الصبر هو السمة الأشهر في الخيال الديني لشخصية أيوب.

«يا صبر أيوب» جملة يكررها الكثيرون عند الحاجة لاستدعاء طاقة لا حدود لها من الصبر أمام آلام وضغوط لا تُحتمل.

«يا صبر أيوب» عبارة استخدمها الكتاب والشعراء في سياقات أدبية وتاريخية مختلفة.

لكن المثير للانتباه أن السِّفر الكتابي الذي يحمل اسم «أيوب» يقدم صورة مركبة ومعقدة عن شخصية أيوب، وعن ردة فعله للآلام الفظيعة التي تعرّض لها. فالنصّ الكتابي يحكي بالفعل عن أيوب الذي لا يقبل فقط الكوارث واحدة تِلو الأخرى، بل يقدم الشكر والسجود لله على الرغم من كل بلاياه. لكن هذه ليست القصة بأسرها. ففي حين يكرّس السِّفر فصلين لتشخيص أيوب الصبور (أيوب 1-2)، يخصِّص ما يقرب من تسعة عشر فصلاً لتقديم شكوى أيوب لله عن الظلم الذي تعرّض له، ولوصف صراع أيوب مع أصدقائه لإثبات أنه بريء ولا يستحق الآلام التي أطاحت بعالمه المثالي.

لماذا يُهمل قرّاء السِّفر صورة أيوب الثوري؟

وماذا يخسر المنظور اللاهوتي المتعلق بالشأن العام من إخماد ثورة أيوب؟

وكيف يمكن إحياء الشعور بالمشاركة في صنع العدل عبر إطلاق كلمات أيوب حرةً، خارج قضبان التصور الأحادي أن تَقوى الصبر هي التقوى الوحيدة المقبولة، وأنها أكثر إيماناً من تقوى الثورة والشكوى؟

* * * * *

لا يحتاج قارئ سِفر أيوب أن يصبر كثيراً حتى يلتقي بالوجه الآخر لأيوب المتألم، أيوب الثوري. ففي الفصل الثالث من السِّفر، لعن أيوب يوم ميلاده، وتمنى لو لم يولد حتى لا يرى هذا الشقاء. وعندما نصحه صديقه أليفاز بأن يضع ثقته في الله الذي «يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ. يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ» (5: 18)، واصفاً الصبر كدواء لجروح أيوب، نجد أيوب يرفض هذه النصيحة، مؤكداً على أنه لا يمتلك القوة حتى ينتظر أو يصبر (6: 11-13). ليس فقط أنه لن يصبر، لكنه لن يصمت. يقول أيوب: «أَنَا أَيْضًا لاَ أَمْنَعُ فَمِي. أَتَكَلَّمُ بِضِيقِ رُوحِي. أَشْكُو بِمَرَارَةِ نَفْسِي» (7: 11). وعندما اتهمه صديقه بلدد أن هذه الآلام هي نتيجة لخطية أو إثم ما قد اقترفه أيوب، نجد صرخات أيوب تتحول من صرخات الألم إلى صراخ إعلان البراءة، مؤكداً أنه لم يفعل أي شيء يستحق عليه هذه الكوارث (9).

ولأنه يعتقد أن ما حدث له ظلم، نجده يُطلق شكواه (10: 1)، مطالباً أن يذهب إلى المحكمة مع الله حتى ما يتمكن من الدفاع عن نفسه (9: 32). وأمام إصرار صديقه صوفر أن ما جرى لأيوب عدل، وأن على أيوب أن يتوب حتى تُرفع البلوى عنه، اتهم أيوب أصدقاءه بأنهم يدافعون عن الله بالباطل (13: 6-8)، مجدِّداً عزمه على عدم الصمت ومواصلة الشكوى مهما كلفه الأمر (13: 13).

من الواضح أن صورة أيوب المشتكي (23: 2-4)؛ أيوب الباحث عن العدالة في وجه الظلم؛ أيوب المتمرّد على الأجوبة النمطية لمعاناة البشر، حاضرة بصورة كبيرة في السِّفر. لكن لماذا جرى اختزال شخصية أيوب وتقواه في صفة الصبر؟

يعود ارتباط سمة الصبر بشخصية أيوب إلى رسالة يعقوب في العهد الجديد. ففي الفصل الخامس من السِّفر، يشجّع الكاتب القراء على المثابرة والصبر أمام خبرات الألم المريرة، محفزاً إياهم على التمثل بالأنبياء، ويخص بالذكر أيوب كنموذج للصبر:

خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالًا لاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ.

هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ

(يعقوب 5: 10-11).

يعتقد العديد من مفسّري رسالة الرسول يعقوب أن سمة الصبر المرتبطة بشخصية أيوب هنا ترجع في الأصل لسِفر غير كتابي معروف باسم «عهد أيوب» (Testament of Job)، وهو نص يرجع إلى زمن ما بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي. David Desilva, The Jewish Teachers of Jesus, James, and Jude: What Earliest Christianity Learned from the Apocrypha and Pseudopigrapha (Oxford: Oxford University Press, 2012), 237-251. في حين يقدم السِّفر الكتابي أيوب الصبور وأيوب المشتكي، يركز هذا السِّفر غير الكتابي فقط على سمة الصبر عند أيوب. وعلى ما يبدو، كان كاتب رسالة يعقوب يعرف هذا التقليد النصي الذي أهمل صورة أيوب المشتكي وجعل من الصبر الذكرى الوحيدة المعروفة عن أيوب المتألم.

وعلى الرغم من أن الكلمة اليونانية هيبوموني υπομονή المستخدمة في يعقوب 5:11 قد تعني «المثابرة» أو «الصمود»، إلا أن ترجمة الملك جيمس الإنكليزية ترجمتها إلى patience أي «الصبر»، وهي نفس الترجمة التي اختيرت في ترجمة فانديك-البستاني. لعبت هذه الترجمات دوراً محورياً في تشكيل صورة أيوب الصبور في الفكر اللاهوتي عند الكثيرين، مما أدى إلى إهمال صورة أيوب المشتكي والثائر على الظلم.

بالإضافة إلى التقليد النصي المذكور أعلاه، توجد أسباب أخرى أسهمت في تهميش صورة أيوب الباحث عن العدل من الله ومن الناس. قد تأخذ هذه الأسباب وجهاً لاهوتياً-إيمانياً، وقد تنشأ عن خبرات سياسية واجتماعية، لكن البعدين – اللاهوتي والاجتماعي، أو الإيماني والسياسي – لا ينفصلان. ففي كثير من الأحيان يمارس الإنسان الخنوع في حياته الإيمانية لأن خبراته الاجتماعية والسياسية لم تسمح له بممارسة الاعتراض أو الشكوى على الظلم الواقع عليه. فمن لم يتدرب على التعامل مع ذوي السلطة بوصفه شريكاً لهم في صنع القرار؛ ومن لم يتدرب على تكوين منظور نقدي عن الواقع، والقيام بدور فاعل في تقديم تصورات للخروج من مآزق الحياة، قد يخلط هذه التجارب الدنيوية مع رموز السلطة (الآباء، المعلم، الحاكم، المدير، إلخ) مع التصورات عن السلطان الإلهي. والعكس صحيح، ففي أوقات كثيرة يُستخدم الفكر اللاهوتي أو الديني لإخماد أي محاولات للثورة على الواقع، فيروّج العديد لفهم خاطئ عن الإيمان بالسلطان الإلهي على أنه متضادّ مع الدور البشري في مقاومة الظلم وتأصيل العدل، ويتم إقناع المتعبدين بأن لغة الشكوى تعكس إيماناً ضعيفاً، بينما الرضا بالواقع، حتى لو كان ظالماً، والشكر عليه، خاصة في وقت الضيق، يدل على إيمان عميق وروحانية سامية.

إن ما يربط بين التجارب الاجتماعية والسياسية والروحية والإيمانية التي تقود إلى كبت صوت الإنسان المظلوم الباحث عن العدل، سواءً داخل الدوائر التقوية أو الدوائر الاجتماعية والسياسية، هو منظور ما عن مكانة الإنسان في المنظومة الإلهية للكون. هذا ما توصَّل إليه أيوب في آخر كلمات له في حواره مع أصدقائه: هل الانسان، وخاصة المتألم والمظلوم، غير ذي قيمة ضمن المنظومة الإلهية للكون؟ أم أن له مكانة كبيرة في الخليقة، وهذه المكانة تجعله مشاركاً في النظام الإلهي، سواءً عن طريق إقامة العدل للمستضعفين أو مقاومة الظلم؟

* * * * *

في آخر خطبة لأيوب (أيوب 29-31)، تكرر أفكار قام بطرحها أيوب سابقاً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يؤكد أيوب أن ما اختبره من ألم ظلم، وأنه لا يستحق هذه التجارب المريرة (31: 5-8). لكن الجديد في خطبة أيوب الأخيرة، وما قام أيوب بتكراره عدة مرات في نفس الخطبة، هو قضية إنصاف الفقراء والمُعْوِزين والمهمَّشين.

كان الكل يهاب أيوب لأنه أنقذ «الْمِسْكِينَ الْمُسْتَغِيثَ وَالْيَتِيمَ وَلاَ مُعِينَ لَهُ» (29: 12)؛ قام أيوب بإنصاف الأرامل، مما جلب السرور لقلوبهن (29: 13)؛ كان أيوب عيوناً للعُمْي، أرجلاً للعُرْج، أباً للفقراء (29: 16)؛ بل هو هشّم أضراس الظالم (29: 17).

من جهة، تهدف سلسلة أعمال العدل والرحمة التي يسردها أيوب (31: 13-23) إلى التأكيد على أنه إنسان بارّ وعادل، وعلى أنه ابتعد عن الظلم لأنه يعرف أن الله إله ديّان، وقاضٍ يُجازي الأشرار على ظلمهم (31: 5-6، 13-15). لكن ثمة هدف آخر وراء هذه الكلمات: أيوب يسعى لكشف الخلل الموجود في الكون. هو لا يستحق هذا الظلم، وفي ذات الوقت يسعى للربط بين معاناته الشخصية ومعاناة الفئات المهمشة في المجتمع. فسقوط إنسان بارّ وعادل مثل أيوب ليس كارثة شخصية، بل كارثة مجتمعية. فمن سيقف مع المظلوم، ومن سيجابه الظالم، كما فعل أيوب؟

في الماضي كان أيوب فاعلاً للعطف والإحسان والعدل والرحمة. ولكن بعد الظلم الواقع عليه، اهتزت صورة أيوب ليس فقط في الدوائر الاجتماعية التي كان له تأثير فيها، ولكن اهتزت أيضاً في تصوره عن هويته كإنسان، فالظلم جعله يرى نفسه «تراباً ورماداً»، أي أشياء بلا قيمة.

من المثير للانتباه أن الكلمتين «تراب ورماد» اللتين استخدمها أيوب لوصف حالته كإنسان يختبر الألم؛ الظلم؛ الإحباط من عدم وجود من ينصت إلى صراخه وأنينه (30: 19-20)، استُخدمتا معاً في مكانين آخرين في العهد القديم. فقد جاءت هاتان الكلمتان في كلام إبراهيم مع الإله في الفصل الثامن عشر من سِفر التكوين، وكذلك في سِفر أيوب في الفصل الثاني والأربعين، بعد أن استمع أيوب للخطبة الإلهية الثانية. وفي صدد تدمير سدوم وعمورة بسبب خطاياهما، يتكلم الإله مع عبده إبراهيم عن الدينونةِ المزمعةِ الوقوع على هاتين المدينتين. وبسبب وجود لوط وأهله في وسط سدوم وعمورة، هَمَّ إبراهيم للتوسُّط بالنيابة عن الأبرار المقيمين في المدينتين، مخاطباً الإله:

أَفتُهلِكُ البَارَّ مَعَ الأَثِيمِ؟ … أَدَيَّانُ كِلِّ الأَرضِ لَا يَصنَعُ عَدلَاً؟ (تكوين 18: 23-26).

على ما يبدو أدرك إبراهيم أنه في كلامه وفي مواجهته للإله قد تخطى حدوده كإنسان، لذا نجده يقول:

إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ (تكوين 18: 27).

لكن على الرغم من إدراك إبراهيم لنفسه أنه تراب ورماد، إلا أنه استمر في طلبه من الإله أن يقيم عدلاً مميِّزاً بين البارّ والشرّير. أي إن الكلمتين «تراب ورماد» تم استخدامهما هنا في سفر التكوين للكلام عن الطبيعة الإنسانية، وذلك في صدد الدور الإنساني في إقامة العدل عن طريق الدخول في حوار مع الإله حول منظومة الخليقة. 

ويبدو أن هذا ما يدور في السياق الخاص بالكلمتين عند استخدام أيوب لهما في أيوب 30: 19 و 42: 6. ففي أيوب 30: 19، ولأن الإله لم يجب أيوب، ولأن أيوب لا يرى عدلاً في حياته، فإنه نظر للهوية الإنسانية كشيء هامشي في منظومة الخليقة. ولكن ربما يكون هناك معنى جديد لـ«التراب والرماد» في عرض رد أيوب بعد الخطبة الثانية للإله. في 42: 6 يقول أيوب «أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ».

تأتي هذه الكلمات في نهاية رد أيوب على الله بعد الخطبة الإلهية الثانية. يعلن أيوب في إجابته على الإله أنه خرج من هذا الحوار بفهم جديد. ويعتقد بعض المفسرين أن هذا الفهم الجديد هو فهم لطبيعته الإنسانية داخل المنظومة الإلهية للخليقة. Balentine, Samuel E. Job. The Smyth & Helwys Bible Commentary. Macon, Ga.: Smyth & Helwys Pub, 2006.وبالرجوع للمعاني المختلفة لكلمات أيوب في الآية السادسة من الفصل الثاني والأربعين، يمكن للكلمات الأخيرة أن تعني: أغيّر فكري عن التراب والرماد. أي إن ما تغير في فكر أيوب بعد خبرة الألم؛ بعد الصراع مع الأصدقاء؛ بعد الحوار مع الإله، هو أنه وعلى الرغم من آلامه، إلا أنه في صموده واستبساله وبحثه عن العدل وسط الظلم وجد فهماً جديداً لكون الإنسان تراباً ورماداً. نعم، في آلامه وفي حيرته، اعتقد أنه تراب ورماد، أي بلا قيمة، لكن في ضوء ما أعلنه الإله عن نظام الكون، اكتشف أيوب أن الانسان، حتى وإن شعر بالوهن والضعف أمام أسرار الكون المحيطة به، يكتشف بصراعه وصموده من أجل العدل معنىً جديداً للحياة، يخرج من رَحِم الموت؛ كما يكتشف معنىً جديداً للرجاء، يخرج من تحت حطام اليأس.

* * * * *

بينما يحاول تاريخ تفسير سِفر أيوب إخماد ثورة أيوب وسعيه للعدل عن طريق اختزال سيرته في سمة الصبر، نجد أن كلمات الشكوى تُدوّي عالية، داعيةً الكل لا إلى أن ينصتوا لها فقط، بل أن يتشبثوا بها ويتشبّهوا بناطقها في سعيه لمواجهة الظلم وإقامة العدل.

ومقابل التقليل من شأن روحانية الشكوى، بإعطاء أولوية وأفضلية لروحانية الرضا والشكر، تُعطي كلمات أيوب الموجَّهة لله بُعداً روحياً جديداً ومجدِّداً لأهمية الصدق في حياة التقوى والصلوات والابتهالات. فتقوى أيوب الشاكر لا تزيد عن تقوى أيوب الثائر، بل إن تقوى أيوب الثائر تؤكد على أن قول الصدق أمام الإله أَقوَم بكثير من التلوُّن بتقوى الشكر في الكلمات بينما يريد القلب أن يشتكي.

الكثيرون يقلّلون من أهمية الصلوات والابتهالات والحوارات الصادقة التي تعبّر عن الشعور بالظلم، زاعمين أنها لن تأتي بأية نتيجة، إلا أن خبرة أيوب تكشف أن هذه الحوارات الصادقة مع الأصدقاء ومع الله تساعد على اكتشاف معنى جديد لكون الإنسان شريكاً في صنع العدالة.

يحاول البعض تقييد حجةَ كلِّ أيوبٍ ثائر، لكن كلمات الشكوى تجد طريقها خارج قضبان الهيمنة، ساعيةً لاسترداد للإنسان لصورته كفاعل وعامل على التغيير.