تطوّرَ عدد الجمعيات في تونس بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير. فلم يتجاوز عددها 228 جمعية في 2010، بالإضافة إلى دورها الضعيف نتيجة التضييقات التي مارسها النظام السابق. بعد الثورة، مال المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيات إلى فسح المجال وتسهيل تكوين الجمعيات، فلا يتطلّب تكوين جمعية سوى أن يقوم مسيّروها بالإيداع لتكتسب الشخصية المعنوية لاحقاً دون قيد. ولا يقتصر الموضوع فقط على حرية تأسيس الجمعيات، فالمجتمع المدني فضاء لممارسة مجموعة من الحريات كحرية التنظّم والتعبير والمرافقة والمساءلة والاجتماع. أثّرَ هذا الانفجار الكمي والنوعي في توسيع مجالات تَدخُّلِ الجمعيات وأدوات عملها وتنوّع مصادر تمويلها وحجم التمويلات وتفرّع عمليات التشبيك في الداخل والخارج. هذا وقد اتجه الحديث بعد إصدار المرسوم نحو ضرورة التأسيس لعمل الجمعيات وتنظيمه في سياق الانتقال الديمقراطي وهيكلة هذا المسار وتعزيز نجاعته، فلن نبقى في انتقال ديمقراطي مدى الحياة. منذ فترة، تتداول السلطة التنفيذية بشكل أحاديّ مشروع تنقيح للمرسوم عدد 88 يتضمّن إضافة بعض التعديلات وإضفاء مزيد من الرقابة على الجمعيات.

تَزامنَ الحديث عن تنقيح المرسوم 88 مع خطاب لرئيس الجمهورية قيس سعيّد يوم 24 فيفري (شباط) الفارط أمام مجلس الوزراء، يتوعّد فيه الجمعيات قائلاً: «هي في الظاهر جمعيات لكنها امتداد لقوى خارجية […] لن نسمح بهذا ولا مجال لأن يتدخّل فينا أحد، ولا مجال للتلاعب بالقوانين». لم يُخفِ قيس سعيّد توجّسه في علاقة بالتمويل الأجنبي مصرّحاً: «يجبُ أن نضع حدّا للتمويل الأجنبي للجمعيات لأنّه يُستخدم كغطاء لتمويل الأحزاب السياسية». لم أتوقّف طويلاً أمام خطاب قيس سعيّد وقتها، فهو لا يتقاطع بالضرورة مع مسار تنقيح المرسوم المستمرّ منذ سنوات. لكن السياق الذي تكلّم فيه رئيس الجمهورية ساهم في تغذية الكثير من المغالطات، سنخصّص لها جزءً كبيراً من هذا المقال، والتي لم يتوقّف الإعلام لاحقاً عن إعادة اجترارها بشكل دغمائي. يقوم خطاب قيس سعيّد على حشر بعض الموضوعات الشائكة ضمن ازدواجيات ضيّقة واختزالية. فلا تختلف الصورة التي يقدّمها عن الصورة النمطية التي قد يستسيغها أي كان دون محاولة للفهم أو التمحيص، فالجمعيات (جميعها؟) «تموّل الأحزاب» وهي «أذرع الخارج» وتقوم «بتبييض الإرهاب»، وبالتالي الرقابة أو الفوضى.

عندما اقتُرِحَ عليَّ كتابة هذا المقال، اتفقتُ وصديقتي أن نجعل من العمل ضمن هذا الملفّ رحلة بحث في الراهن، باعتبارنا وصلنا مُنعرجاً مربكاً وضبابياً في تونس. كان السؤال الأوّل الذي طرحته على نفسي هو كيف نُساهم عن طريق الكتابة في رفع التضليل وعرض هذا الراهن ضمن نقاش مفتوح وحرّ. ولا أقصد هنا الكتابة عن تنقيح المرسوم عدد 88 الذي لن يغادر الرفوف الوزارية ربّما، بقدر ما يمثّل هذا المنعرج برمّته فرصة جديّة للتفكير بصوت مسموع وتقديم شهاداتنا الحيّة من أجل فهم وتفكيك عدد من الأفكار الشائعة التي يطرحها عمل الجمعيات أو العمل داخلها وتشابكها مع السلطة. فهل التضييق على المجتمع المدني هو الحلّ؟

تنقيح المرسوم عدد 88: الخروقات والمغالطات

إن الحديث عن الخروقات في علاقة بعمل الجمعيات لا يحتاج تضليلاً كبيراً، إذ تتمحور هذه الخروقات حول عنصرين: الأول في علاقة الجمعيات بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال والثاني في تشابك المدني بالسياسي، ولا يخلو الحديث عن هذه الخروقات من التعويم، والأهمّ أنها لا تمثّل نقاطاً خلافية على مستوى نصّ المرسوم إذا ما اطّلعنا عليه. إذ يَحظرُ المرسوم، في نسخته الجاري العمل بها، دعم الجمعيات للأحزاب السياسية أو ممارسة أعمال تجارية أو أي شكل من أشكال الدعوة إلى العنف والكراهية (الفصل 4)، وبالتالي فإنّ الإشكال يتمثّل في ممارسة وتطبيق القوانين الموجودة وتدعيم الترسانة الإدارية والتنفيذية. فهل سيزيد مرسومٌ جديدٌ من قدرة الدولة على فرض احترام القانون؟ الإجابة هي بالتأكيد لا. فلم يمنع النص القانوني وصول نبيل القروي مرشح الانتخابات الرئاسية للدور الثاني بعد استعانته، لمدة سنوات وطوال الحملة الانتخابية، بجمعي«خليل تونس» لتعبئة أصوات الناخبات والناخبين. نبيل القروي الذي اشتهرَ بـ نبيل مقرونة (معكرونة) لتوزيعه المساعدات الغذائية والاجتماعية في عدد من المناطق الداخلية بالبلاد، تقدّمَ كافّة المرشحين، وقد تجاوز عددهم 25 مرشّحاً ومرشّحة، مُستغلاً في خطابه للرئاسة الفقر والجوع والهشاشة الاجتماعية والاقتصادية للأهالي.

خلال الندوة التي نظّمها مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية، يوم الأربعاء 27 أفريل (نيسان) 2022، حول «واقع وتحديات المجتمع المدني في تونس»، استعرضَ أمين غالي، المدير التنفيذي لمركز الكواكبي، التوصيات التي أسفرت عنها الدراسة التي قام بها المركز تحت عنوان «واقع المجتمع المدني في تونس» (لم تُنشر بعد) قائلاً: «ركّزت كافة التوصيات على ضرورة تعزيز تطبيق المرسوم وتحسين عملية التنسيق، وما راعنا بعد خمس سنوات أننا نحاول تغيير القانون». و«هل نغيّر المرسوم ولم يتمّ إنفاذه وتقييمه بعد؟»، هكذا تساءلت القاضية أنوار منصري إثر تقديمها مُخرجَات الدراسة. ربطت القاضية عدم إنفاذ القانون بضعف قدرة الدولة على ممارسة دورها الرقابي على كافة الجمعيات بكافّة الجهات. «يقوم 6 أعوان بمتابعة عمل آلاف الجمعيات، فأين يكمن الخلل؟ في أجهزة الدولة أم في الجمعيات؟»، هكذا طرحت أنوار منصري السؤال على المشاركات والمشاركين في الندوة مشيرة إلى حلّ أكثر من 190 جمعية وإحالة أكثر من 4000 أخرى على القضاء مما يعني أن آليات الرقابة تقوم بدورها لكنها ضعيفة. أما بالنسبة لمسألة تصنيف الدول في علاقة بخطر تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، فلا أحد يمكن أن ينكر الخطر الذي ساهمت فيه بعض الجمعيات لكن الإدارة العامة لمواجهة هذا الخطر، تقترح استبدال المرسوم بآخر، في حين اقترحت بعض الجمعيات فتح حوار مع البنك المركزي من أجل تحسين التصنيف وتعزيز مردودية الجمعيات في مجال المحاسبة والشفافية والحوكمة.

على المستوى الإداري، بدأنا نُلاحظ صعوبة في تكوين الجمعيات حتى قبل تنقيح المرسوم، كما أثّرَ المناخ السياسي الراهن على علاقة السلطة التنفيذية بمختلف الفاعلين في الفضاء المدني والعامّ. يعلّق أمين غالي قائلاً: «سيكون لهذه القرارات البيروقراطية تبعات على تصنيف تونس»، مضيفاً: «نحن نعمل جاهدين من أجل الإصلاح والبناء وما يروعنا إلا قدرة الدولة على الهدم». استوقفني هذا التصريح، كأنّني قُلته وسمعته سابقاً. منذ سنة، تحديداً إثر مقتل رفقة الشارني على يد زوجها حامل السلاح، وُجِّهت أصابع الاتهام إلى كريمة البريني رئيسة جمعية المرأة والمواطنة بمدينة الكاف وتم اتهامها بالتستّر ضمن ملابسات القضية. حينها، صرّحت بأنها تحسّ بالعجز نتيجة تخلّي الدولة التي اتّخذت منحى التخوين والتنكيل بالجمعيات بدل أن تضعها موضع الشريكة في التصدي للعنف المبني على النوع الاجتماعي. تَحوّلَ قتل رفقة الشارني إلى قضيّة رمزية ليس فقط بسبب ملابساتها كواحدة من جرائم قتل النساء المسكوت عنها، وهي كذلك جريمة قتل بسلاح الدولة، بل لأنها أيضاً جريمة تم التعامل معها بتواطؤ مباشر من أجهزة الدولة والمتعهدين العموميين في الصف الأوّل الذين توانوا في الالتزام بتعهّداتهم، فكانت لهم يدٌ في انحراف جريمة العنف الزوجي نحو القتل. مثّلَ قتل رفقة جريمة رمزية لنا نحن المتابعات لمسار تطبيق القانون عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد النساء، حيث ثَبّتت هذه الجريمة القطيعة التي دخلت فيها الدولة مع مكونات المجتمع المدني المستقلة والناشطة في المجال نفسه، وذلك نتيجة إفلاسها على المستويين التنفيذي والسياسي. هذه الممارسات التي تتّخذها السلطة القمعية في اتجاه أي سلطة مضادّة، والتي قد يمثّلها اليوم المجتمع المدني، لن تزيد إلا من إفلاس الدولة وقصور تدخّلها لفائدة النساء والأطفال والفئات الهشّة اجتماعياً.

يفترضُ مهدي الجلاصي، رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، أن الحديث عن وجود المجتمع المدني وعدم التضييق عليه أمرٌ بديهيٌ تجاوزته الممارسة الديمقراطية في تونس خلال العقد الأخير. فبالنسبة لمهدي، لا يمكن التراجع عن الفلسفة التحرّرية التي ألهمت النصوص القانونية بعد الثورة من بينها المرسوم عدد 88 والمرسوم عدد 115 المتعلّق بالصحافة والإعلام. عَرَفَ المجتمع المدني تحرّكات ضدّ عدد من القوانين والتشريعات أو السياسات الحكومية أو القرارات الرئاسية غير العادلة، من بينها حراك «مانيش مسامح» ضدّ مشروع قانون المصالحة المالية والإدارية. تمّ تمرير القانون بعد سنوات من المقاومة عرفها الشارع وانخرطت فيها الأطر المنظّمة وغير المنظّمة. يقول مهدي الجلاصي: «لم ننجح في الإطاحة بالقانون وهي نتيجة عادية في إطار الممارسة الديمقراطية، لكن إلغاء مؤسسات بجرّة قلم كالهيئات الدستورية المستقلة، أو التدخل المباشر في قوانينها أو في تركيبتها أو في عملها، فهذا يتنافى مع الديمقراطية ويقوّض نية الإصلاح، بل يعطي السلطة صلاحيات مُطلقة للتغوّل». تكمنُ الخطورة وفق المتحدث نفسه في تسرّب عملية التضييق نحو كافة مكوّنات المجتمع المدني، وهو ما حصل في سياقات سياسية موازية خارج تونس أو في فترات تاريخية سابقة. يواصل مهدي الجلاصي قوله: «أن تصبح هذه الندوة (مثلاً) مشروطة بطلب ترخيص بين عشية وضحاها من طرف الإدارة. هذا ما يتعرّض له حالياً “مواطنون ضدّ الانقلاب” بعدم تمكنهم من العثور على فضاء لممارسة نشاطهم»، أو كذلك تطويق شارع الحبيب بورقيبة برمزيّته وقمع المتظاهرين والمتظاهرات من قبل البوليس وهو ما تعرّض له معارضو/ات الرئيس في شارع الحبيب بورقيبة خلال الوقفة الاحتجاجية الأخيرة، والتي سبقت الاستفتاء بيومين. للردّ على ما حصل، أَقتبِسُ هنا ما جاء على لسان القاضية أنوار منصري التي صرّحت خلال نفس اللقاء: «لا يمكن الجزم بأن المجتمع المدني غير مسيّس فهذه واحدة من المغالطات الكبرى أيضاً. أما الخطر الذي ينتج عن منع الجمعيات ليس خطراً على الأفراد والحريات فقط، بل على الحكومات التي تفقد مشروعيتها».

المجتمع المدني ليس متجانساً، قد يشترك في بعض القضايا العادلة أو الخطوط العريضة ولكنّه يتقاطع في الشارع أو الفضاء العام والمدني باعتباره فضاءً مشتركاً وفضاءً للثورة أيضاً، ولا يمكننا العودة أو اختزال الفعل المدني في الحضور الفلكلوري لبعض الجمعيات أمام مربع المسرح البلدي، بمعلّقات وشعارات في مشهد قديم لا يقطع مع موروث حقبة بن علي التي ضيّقت الخناق على الجمعيّات والمنظّمات الحقوقيّة والنسويّة وقامت بتحويلها إلى ديكور للتسويق لتعدّدية وهمية. قدّمَ مهدي الجلاصي مثالاً ثانياً لا يقلّ أهمية في السياق الراهن: «فإلى جانب الجمعيات الحقوقية، تتعرّض جمعيات أحبّاء الأندية الكروية والرياضية إلى تضييقات بوليسية شرسة. فاحتواؤها لعدد من الشباب من الأحياء الشعبية بالعاصمة والمدن الكبرى وضواحيها رافقته اعتقالات واسعة وعنفٌ بوليسي ممنهج، يكفي هنا أن نذكر حملة #تعلّم_عوم إثر مقتل عمر العبيدي (…) تضجّ كواليس أحبّاء النوادي الرياضيّة بسيناريوهات ترهيبية بين الأمن والشباب المتمرّد على السلطة». هنا، يقول الصحفي والنقيب: «يتم زجّ المخدرات لدى الشباب للإيقاع بهم، كما يتمّ انتهاك أبسط حقوقهم عند الاحتفاظ بهم في مراكز الشرطة».

في تشابك المدني والسياسي

تأسست أول جمعية في تونس سنة 1896 وهي الجمعية الخلدونية، تلتها مباشرة جمعية قدماء الصادقية وهما جمعيتان ثقافيتان. ثم سرعان ما تجلّى الترابط بين المدني والسياسي. فمنذ البداية، ولئن نتحدّثُ عن السياق الاستعماري في البلاد، ساهمت الجمعيات في تبلور تصوّر ووعي سياسي مشترك ساهم في إفراز أولى الشخصيات الوطنية التي أصبحت فيما بعد قيادات أول حركة سياسية، وهي «حركة الشباب التونسي» سنة 1907. يقول عنها رامي عبد المولى في مقال سابق نُشر بموقع السفير العربي تحت عنوان المجتمع المدني في تونس: قرن من الوجود والصراع: «مثّلت شكلاً جنينياً من أشكال المقاومة المدنية التي ستمهّد لاحقاً لتُظهِرَ المقاومة السياسية وحتى المسلّحة». لطالما كانت العلاقة متينة ومتداخلة بين المدني والسياسي، ولعلّ من أبرز تجليات ذلك أن جميع الشخصيات الوطنية تحرّكت بين المساحتين. بعد الاستقلال، دخل الحزب الدستوري الجديد في قوائم موحّدة لانتخابات المجلس التأسيسي مع أكبر ثلاث منظمات مهنية وطنية، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد الوطني للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. بهذه الطريقة دخلت تونس مرحلة الحزب الواحد إثر حصول هذه القائمة الائتلافية على كافّة المقاعد وإزاحتها للحزب الشيوعي وللمستقلين. ثم مع دخول السلطة تحت شعار «بناء الوحدة الوطنية الصمّا»، تمّت محاولة تدجين كلّ المكونات المدنية وتحويلها إلى أبواق تعبئة لصالح الزعيم الأوحد، وهو ما سيُهيمن طوال الفترة المتبقية. هذا المشهد المُملّ كشريط قديم يُعرض خلال أيّام الأعياد المملّة يتكرّر دائماً مع تغيير طفيف على مستوى الشخصيات، إلاّ أنّ انحراف «المقاومة» وميلها إلى كفّة السلطة أعاد المشروعية لبقية التنظيمات المدنية بأن تتّخذ موضع المعارضة وتمارسَ دوراً رقابياً في وجه السلطة، التي انزلقت بشكل متواتر نحو مربع الاستبداد والدكتاتورية ولجأت إلى التضييق فوراً على الحريات العامة والفردية.

بعد الثورة، أثّرَ المرسوم عدد 88 في تغيير ديناميكية المجتمع المدني. إذ أثبت المجتمع المدني دوره على المستوى المحلي بانخراطه في الحوكمة المفتوحة والديمقراطية المحلية والتشاركية التي لا معنى لها دون دور ووجود المجتمع المدني والجمعيات. لعبت الجمعيات دور المحرّك محلياً وفق التصوّر الذي يرسمه الباب السابع من دستور 2014 المتعلق بالسلطة المحلية. فبالتزامن مع طرح مشروع اللامركزية في تونس وإصدار مجلة الجماعات المحلية، لقيت الديمقراطية المحلية رواجاً كواحد من موضوعات العمل داخل الجمعيات التي تموّلها برامج المانحين الدوليين، ووسط تيسير من الدولة في ذلك الوقت استعداداً للانتخابات البلدية الأولى بعد الثورة. 

لن أنسى أبداً زياراتي الميدانية الأولى لعدد من البلديات. مباشرة بعد المصادقة على دستور جانفي (كانون الثاني) 2014، تجدّدَ الوعدُ بتونس أفضل وما يزال مشهدُ تخمة البطالة في صفوف الشباب يخيّم على الطرقات الفرعية داخل البلاد. في أحد الصباحات، استغربتُ لوهلة مشهد الشباب وهم يلعبون الورق على الساعة الثامنة صباحاً. لم يأتِ رئيس البلديّة في موعده فاضطررت إلى الجلوس عند المقهى ومراقبة الشارع. كادت محاولتي أخذ صورة ذلك الصباح أن تتسبّب لي في مشكل أمني وانتهى بي المطاف في مركز الحرس الوطني أبرّر سبب وجودي بالمعتمدية، وانهالت عليّ الأسئلة من قبيل: «من يموّلك؟ ومن يقف خلفك؟». انتهى كابوس الأسئلة البوليسيّة وعدتُ أدراجي. أعتقد أنّ أولئك الشباب الذين يعانون من البطالة والتهميش ما زالوا يلعبون الورق على نفس الطاولة وفي نفس التوقيت مع رشفات بطيئة من «الكابوسان»، وما زال رئيس البلدية غير موجود.

على امتداد تلك الفترة واصلتُ زيارة العديد من البلديات ضمن عملي. ولطالما كنتُ متحمّسة لمشاركة اهتمامات الناس وهمومهم وفهمها في سياقاتها المحلية الضيّقة. نجحت الجمعيات المحلية نسبياً في ذلك، حيث خلقت ديناميكيات نشاط جديدة على المستوى المحلي خصوصاً باستيعابها للشباب والنساء والفئات الهشّة اقتصادياً واجتماعياً، وكذلك باعتبارها محرّكاً للتنمية المحلية. ولئن لم تحظَ هذه الجمعيات بحظوظ المنظمات الكبرى الأجنبية والوطنية من حيث وصولها إلى التمويلات أو التغطية الاتصالية والإعلامية أو المناصرة. إلا أنها، حسب رأيي البسيط، أثبتت وجودها على مستوى ضيق وأسفرت عن مبادرات للعمل والتثقيف والتشبيك وتقديم المساعدة عن قرب، وهو ما جعل المنظمات الوطنية والدولية تلجأ إليها بالداخل للوصول للمستفيدين والمستفيدات للرصد أو تعبئة الأصوات وتكثيف الأنشطة الميدانية. كما تمت الاستعانة بهم خلال الانتخابات البلدية، حين احتاجت الأحزاب السياسية 7200 مرشح للفوز بالمقاعد المحلية، وهو رقم ضخم لا تقدر الأحزاب المركزية على تعبئته في الداخل بالإضافة إلى بعض الشروط المخصوصة مثل تشريك الشباب وحاملي الإعاقة ضمن القائمات والالتزام بالتناصف الأفقي والعمودي، والتي لم تكن للأحزاب القدرة على الاستجابة لها لولا العمل المدني على المستوى المحلي، الذي مهّدَ الطريق وقام بتأطير عدد هام من المواطنين والمواطنات خلال العشر سنوات الأخيرة.

التمويل الأجنبي: الفزّاعة

جاء الردّ خلال الندوة حول المرسوم عدد 88 من مراد المحجوبي ممثّل رئاسة الحكومة بخصوص عدد من الأسئلة التي أثارها الحاضرون/ات، ليؤكد أن المسار الإصلاحي انطلق منذ 2017. حاول المدير العام طمأنة المنظمات الحاضرة، فلم يكتفِ بالقول بأنّ الدولة نفسها تماطل منذ سنوات من أجل تغيير الإطار القانوني، معترفاً «بأن التذبذب السياسي هو السبب الرئيسي الذي يجعل مسار الإصلاح يأخذ أكثر من خمس سنوات»، والكثير من النُسَخ والمهادنة. كما تحدّث المدير العام عن الاستشارات الوطنية التي تنظّمها الإدارة في الصدد من أجل «رؤية استراتيجية مشتركة»، قائلاً: «الحمد لله وجدنا تمويلاً من الاتحاد الأوروبي لتنظيم هذه الاستشارات التي تبدأ في 19 ماي (أيّار) في الأقاليم». لا يبدو أيٌّ من هذا منطقياً أو مقبولاً، كما لا يَردّ على النقاط الخلافية التي يُثيرها المرسوم. على كلّ، يبدو أننا دخلنا فترة من العبث خلال الفترة الأخيرة، فالتفاوت والمفارقة الفجة بين الديناميكيات المختلفة التي نعيشها داخل المجتمع وبين تدخّل الدولة ومنهجها صار نشازاً. ما يهمّنا هنا هو أوّلاً الإشارة الواضحة من ممثّل الدولة إلى غياب تصوّر جليّ ودقيق للدولة عن هذا المسار الإصلاحي وما يتطلّبه وما تنضوي تحته من إشكاليات، وثانياً حاجة الدولة نفسها للتمويل الأجنبي للتقدّم في المسار في حين أنّ رئيس الجمهوريّة يتهم المنظّمات والجمعيّات بالتآمر والخيانة لأنّها تتلقى تمويلات أجنبيّة.

من جهتي، عندما لاح هذا التهديد الصريح من رئيس الجمهورية بالتضييق على الجمعيات وباقي مكونات المجتمع المدني، سألت نفسي سؤالاً واحداً: «ماذا تفعل الجمعيات بالتمويلات؟ أو لماذا نحن بحاجة إلى التمويل الأجنبي؟». يجب أن نحرّر هذا السؤال كي نفهم لماذا هذه التمويلات الأجنبيّة ضرورية، أو لنجد سبيلاً للاستغناء عنها. صَقلت تجربتي الأخيرة، تحديداً العمل في مجال مناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي في جمعية وطنية مستقلة، الإجابة التي أتوقّف عندها اليوم: نحتاج إلى موارد مالية هامّة للإحاطة والمرافقة وتقديم الدعم للفئات الهشّة اجتماعياً ولمكافحة العنف والتمييز لا سيما الذي تتعرّض له النساء. يحتاج التعهّد بالنساء ضحايا العنف والناجيات منه مواردَ مادية وبشرية ضخمة فهو تجربة مُكلفة، نعم! كما يمثّل في الوقت نفسه حلقة أساسية لخروج النساء من دائرة العنف. لو أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، يمثّل السكن مشكلة حيوية إذ يحول عدم توفر ملجأ للنساء دون تحقيق استقلاليتهن الاقتصادية والاجتماعية. بالإضافة إلى الأرقام والإحصائيات المسجلة التي تشير إلى ارتفاع منسوب العنف الأسري والزوجي من جهة، والمادي من جهة أخرى الذي يتصدّر أنواع العنف بنسبة تصل إلى 59 بالمائة من الحالات المصرّح بها، دون أن ننسى المعايير والتمثّلات الاجتماعية التي تكبّل النساء. كل هذه المعطيات الملموسة تضعنا أمام ضرورة توفير آليات شاملة لمرافقة النساء نفسياً وصحياً وقانونياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي، نحن أمام ضرورة توفير فضاءات آمنة للإنصات والإيواء الفوري والتكوين المستمر الذي يشمل الأطفال المرافقين للضحية. أصوغ هذا المثال – من بين أمثلة أخرى عديدة – كتساؤل حقيقي، فلا تبدو أي من البدائل متاحة لتغطية حاجيات الضحايا والناجيات من العنف لا سيما مع غياب التمويلات العمومية (يمكن أن تكون مشكلاً في حد ذاتها) وصعوبة عقد شراكات متينة مع المتدخلين العموميين (قد يتحوّلون إلى خصوم) واستقالة القطاع الخاصّ وعزوفه عن أي نوع من أنواع الاستثمار في المجال الاجتماعي.

إنّ الحديث عن مصادر تمويل الجمعيات ليس موضوعاً جديداً. أذكر أيضاً في بداية عملي، مع جمعيّة البوصلة، الضجة الإعلامية التي لحقت تقديم التقرير السنوي حول العمل البرلماني. كان مشروع «مرصد مجلس» يحظى باهتمام ومتابعة الكثيرين، أوّلهم نوّاب الشعب الذين نقوم بمراقبة أدائهم البرلماني. عند تقديم التقرير السنوي للمشروع، تسارعت حملات التشويه المضادّة وكان من البديهي أن نُتّهم بالعمل لفائدة أجندات أجنبية. «من يموّلكم ومن يقف خلفكم؟»، هكذا يستقبلنا الإعلام في كلّ حصّة. لم أستغرب وقتها الجدل الحاصل ولا أستغربه اليوم بالتأكيد. ما أستغربه فعلاً هو عدم قدرة عدد من الجمعيات اليوم – بعد عشر سنوات من الثورة – والعاملين/ات فيها أو المنخرطين/ات ضمنها من خوض نقاش حرّ ومفتوح حول المسألة. شخصياً، لم أُشكّك يوما في انتمائي مهنياً أو سياسياً لعدد من الجمعيات، لكنني لا أتوقف أيضاً عن محاولة فهم الدور الذي تلعبه هذه الجمعية أو تلك وعن تموقعها الواضح ضمن ديناميكية العمل الجمعياتي أو عن طبيعة علاقتها بالممولين والمانحين. لم تتجاوز البوصلة يوماً ذلك النقاش لا في الداخل ولا في الخارج، وأقصد هنا إعلامياً. لكنها شكّلت بوادر فهمنا لمقاربة عمل من الأسفل لدينا نحن الشباب والشّابّات المنخرطات في رصد السياسات العامة أو لدى المواطنين والمواطنات المستفيدين والمستفيدات من المشاريع، لا سيما محلياً عبر مراكمة رصيد من العمل الرقابي والميداني الذي يحتاج التأسيس حتى لا يتوقّف عند حدود التجربة النموذجية، والتي لن تجد لها مكاناً أبعد من المشاريع المموّلة من الخارج، فينحسر وميضها كما قد تختفي فجأة باختفاء البرلمان أو بتراجع صكوك المانحين.

أبحثُ بشكل سريع من حولي عن أمثلة من خارج تجربتي في «المجتمع المدني»، ثم أنتبه أنني وجميع من حولي منخرطون ومنخرطات بشكل ما في هذا المجال. عن نفسي، راكمتُ تجربة عمل تتجاوز سبع سنوات داخل الجمعيات بعد أن فشلت في بداية مشواري في تجاوز مناظرة الشؤون الخارجية ومناظرة التعليم الثانوي أو ما تُسمّى بـ«الكاباس»، التي وَلجتُها مع 280 ألف متقدم من أجل 16 وظيفة فقط على كامل تراب الجمهوريّة عن مادة التربية المدنيّة. تيقّنتُ يومها أمام هول مشهد طوابير المتقدّمين والمتقدّمات لدخول سلك التعليم أن الوظيفة العمومية باتت مستحيلة من ناحية، وغير مرغوب فيها لبيروقراطيتها وانسداد آفاقها. يبدو قيس سعيّد عازماً اليوم على وضع حدّ للتمويل الخارجي، ويهمّنا كمواطنات ومواطنين فهم كيفية تخلّي الدولة نفسها والهياكل العمومية عن التمويلات الأجنبية. ألّا تقترض هذه الدولة لدفع أجور الموظفين وتعجز عن تشغيل الشباب وعن إدماج ذوي وذوات الإعاقة أو عن التعهّد بضحايا العنف وغيرها من التعهّدات التي تنصّ عليها مختلف التشريعات في بلادنا؟ ولا أستثني هنا تمسّكي المطلق بحقّنا في فضاءات مدنية للمقاومة والتفكير ومراقبة السلطة، والدفاع المستميت عن قضايانا العادلة كما عن حريتنا الأساسية في التعبير والتنظّم والعمل.