الأحد 25 جويلية (تمّوز) 2021، الساعة الثامنة مساء، بدأ حظر التجوال الليلي الذي فرضه اشتداد الأزمة الوبائية في تونس. أُحاول اصطياد بعض النسمات الصيفية في الشرفة الخلفية للشقة، عَلَّني أجد الشجاعة الكافية لكتابة مقالي حول تطورات الوضع السياسي بعد المظاهرات المطالبة بحلّ البرلمان وإسقاط الحكومة. يتطلب الأمر جهداً خرافياً حتى تمسك نفسك عن شتم السياسيين الذين ستذكر أسماءهم. مرحى أخلاقيات المهنة! أَبحثُ في صفحة وزارة الصحّة على فيسبوك عن بعض الإحصائيات المتعلقة بتطور الوضع الوبائي: أكثر من 7000 إصابة جديدة و150 حالة وفاة. ثم أَجولُ بين صفحات أخرى بحثاً عن صور المظاهرات والمواجهات ومقرّات حركة النهضة التي أُحرقت أو خُرِّبت. أَختارُ بعضاً منها وأَحفظُ مصادرها. تمرّ الدقائق والسجائر ولا أجد زاوية «ذكية» و«جذابة» للشروع في الكتابة. ينتابني الملل الذي زادت وطأته مع ارتفاع صوت الرئيس من بيت الجيران. لم أُركّز مع كلماته رغم حِدّة نبرته. ودون سابق إنذار انطلقت زغاريد من العمارة المجاورة، وصرخات فرح من الطابق العلويّ، و«تحيا تونس» من هنا وهناك، وصوت زوجتي «يا رامي يا رامي قيس سعيّد جمّد البرلمان إيجا تفرّج». كدتُ أن أحطّم اللابتوب وأنا أهرع لسماع خطاب الرئيس. تسمرّتُ أمام الشاشة أُتابع ما تبقى من الخطاب الذي ينصّ على ما يلي: تولي الرئيس للسلطة التنفيذية والنيابة العمومية (سيتراجع عن الثانية فيما بعد)، ورفع الحصانة عن النواب وتعجيل النظر في قضايا المطلوبين منهم للعدالة، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي. انتابني مزيج من الفرحة والتوجس، لكنّ ابن الكلب التفاؤل خدعني مرّة أخرى. لم أنتبه كثيراً لجنرالات الجيش الجالسين على يمين الرئيس وكوادر وزارة الداخلية القابعين على يساره. لو فعلت ذلك لكنت أكثر حذراً ولفهمت منذ اللحظة الأولى أنه ليس هناك قصصٌ جميلة بنهايات سعيدة تبدأ بالعسكر والبوليس.
بعد الخطاب مباشرة بدأت أصوات كلاكسونات السيّارات والأهازيج والأغاني تتعالى تدريجياً من كل مكان. كسرَ مئاتُ الآلاف من التونسيّين حظر التجوال ليعبّروا عن فرحتهم بانزياح الثقل الجاثم على صدورهم وآمالهم لمدة سنوات، والذي اشتدت وطأته مع قدوم الوباء واستفحاله.
ليلة السنوات العشر
بعد صدمة الساعات الأولى ونشوتها بدأت الأسئلة تتناسل: كيف ستَرُدُّ حركة النهضة وحلفاؤها؟ هل سنذهب إلى مواجهات عنيفة؟ هل ضمنَ الرئيس دعم وزارة الداخلية والجيش قبل إعلان قراراته؟ كم ستستمر هذه الإجراءات الاستثنائية وكيف سنخرج منها؟ كيف ستكون مواقف المحاور الإقليمية والقوى الدولية خاصة فرنسا وأميركا؟ وألفُ سؤال آخر. يا ليل ما أطولك! أَتصيّدُ الأخبار، السمارت فون في اليد اليمنى وجهاز التحكم بالتلفاز في اليسرى.
فجر السادس وعشرين من جويلية (تمّوز)، اتّجه راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان المجمّد آنذاك، إلى مجلس نواب الشعب في أول خطوة ضدَّ ما اعتبره انقلاباً. منعه الجيش من الدخول وانتشرت صورته على مواقع التواصل الاجتماعيّ وهو يقف صاغراً أمام قضبان البوّابة. من بين ملامح وجهه الناضح عجزاً لاحت لي عشرات الوجوه المبتسمة، أو هكذا خُيِّلَ لي. رأيت شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا في وضح النهار، ومبروك السلطاني الراعي الذي قطع الإرهابيون رأسه وأرسلوه إلى أمه زعرة قبل أن يذبحوا ابنها الآخر بعدها بسنتين. رأيت عشرات الجنود والأمنيين والمدنيين الذين سقطوا في مواجهات أو قُتلوا غدراً بالألغام والسكاكين والأحزمة الناسفة. رأيتُ المحتجّين/ات في سليانة الذين فَقأت رصاصات البوليس أعينهم والمتظاهرين/ات الذين اعتدت عليهم الميليشيات في 9 أفريل (نيسان) 2012، ومئات المعارضين/ات والنقابيين/ات والمثقفين/ات والفنانين/ات والناشطين/ات الذين عانوا من الشيطنة وهتك الأعراض والتحريض على القتل داخل المساجد، ومعهم وجوه الرفاق/ات المنطفئين الذين هجروا السياسة والأصدقاء/ات المحبطين الذين هاجروا من البلاد.
يتحمّل راشد الغنوشي مسؤوليّة كبيرة في هندسة التوافقات والمناخات والمشاهد السياسية التي أجهضت الثورة وسلبتها روحها، ولغّمت «مسار الانتقال الديمقراطي» وفتحت المجال أمام أكثر الجماعات السلفية رجعيّة ودمويّة، وأرجعت رجالات الدكتاتورية إلى الصف الأوّل وأوصلت مافيوزيين ودجّالين ومهرّبين إلى مجلس النواب وأروقة الوزارات. يتحمّل الغنوشي ومن تقاسم معهم السلطة في العشرية الفائتة مسؤولية حنين جزء كبير من التونسيين/ات إلى الدكتاتورية والأنظمة التسلطيّة، و«كفرهم» بالديمقراطية واستعدادهم لقبول أيّ بديل حتى وإن كان بائع أوهام. ولكن من سيُحاسب كلّ هؤلاء المتواطئين والمذنبين؟ فمنذ يومين أُحيلَ راشد الغنّوشي على القضاء بتهمة تبييض الأموال وبعد ساعة من التحقيق والمرافعات قرّرَ القطب القضائيّ لمكافحة الإرهاب الإبقاء عليه في حالة سراح مع تحجير السفر (تركه طليقاً والاكتفاء بمنعه من السفر) رغم أنّ النيابة العموميّة طالبت بإيداعه السّجن. خرج علينا راشد الغنّوشي بعدها متفاخراً باستقلال القضاء التونسّي، مستغلاً الفرصة لنسج خيوط مظلوميّة جديدة تتيح له ولحركته العودة للساحة السياسيّة.
«جات الحزينة تفرح»
«طارت السكرة وحضرت المداينية»، أي بعد التخمّر والانتشاء يأتي وقت خلاص الديون. بعد أسابيع قليلة من خطاب 25 جويلية (تمّوز) بدأ الشكّ يتسرب حول المسار الذي ستأخذه الأمور. تبيَّنَ سريعاً أن رئيس الجمهورية لا ينوي تشريك أحد في رسم المرحلة القادمة. وبدأت المشاكل تظهر تباعاً، خاصّة أنّه لا يمتلك أيّ رؤية اقتصادية بل بضعة أفكار ضبابية حول العدالة الاجتماعية والدولة الراعية والاقتصاد التضامني لا تخرج فعلاً عن النموذج الاقتصادي الفاشل الذي تعاني منه البلاد منذ عقود، ولا تُمثّلُ مشروعاً كاملاً وواضح المعالم. كما أن تسرّعه و«إرادويّته» وضعتاه أحياناً في مواقف محرجة مثلما حدث عندما داهمَ، مرفوقاً بمسؤولين وأمنيين، مخازن للحديد والخضروات والفواكه والمواد الغذائية الأساسية في إطار سعيه لمكافحة الاحتكار وغلاء الأسعار، ثم تبيَّنَ أنّ أغلب المخازن التي داهمها لم تكن مخالفة للقانون. وفي كل مرة يُفسِّرُ فيها للشعب أسباب غلاء المعيشة واختفاء بعض السلع يلجأ إلى نظريّة المؤامرة ويبني كلّ تُهمه للمجهول. ولعلّ الأخطر من هذا تتالي المؤشرات السلبية الدالّة على منهج الرئيس سعيّد في تثبيت أسس حكمه وتحييد خصومه. فقد ظهر جلياً أنه لا يعتزم بناء حزام سياسي داعم واسع أو تحصين «الفترة الاستثنائية» بتوافق وطني وازن، وهو لم يُخفِ يوماً اعتقاده بأنه لا فائدة من الأحزاب وأنّها آيلة إلى الزوال. يعوّلُ الرئيس أساساً على الجيش (خاصة في الأسابيع الأولى بعد 25 جويلية) وبشكل أكبر على وزارة الداخلية. فالكثير من القرارات المهمة أعلنها من أمام مقر وزارة الداخلية. ولا يَخفى على أي متابع للوضع التونسي المكانة التي يحظى بها وزير الداخلية توفيق شرف الدين في المشهد الحالي، سواء من حيث الظهور الإعلامي أو الدور السياسي الذي يلعبه بشكل يوحي بأنه أقوى بكثير من رئيسة الحكومة التي لا صوت لها.
نستعرض هنا جملة من القرارات الخطيرة التي اتُّخذت على مدار الأشهر الفائتة وأهمّها:
– إغلاق مقرات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 21 أوت (آب) 2021، ووضع رئيسها تحت الإقامة الجبرية دون مبررات واضحة.
– إصدار المرسوم 117 في 22 سبتمبر (أيلول) 2021، وهو بمثابة «دستور صغير» يركز كل السلطات تقريباً (خاصة التنفيذية والتشريعية) بين أيدي الرئيس ويجعل من رئيس/ة الحكومة تابعاً تماماً لرئيس الجمهورية وخاضعاً لمُساءلته.
– إعلان خارطة طريق في 17 ديسمبر (كانون الأوّل) 2021 للخروج من المرحلة الاستثنائية دون استشارة القوى السياسية والمدنية والمهنية الوازنة حتى تلك الداعمة للرئيس. طريق حدد قيس سعيّد محطاته الثلاث (استشارة وطنية إلكترونية ثم استفتاء على دستور جديد ثم انتخابات تشريعية) بشكل يُمكّنه من بناء نظامه السياسي الذي يبشر به منذ سنوات. فبدلاً من أن يكون انتخاب برلمان جديد هو الخطوة الأولى كما يفترض المنطق، اختار أن يمنح نفسه الوقت لفرض تشريعات جديدة (دستور وقانون انتخابي) توسّع صلاحيات رئيس الجمهورية وتقلّص صلاحيات المجلس النيابي ورئيس الحكومة، وبهذا يقطع الطريق أمام أي إمكانية لتهميشه وحصاره كما كان الحال قبل 25 جويلية 2021، ويضمن إزالة أغلب العوائق أمام مشروعه السياسي القائم على فكرة البناء القاعديّ المُبهمة وغير القابلة للتطبيق.
– حلّ المجلس الأعلى للقضاء في 12 فيفري (شباط) 2022 واستبداله بـ«المجلس الأعلى المؤقت للقضاء».
– حلّ المكتب التنفيذي للهيئة المستقلة للانتخابات في 22 أفريل 2022 واستبداله بمكتب أكثر ولاء للرئيس.
– الدعوة في ماي (أيار) 2022 إلى حوار وطني حول صياغة الدستور الجديد مع إقصاء الأحزاب والاقتصار على أربع منظمات وطنية، رفضَ أكبرُها، وهو الاتحاد العام التونسي للشغل، المشاركة فيه لأنه إقصائيّ ولأن الرئيس وضع حدوداً وشروطاً مُسبقة للمسائل التي ستُناقش.
– نشر مشروع دستور في 30 جوان (حزيران) 2022، وهو في حقيقة الأمر دسترة للمشروع السياسي الذي يبشر به قيس سعيّد منذ سنوات. فقد أظهر بشكل صريح وفج أن «الاستشارة الوطنية» وجلسات «الحوار الوطني» حول التعديلات الدستورية لم تكن إلا «حِيلاً» لكسب الوقت وتخفيف الضغط على رئيس الجمهورية والإيهام بأن الدستور المعروض للاستفتاء كان تتويجاً لمسار تشاركيّ. بعد ساعات قليلة من نشر «مشروع الدستور» في الرائد الرسمي، بدأت ردود الفعل الغاضبة والمحبطة تصدر عن شخصيات شاركت في «الحوار الوطني» وكُلّفت بصياغة «مسودة» دستور وتسليمها للرئيس، مثل أمين محفوظ، أستاذ القانون الدستوري وعضو الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهوريّة جديدة، الذي شارك على حسابه على فايسبوك أغنية تقول إحدى مقاطعها «أغاثا لا تكذبي عليّ.. هذا ليس ابني.. أنت تعلمين جيداً.. هذا ليس ابني»، قبل أن يتحدث عن الأمر لوسائل الإعلام. أما رئيس الهيئة العميد الصادق بلعيد، فلم يكن أمامه إلا نشر النسخة التي سلمها لرئيس الجمهورية في إحدى الصحف التونسية حتى يظهر الفرق الشاسع بينها وبين ما صدر في الرائد الرسميّ و«يبرّئ» ذمته.
الطفل الذي يُراد التخلّص منه
في ظل موجة «التطهير» و«الاستئصال» التي تلت القرارات الرئاسية في 25 جويلية 2021، والتي اعتبرت أن كل ما سبق ظهور المخلّص شرورٌ وآثامٌ يجب التطهّر منها كلياً، صار الوضع في تونس كمثل من ألقى بالطفل مع الماء المستعمل بعد تحميمه. لا ينكر أحد أنّ النخب التي حكمت تونس بعد 2011، وعلى رأسها حركة النهضة، أخفقت إخفاقاً كاملاً على جميع المستويات، وأنها لم تعالج ولو سطحياً التفاوتات التنموية بين مختلف مناطق البلاد، ولم تقدّم حلولاً لمعضلات البطالة والفقر متعدد الأبعاد، ولم تتزحزح قيد أنملة عن الخيارات النيوليبرالية التي أُرسيت في أواخر فترة حكم بورقيبة وتكرّست خلال حكم بن علي، بل عمقتها ولم تُبدِ حتى مقاومة شكلية لها. كما أن مظاهر ومعدلات الفساد وإهدار المال العام بلغت مستويات مرعبة خاصة مع «تحرير» الفساد و«دمقرطته» بعد أن كان حكراً على مجموعات صغيرة في قلب السلطة ومحيطها القريب زمن الدكتاتورية، وانخفض «منسوب» السيادة الوطنية إلى حد مخجل جعل التونسيين/ات كالأيتام على موائد اللئام. صحيحٌ أيضاً أن مسارات العدالة الانتقالية وبناء الهيئات والمؤسسات الدستورية شهدت تعثّرات وحتى انحرافات معيبة، وأن المشهد السياسي تحوّلَ في السنوات الأخيرة إلى سيرك بائس لا يبعث أبداً على البهجة. ويمكن أن نضيف ألف مأخذ ومأخذ للقائمة، لكن كل هذا لا يجب أن يعمينا عن بقية أجزاء اللوحة، لأنّ ما قبل 25 جويلية لم يكن مظلماً مثلما صوّره ويُصوّره قيس سعيّد وأنصاره.
فالشعب الذي كان يُعامَل ويتصرف كرعية لا تتحدث إلّا في مستجدات الرياضة وأخبار الفنانين ودراسة الأبناء، أصبح لا يخاف من نقد المسؤولين وحتى السخرية منهم. صار يعرف أسماء الوزراء والنواب ورؤساء البلديات، بل وينتخبهم متمتعاً بحقه الكامل في إساءة الاختيار. ويضغط على السلطات المحلية والجهوية والمركزية لتحسين ظروفه، ويسمع عن اليسار واليمين والعلمانيين والقوميين والحداثيين والسلفيين بعد أن كان يعيش في ظل حزب واحد. حتى العلاقات الديبلوماسية وتقلباتها وتأثيراتها محلياً وإقليمياً أصبحت تعنيهم بعد أن كانت أموراً لا تعني إلا حُكّام البلد.
آلاف المظاهرات والحركات الاجتماعية وحملات المناصرة في كامل أرجاء البلاد، تتنوع مطالبها من التشغيل وتوفير الخدمات والمرافق الأساسية مروراً بقضايا البيئة والموارد الطبيعية، وصولاً إلى الحريات الفردية. مئات القضايا رفعها مواطنون/ات وناشطون/ات وصحافيون/ات وغيرهم ضد الدولة وأجهزتها بسبب تقاعسها في تطبيق القانون أو تعسفها فيه. ربما لم تثمر كل هذه الجهود كما هو مأمول، لكن البذور غُرست وستُؤتي خراجها ذات يوم.
مكاسب قانونية هامة حققتها الحركات النقابية والنسوية والحقوقية عموماً في مجالات حقوق العمال والنساء ومكافحة العنف المبني على النوع الاجتماعي والتمييز العنصري والاتجار بالبشر. قد تكون مجرد «حبر على ورق» كما يرى البعض، لكنها نصوص رسمية يمكن الاستناد إليها في التقاضي والضغط لتطويرها.
المجتمع المدني، وعلى الرغم من كل الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الكثير من مكوناته المنفصلة على الواقع التونسي وغير الفاعلة فيه، شكَّلَ نقطة ضوء كبيرة في السنوات الأخيرة ونجح في إقناع الكثير من التونسيين/ات على اختلاف أعمارهم بالانخراط في الشأن العام، كما شكَّلَ رافعة للكثير من الحركات الاجتماعية في ظل ضعف حضور وتأثير الأحزاب، دون أن ننسى الدور الذي لعبه في التصدي للانحرافات السلطوية للحكام والحكومات منذ 2011 والصفقات الفاسدة والممارسات غير القانونية للأجهزة الأمنية وغيرها. كل هذا يمثل تغييراً كبيراً تعيشه تونس في علاقة المواطن بالسلطة والدولة والقانون، قد يعتبره البعض غير كاف أو بلا جدوى. لكن التاريخ مازال مفتوحاً، وكل هذه المراكمة لن تذهب سدىً. «هي أشياء لا تُشترى».
حتى دستور 2014، الذي يعتبره رئيس الجمهورية ومؤيدوه منبع كل الشرور ونصاً فاشلاً لا يمكن استمرار العمل به، ليس بمثل هذا السوء، فأغلب فصوله تُعتبر مكاسبَ يجب المحافظة عليها خاصة فيما يتعلق بالحقوق والحريات التي تمت دسترتها. يكمن الإشكال الأكبر في الفصول الخاصة بالنظام السياسي والتي أقرت توزيعاً مختلاً للصلاحيات بين الرئاسات الثلاث يستفيد منه الحزب الفائز بالتشريعيات ولو كان عدد مقاعده البرلمانية محدوداً. كان يمكن تنقيح الدستور عبر مشروع قانون يُقدَّم لبرلمان منتخب أو عبر استفتاء دستوري محدود على بضعة فصول. لكن يبدو أن الرئيس «المخلّص» يريد أن يكون له كتابه الخاص، وهو يعلم أن شرعية حكمه وجوهر خطابه ينبنيان فقط على فكرة أن الفترة الممتدة بين 2011 و2021 كانت «عشرية سوداء» من الخراب الخالص.
تظهر هواجس الرئيس منذ السطور الأولى لتوطئة الوثيقة التي يقترحها دستوراً لتونس، فهو حامل الأمانة الذي هبّ لنجدة شعبه عندما اشتدت محنته «فكان لا بدّ من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثّورة بل ومن تصحيح مسار التاريخ، وهو ما تم يوم 25 من شهر جويلية من سنة 2021، تاريخ ذكرى إعلان الجمهورية»، كما أنه لا يقل شأناً عن المصلحين والآباء المؤسسين للدولة التونسية فدستوره هو استمرار لتاريخنا الدستوري الضارب في أعماق التّاريخ من دستور قرطاج إلى عهد الأمان، إلى إعلان حقوق الراعي والرعية وقانون الدولة التونسية لسنة 1861، فضلاً عن النّصوص الدستورية التي عرفتها تونس إثر الاستقلال. في دستور قيس سعيّد، تتجاور مصطلحات مثل الأمة والدولة والوطن والبلاد بكل أريحية، ودون أي وجع رأس في التفسير وتوضيح المرجعيات. لم يعد للدولة دين كما هو الأمر في دستوري 1959 و2014 لكن عليها «وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية». لم يمسّ الرئيس بشكل واسع من الحريات والحقوق الفردية والسياسية والمدنية الواردة في دستور 2014، لكنه يقرّ في الفصل 55 إمكانية تقييدها «بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها الدفاع الوطني أو الأمن العام أو الصحة العمومية أو حماية حقوق الغير أو الآداب العامة»، فاتحاً الباب أمام مختلف التأويلات. دستور قيس سعيّد أبوي مفرط في الأبوية ورئاسي حد النخاع، يفتت السلطة التشريعية إلى مجلسين/غرفتين بصلاحيات أقل بكثير من تلك الواردة في دستور 2014، ويجعل الحكومة ورئيسها تابعين تماماً لرئيس الجمهورية، ويحجم السلطة القضائية ويُخضعها أكثر للسلطة التنفيذية، ويتجاهل «السلطة الرابعة» (الإعلام والصحافة) تماماً حيث لا نجد ذكراً للهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري، وحتى هيئات دستورية ومستقلة كانت موجودة في دستور 2014.
لا ثانية ولا ثالثة، هي الجمهورية المبتزّة نفسها
مع المصادقة على دستور سنة 2014 اعتبرت الطبقة السياسية أن البلاد دخلت مرحلة الجمهورية الثانية وقطعت مع الجمهورية الأولى التي أعلنها بورقيبة في 25 جويلية (تمّوز) 1957. ومنذ الإعلان عن «الإجراءات الاستثنائية» في 25 جويلية 2021 بدأ أنصار الرئيس يتحدثون عن الجمهورية الثالثة التي ستُبنى على أنقاض جمهورية ثانية لم تُبدّل أسنانها اللبنية بعد. وربما بعد سنتين أو ثلاثة أو عشرة سيحدث «تصحيح مسار» أو «انقلاب» جديد فتتغير السلطة وتعلن الجمهورية الرابعة. وسط تخمة الجمهوريات هذه يظهر خيط ناظم ينزع عن هذا الترقيم أي معنى، إنها جمهورية واحدة منذ 1957 إلى اليوم: جمهورية الابتزاز والمقايضة. لم يتوقف حكام تونس الجمهوريون يوماً عن ابتزاز التونسيين/ات ومقايضتهم الحرية و/أو الخبز و/أو الاستقرار والأمن مقابل الإذعان الصامت ويا حبذا التطبيل الصارخ.
تاريخ طويل من الابتزاز بدأته جمهورية بورقيبة، التي فرضت على التونسيين/ات التنازل عن حرياتهم وحقهم في المشاركة في الشأن العام والقرار السياسي لفائدة «المجاهد الأكبر»، قائد معركة الاستقلال وباني الدولة الحديثة والذي تعني معارضته تعطيل مخططات النهوض بالبلاد والتنمية ومكافحة الفقر. ومن لم يقتنع بهذه المعادلة الزائفة دفع الثمن من حريته وحياته وصحته ومسيرته الدراسية والمهنية. جمهورية زين العابدين بن علي التي ولدت من رحم الأزمة الاقتصادية والسياسية التي كانت تونس ترزح تحتها في أواسط سنوات 1980 لم تكن لها نفس شرعية الاستقلال والبناء، فبنت شرعيتها على «التغيير والإنقاذ»، وبعد أن استقرّ الأمر لبن علي فرض معادلة ابتزازية جديدة: التنازل عن الحريات السياسية مقابل وعود بالإقلاع الاقتصادي والرفاه وتحسين أوضاع الطبقات الشعبية والوسطى: صندوق التضامن، برنامج تطوير «مناطق الظل»، السيارة الشعبية والمسكن الشعبي بالتقسيط، تحرير السوق، إلخ. وعندما تعطَّلَ المصعد الاجتماعي في بداية الألفية الثالثة، لم يبقَ لبن علي إلا القمع الحافي وفقدت معادلة الابتزاز مقوّماتها فكانت ثورة 2011.
لم يتوقف الأمر بعد سقوط بن علي، إذ حاول نظامه المتزعزع رأب الصدوع باللجوء إلى الابتزاز: القبول بنسخة معدلة ومزينة من النظام القديم أو الفوضى الأمنية والشلل الاقتصادي. لم يفلح الأمر مع الشارع المنتفض فغيرت نخب النظام تكتيكها ومرت إلى ابتزاز النخب المعارضة القديمة خاصة العلمانية منها: انتقال ديمقراطي سريع دون «انتقام» من «الأزلام» ومساس بالمصالح الاقتصادية للمتنفذين المحليين والأجانب أو إمكانية تدخل الجيش أو انقضاض الإسلاميين على السلطة. رضخ جزء مهم من هذه النخب للابتزاز وانخرطوا في مسار «انتقال ديمقراطي» همَّشَ الشارع والشباب الثائر لصالح «الزعامات السياسية» و«الشخصيات الوطنية» و«المثقفين» الذين رسموا معالم الطريق الموصلة لانتخابات المجلس التأسيسي في 2011 التي أفرزت فوزاً كاسحاً للإسلاميين. استلم الفائزون مشعل الابتزاز: هم أو الفوضى، هم أو أزلام النظام البائد. يجب أن يُفسَح لهم المجال لممارسة هوسهم بالتمكين وأسلمة الدولة وإلا فإن المسار الديمقراطي سيشهد نكسات خطيرة. استئثار حركة النهضة -وحليفيها الضعيفين في حكومة الترويكا 2011-2013- بالسلطة واستقواؤها بمحاور إقليمية وسعيها إلى فرض مشروع مجتمعي محافظ استجلب لها عداء أغلب الطيف السياسي وقطاعات واسعة من التونسيين/ات، وخلق ثغرة كبيرة ستستغلّها شخصيات من النظام القديم للعودة بقوة إلى المشهد السياسي وممارسة ابتزاز جديد: تبييض صفحتهم وحتى إعادتهم إلى السلطة مقابل التصدي للإسلاميين وتحجيمهم. نجحوا في مسعاهم ففاز حزب «نداء تونس» والباجي قايد السبسي بالمرتبة الأولى في البرلمان ورئاسة الجمهورية في انتخابات 2014 إثر حملة انتخابية كان عنوانها: «نحن البديل الوحيد للإسلاميين»، قبل أن يتحالفوا معهم لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
بدأت بعدها مرحلة جديدة من الابتزاز: قبول تمرير قوانين تُبيّضُ صفحة مسؤولين ورجال أعمال فاسدين وأخرى تعزز صلاحيات وحصانة الأجهزة الأمنية بدعوى محاربة الإرهاب وقروض واتفاقيات تعمق تبعية البلاد للخارج بدعوى إنعاش الاقتصاد ومنع انهياره. انتهت هذه المرحلة بوفاة الرئيس السابق قايد السبسي لترثه سياسياً عبير موسى، الأمينة العامة المساعدة السابقة في حزب بن علي «التجمع الدستوري الديمقراطي»، وتُسوّقَ نفسها كبديل لحركة النهضة التي وجدت نفسها مرة أخرى الطرف الأقوى -على الرغم من التراجع الكبير لشعبيتها- وسط مشهد سياسي متشظ. أفرزت انتخابات 2019 التشريعية برلماناً بائساً ومشلولاً تحوَّلَ منذ يومه الأول وتنصيب رئيسه راشد الغنوشي إلى ملهاة يومية عطلت حال البلاد والعباد، ونشرت حالة من الإحباط والغيظ الشعبيين المتناميين، خاصة مع التقصير الحكومي القاتل في مواجهة وباء كوفيد-19 وحصيلته الكارثية بأكثر من 20 ألف وفاة.
كانت لحظة 25 جويلية 2021 نتيجة طبيعية لكل ما سبق، ما كان الوضع ليستمر بذلك الشكل ومؤشرات الانفجار كانت واضحة لا تخطئها العين. المشكلة أن قيس سعيّد ومن ورائه أنصاره لم يتأخروا في استعمال وصفة الابتزاز القديمة: القبول بحصر كل السلطات بين أيدي الرئيس أو العودة إلى تعطيل السلطات لبعضها البعض، القبول بالتجاوزات الأمنية والتعسف في استعمال السلطة أو فتح الباب أمام عودة الإسلاميين إلى الحكم، مساندة المشروع السياسي لرئيس الجمهورية (حتى وإن لم نفهمه أصلاً) أو العودة إلى النظام السياسي القديم الذي أوصلنا إلى حد الهاوية. إمّا معنا أو ضدنا. هذا الابتزاز المزمن أتعبنا، ليس الاختيار بين الطاعون والكوليرا قدراً، ومن يقايض حرياته وحقوقه بمنن سلطانية قد يفقد كل شيء.
سيصوّت التونسيون/ات هذا الاثنين على دستور جديد، تدل أغلب المؤشرات على أنه سيكون في الواقع تصويتاً على شخص الرئيس سعيّد، والمرجح أن تكون نتيجته مبايعة شعبية صريحة. وقبل الحديث عن النتائج فإن ارتفاع نسب المشاركة أو تدنيها ستكون له انعكاساته السياسية فيما يتعلق بمدى تشبث المواطنين/ات بمسار 25 جويلية، خاصة وأن الاستفتاء سينظم في ذروة موسم الأعراس والمناسبات والمصيف، وكذلك في الفترة التي تشهد أعلى درجات الحرارة في السنة. في صورة فوز «نعم» سيشهد النظام السياسي في تونس تغيرات جوهرية تعيد له الكثير من سلطويته الرئاسوية التي فقدها في 2011، وسيكون مصير البلاد بين أيدي شخص واحد حرفياً. وفي صورة هيمنة الرافضين للدستور على الصناديق، وهذا مستبعد، فستدخل البلاد في أزمة «شرعية» عميقة وقد يجد قيس سعيّد نفسه محشوراً في الزاوية تماماً كما كان الحال قبل 25 جويلية 2021، وربما ستحاول حينها حركة النهضة وحلفاؤها استغلال أزمة الرئيس للعودة إلى الحكم مما قد يخلق مناخاً من الاحتقان السياسي الخطير. لا توجد سيناريوهات وردية في الأفق. كذلك كان الأمر أواخر سنة 2010 وفي 24 جويلية 2021. من يدري؟
إذا كنتَ شعبًا عظيمًا…
فصوّتْ لنفسكَ في اللحظةِ الحاسمة
الصغير أولاد أحمد