نرى ونسمع يومياً عن انتهاكات يرتكبها رجال بحق نساء على مستويات مختلفة، تبدأ بانتهاك حقوق أساسية عديدة، ولا تنتهي بانتهاك حق الحياة نفسه في حالات كثيرة. تعيش النساء في مجتمعاتنا صراعاً يومياً للحفاظ على سلامتهنّ، ولخلق بيئة آمنة ومسالمة تحميهنّ، وذلك على اختلاف توجهاتهن السياسية والاجتماعية والدينية، وبأساليب نضالية متنوعة.
وفي كل مرة يتم فيها طرح قضية الانتهاكات بحق النساء في الأوساط السورية، تشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بنقاشات وحوارات عاصفة. وفي مقابل من يصطفون مع الضحية ويحاولون دعمها، يتحدّث آخرون عن ضحايا للتضامن النسوي ويحاولون شيطنة النسوية وتحميلها مسؤولية الفجوة العميقة التي تسببها «راديكاليتها» بين الرجال والنساء، على اختلاف الوسط الاجتماعي أو الثقافي الذي يتم فيه هذا النقاش.
ولكن، هل النسوية السورية راديكالية فعلاً؟ وهل للنسوية السورية ضحايا؟
راديكالية النسوية السورية
عند ارتكاب أي انتهاك يثير جدلاً ويستدعي مواقفَ تضامن نسوي، يقفز مصطلح الراديكالية لوصف هذا التضامن. وقد أصبحت هذه الآراء حاضرة بشكل أوضح في أوساط ثقافية وسياسية كانت تُعوّلُ عليها كثيرات من النسويات في نضالهن، بحيث يتم تعزيز الإحساس بالمظلومية الذكورية، وتُقدَّم النسوية كحملة موجهة لتشويه السمعة والنيل من أشخاص بعينهم. وبدل المبادرة إلى طرح حلول للوقوف في وجه التجاوزات، يضع بعض الرجال أنفسهم في موقع من يخوض مواجهة مع النسوية، حتى لو تطلّب ذلك عدم الاعتراف ببشاعة فعل الانتهاك ورفض الاعتذار وإنكار حق الضحية بفضح ومحاسبة المُنتهِك.
يضع بعض الرجال أنفسهم إذاً في الطرف المقابل، أو حتى المُعادي، للنسوية بحجة راديكاليتها، ولكن إذا كان بعض الرجال السوريين يرون أن النسوية السورية راديكالية حقاً، فعلى ماذا يستندون بالضبط؟ وأي معنى من معاني الراديكالية هو الذي يتم إسقاطه على النسوية السورية؟ هل يقصدون الراديكالية بالمعنى السياسي، أي أنهم يرون في النسوية فعلاً يهدف إلى تغيير ثوري جذري ونهائي؟ أم أن المقصود هو المعنى الذي تبنّته النسوية في موجتها الثانية، عندما اعتبرت أن جذر عدم المساواة بين الرجال والنساء قائمٌ في النظام الأبوي الذي يعطي الرجل امتيازات جعلته يؤمن أن تفوقه على النساء استحقاقٌ فطريٌ لا علاقة له بالثقافة الذكورية؟
حاولتُ فعلاً أن أفهم في أي سياق يتم توصيف النسوية السورية بالراديكالية، غير أنني لم أجد إجابة واضحة لأن الأمر يأتي غالباً في سياقات ترمي عبارة «راديكالية النسويات» في الحيز العام دون أي جهد لتفسيرها. لكن ما استطعتُ استنتاجه من السياق العام الذي يتم فيه تداول الراديكالية النسوية على وسائل التواصل الاجتماعي هو أن المقصود أقربُ للراديكالية بمفهومها السياسي العام لا النسوي، أي أن الكثير من الرجال يرون أن النسويات ينتهجن مبدأ التغيير الجذري بأساليب ثورية قد توصف بالعنف والقوة والمباشرة. نسمع آراء عديدة تقول إن ردود الفعل النسوية فيها كثيرٌ من العنف الموجه ضد الذكور، وإن هذا العنف لن يؤسّس لعلاقة صحية يكون فيها الرجل حليفاً حقيقياً. يتحدثون أيضاً عن ثقافة كارهة للرجال، ويتم توصيف النسوية السورية على أنها غير مرنة وتسعى للصدام لا للحوار، تاركة وراءها ضحايا من رجال كانوا حلفاء محتملين. وعادة ما تكون هذه الآراء موجهة ضد فكرة «العزل الاجتماعي»، التي تتبناها النسوية كأداة نضالية لوضع حد للمنتهكين والوقوف في وجه التطبيع معهم.
استناداً إلى هذه التوصيفات للنضال النسوي، فإن السؤال الذي يجب علينا مناقشته بعمق هو: إذا لم يكن خيار الراديكالية هو الخيار المناسب في ظل ما تعيشه سوريا، تُرى كيف يرى أصحاب هذه التوصيفات شكلَ النسوية الأنسب الذي يجب أن تتبناه النسوية السورية اليوم؟ وفي ظل الراديكاليات المتعددة في سوريا، لماذا يُطلب من النسوية أن تتخلى عن راديكاليتها؟ وكيف يمكن لنساء كُنَّ شاهدات على بيع بنات جنسهن في سوق للسبايا في القرن الواحد والعشرين، وشاهدات على انتهاكات وجرائم يومية تمرّ دون حساب، أن يحملن قضيتهنّ دون راديكالية لها مخالب وأسنان؟ هل يوجد في العالم اليوم، ورغم كل الجنون الذي وصلنا إليه على جميع المستويات، مجموعة نساء تبيع مجموعة رجال بهدف استعبادهم جنسياً؟
يتعامل كثيرٌ من الرجال السياسيين والمثقفين، وذلك منذ عصر النهضة وبدء ما يسمى بـ«الحركات النسوية العربية» حتى الآن، مع قضايا المرأة والاصطفاف إلى جانبها كنوع من العطاء يجب على النساء الاحتفاء والاكتفاء به. لذلك نجد أن بعض الرجال، عندما يريدون الدفاع عن أنفسهم أمام أي قضية يُتَّهمون فيها بعدم احترامهم للنساء، يقومون بتذكيرنا أن النساء في عائلاتهم أو محيطهم يتمتعنَ بشيء من الحرية، وأنهم يشجعونهنّ ولا يمنعونهنّ، وهذا دليله على نسويتهم. كذلك تفعل الأحزاب والتيارات السياسية عند التعاطي مع دور المرأة في الحيز العام، دون ملاحظتهم لحجم الوصاية الذكورية والخلل في طرح كهذا.
قد تُجسّد المواقف وردود الأفعال هذه تجاه النسوية خوف بعض الرجال من تمدد وقوة النسوية، كما قد تجسد خوف الرجال من سحب الامتيازات الذكورية التي يتمتعون بها على حساب اضطهاد النساء. لكنه في رأيي ربما لا يكون خوفاً بالمعنى المباشر عند بعض الرجال، بل قد يكون ارتباكاً لأن النسوية اليوم بدأت تُعبّر بشكل أوضح عن مفاهيمها ونظرياتها وفلسفتها، ولأن الرجال بدأوا يدركون أن النسوية لا تسعى لسحب الامتيازات التي لا تحقق مساواة اجتماعية وسياسية وحقوقية وحسب، وإنما تسعى وراء إنهاء الامتياز الذكوري الذي بُني وتجذر على أساس نظام أبوي شكَّلَ ثقافةَ تفوّقِ الرجال على النساء، على نحو يجعلهم لا يرون الحق وراء جذرية النسويات في نضالهنّ لوضع حد لهذه الثقافة المؤذية والمخيفة.
هل للنسوية السورية ضحايا؟
قد يكون من المفيد أيضاً مناقشة سؤال: هل للنسوية السورية ضحايا؟ أم أن هناك نسويات سوريات استخدمنَ النسوية للنيل من أشخاص باتهامات غير محقة؟
هنا تحديداً دعونا ننقل النقاش إلى شكل الأدوات التي يجب أن تستند إليها النسوية في الدفاع عن قضيتها. كيف يمكن للنسويات أن يبنينَ رواياتهنّ بشكل منطقي يساهم في الدفاع عن حقوقهنّ وقضيتهنّ؟ وأي موقع للقانون وخطابه وإجراءاته في هذا السياق؟
تعيش النسويات السوريات اليوم ويبنينَ قضيتهنّ خارج حدود وطنهنّ، وخارج إطاره المجتمعي بالمعنى الجغرافي. وكمعظم القضايا الحقوقية والتحررية، تجد النسوية أن القوانين والقضاء في سوريا، كما في معظم دول العالم بنسب متفاوتة، غير صديقة للنسوية ولا ترى قضايا المرأة ولا حقوقها بعين نسوية. هذا أحد أهم المسارات التي تناضل النسوية لاختراقها، عبر النضال لجعل القضاء منصفاً وحامياً للرجال والنساء على حد سواء.
لكن إلى أن يكسب القضاء والقانون ثقة النسويات، ويكونَ الوجهة الأولى لإنصاف الضحايا من النساء، ما الذي يمكنهنَّ فعلاً القيام به سوى تبني أدوات نضال نسوية بالتوازي مع نضالهنّ النسوي القانوني؟ مثل «العزل الاجتماعي» و«الأختية» و«الفضح والتشهير» و«تصديق الناجيات»، وذلك عبر حملات المناصرة والسوشال ميديا، وغيرها من الأدوات التي تُمكِّنُ من بناء سرديات على أسس متينة ومتقنة، وهي بكل أشكالها أدوات نضال سلمي لا عنفي.
قد يجد البعض خللاً في تبني بعض هذه الأدوات، مثل تصديق الناجيات مثلاً، الذي يراه كثيرون متناقضاً مع أسس القانون الذي يتبنى مبدأ «المجرم بريء حتى تثبت ادانته». لكن هذا المبدأ الأخير بالذات كان سبباً في اضطهاد النساء وحرمانهنّ من العدالة في حالات كثيرة، لأنه رغم أهميته القانونية وضرورته لتحقيق العدالة القضائية، فإنه يعمل لصالح الأقوياء والمسيطرين في ظلّ خلل موازين القوة في المؤسسات والمجتمع. فما الأدوات التي يمكن للنساء استخدامها للحصول على العدالة ومحاسبة المنتهِك إذا كنّ لا يملكن الأدلة المادية التي يُشترط توفرها لاستكمال أي تحقيق، وحتى لفتحه أصلاً في المواضيع المتعلقة بالتحرش والاغتصاب وانتهاك الخصوصية بالذات؟
ما تزال النسويات لا يجدنَ خياراً آخر إلّا تصديق الناجيات، وفضح المتحرشين وعزلهم اجتماعياً، وذلك بانتظار أن تتغير الأوضاع حول العالم وتصبح النساء واثقات من حصولهّن على حقوقهنّ عبر القضاء. قبل أن تكون المحاكم صديقة للنساء ومفتوحة أمامهنّ دون شروط تعجيزية وانحيازات ذكورية، فإن لا خيار لديهنّ.
في ظل هذه الأوضاع الراهنة، المرأة الضحية اليوم هي صاحبة القرار، وهي من تقرّر إذا أرادت التحدَّثَ عن الانتهاك أم لا، تسمية المُنتهِك أم لا، وهي تقرّر جبر الضرر المناسب لتحقيق العدالة لها، وهي من تقرر الوقت المناسب لفضح المنتهك، وأين ستقوم بفضحه. وواجب النسويات والنسويين تصديقها، وتقديم الدعم لها، والوقوف بوجه التطبيع مع انتهاك المساحات الشخصية بالاستناد إلى تفوّق ذكوري، وتوجيه قضيتها قدر الإمكان باتجاه عادل لتفادي وقوع ضحايا لهذا النضال.
في الختام
نحتاج اليوم أن نُحوّلَ نقاش النسوية السورية من إطاره الضيق والمحدود في منشورات وتعليقات وصراعات على السوشال ميديا (على أهميته الشديدة)، إلى حوار حقيقي عملي ونظري ونقدي، يُدعى للمشاركة فيه مثقفون ومثقفات لتكوين آراء حول الكثير من التساؤلات، لنستطيع الإجابة عنها ومحاولة فهم أين تقع النسوية في الصراعات السورية المختلفة؟ أو حتى هل يوجد حركة نسوية سورية أم يوجد نسويات سوريات؟ وإذا كان هناك حركة نسوية سورية فما هي فلسفاتها ونظرياتها؟ وما هي تصوراتها التطبيقية في الحالة السورية مع كل التعقيدات المحيطة بها؟ هل يوجد رجل سوري نسوي؟ ما النظريات والفلسفات النسوية التي يتبناها وما هو الفعل النسوي الذي يضيفه للقضية النسوية؟
يمرّ النضال النسوي في كل العالم اليوم في مرحلة إعادة النظر في نظرياته وفلسفاته وأفكاره وحتى أدوات نضاله، فاليوم أكثر من أي وقت مضى تضع النسوية نفسها أمام حالة نقدية عميقة، وتضع أدوات نضالها وتُجرِّبُها بطرق تفرض الاستماع لها بصخبٍ يجعل الجميع يدركون أن هذه القضية حقيقية، واقعية، وملحّة، ولم يعد من الممكن تأجيلها ولا المهادنة في استحقاقاتها، ولم يعد مقبولاً الاستخفافُ بها.