار لسنة 2021 أي بمعدّل مائة مليون دينار شهرياً، ومن المرجح أن يرتفع هذا العجز إلى حدود 1400 مليون دينار سنة 2022.

– تسجل تونس ما يقارب الألف اعتداء سنوياً على الإطارات الطبية وشبه الطبية، وقد رفعت وزارة الصحة 400 قضية إلى المحاكم سنتي 2015 و2016. ورغم غياب الإحصائيات الدقيقة في هذا الشّأن في السنوات اللاحقة، إلّا أنّ هذا الرقم لا شكّ أنّه تزايد مؤخراً، في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص بعد انتشار وباء كورونا وتزايد عدد الوافدين إلى أقسام الاستعجالي من مرافقي مرضى بحالات خطرة.

ختاماً، لا أعتقد أنّ واقع الصحة في تونس في الآونة الأخيرة يختلف اختلافاً كبيراً عن بقيّة القطاعات، إذ لا يخفى على أحد أنّ تونس ما بعد الثورة وإلى حدّ هذه اللحظة تعاني تدهوراً شاملاً ومتداخلاً بين مختلف قطاعاتها، بل إنّ تدهور كلّ قطاع هو ذاته سبب ونتيجة لتدهور قطاعات أخرى، كأن يتسبّب الاقتصاد الموازي في مزيد إفلاس الصناديق الاجتماعية، أو يتسبب التهريب في تصحّر الصيدلية المركزية، أو كأن يتسبب انهيار التعليم وتزايد الانقطاع المبكر عن الدراسة في ارتفاع منسوب الجريمة، أو كأن يتسبب المال السياسي والسياحة الحزبية في انهيار الدينار وتفاقم الهجرة «الشرعي» منها أو السريّ، أم كأن تتسبب الانتدابات العشوائية في الوظيفة العمومية منذ سنوات في إثقال كاهل الميزانية العامة وتجميد الأجور والانتدابات فيما بعد، ومن ثمّ خلوّ المستشفيات من الأطباء… إلخ. 

لا يمكننا الحديث عن راهن نُريد حصره في شهر أو شهرين، في سنة أو سنتين، فالشيء الأكيد أن تونس منذ 2011 تنزلق في منحدر لا نهاية له رغم كلّ التقلبات السياسية الظّاهرة منذ ذلك الحين وحتّى مرسوم 25 جويلية (تمّوز) وتجميد البرلمان فيما بعد. فهذا الراهن ليس في الحقيقة سوى نفق طويل تتفاقم كوارثه يوماً بعد يوم وفق قانون بسيط وبدائي هو قانون السبب والنتيجة، في غياب أيّ فعل سياسي أو أيّ مبادرة سياسية حقيقية، فالسياسة في تونس لم تَعنِ أبداً إدارة الشّأن العام، بل هي منحصرة بالأساس في شيء واحد هو التقاتل على مراكز النفوذ، بكلّ الأساليب الممكنة بتصفيات سياسية لا تنتهي وصلت إلى الاغتيال السياسي، مع فارق بسيط، وهو أنّ الأزمة الرئيسية في تونس، والتي هي على الأرجح أزمة سلطة بامتياز، كانت في ظلّ حكم الحزب الواحد في عهدي كلّ من بورقيبة وبن علي أقلّ حدّة مما هي عليه الآن، وكان من الممكن تسيير شؤون البلاد والحفاظ على حدود استقرار دُنيا عن طريق اللجوء إلى إطارات دولة لديها الحدّ الأدنى من الجدية والكفاءة، رغم الطابع الاستبدادي للحكم إجمالاً. أمّا الآن، وعلى مدى العشرية الأخيرة، فقد فشلت الطبقة السياسية بمختلف أطيافها وعلى رأسها الأغلبية البرلمانية المتمثلة في الإخوان المسلمين فشلاً ذريعاً سواء فيما يُسمّى بالانتقال الديمقراطي أو في إدارة أبسط شؤون البلاد، بل إنّنا أصبحنا عاجزين عن الإقرار بأنّنا يمكن أن نطلق على تونس صفة دولة أساساً. فإلى جانب تفتت مراكز السلطة بين برلمان متصف بالسياحة الحزبية وتوزيع المناصب بعقلية الغنيمة، وبين حكومات هشة سريعة التكوّن وسريعة السقوط ورئاسة دولة متأرجحة ومتقلبة في قراراتها، أصبحنا نشهد تهديداً كاملاً للنسيج الاجتماعي التونسي لم تكن لتشهده البلاد في أحلك فتراتها.

وإن كان عليّ أن أوجز حالة قطاع الصحة أساساً، في فقرة واحدة، أنا طبيب الصحة العمومية الذي واكبَ عن قرب شديد الواقع الصحي في تونس منذ سنوات تربصاته كطبيب داخلي، فإنّ ما سأقوله لن يكون سوى الآتي:الصحة العموميّة في تونس أشبه بالحرب الأهليّة، لا أحد يعرف كيف تبدأ ولا أحد يعرف كيف تنتهي، الجميع يتحوّلون يوميّاً وفي الآن ذاته إلى مُسعفين وقتلة ومقتولين وحفّاري قبور. الحرب الأهليّة قد تدوم سنوات طويلة دون أن يستوعب النّاس أسبابها أو نتائجها. لكن، في لحظة من اللّحظات فقط ومثل من يفيق من سبات عميق أو مثل من يزول عنه مفعول السّحر، يبدأ الجميع في الاستيعاب ومن ثمّ الشّعور بالصّدمة ومن ثمّ الشّعور بالذّنب. هناك من ينهار، لكن هناك أيضاً من يحسّ وكأنّه تعرّضَ إلى شحنة كهربائيّة قويّة ولذلك يشمّر عن ساعديه ويحاول إعادة بناء البشر فوق أنقاض الموتى. هذه اللّحظة الفارقة، رغم أنّها صادمة ومذهلة إلّا أنّها ما تزال بعيدة جدّاً عن التّحقيق في تونس، إذ أنّنا ما نزال في صلب الحرب الأهليّة، تحت مفعول الخدر والسّحر. كلّنا مُسعفون وقتلة ومقتولون وحفّارو قبور.