تذكُّرُ الهولوكست بوصفه انقطاعة حضارية هو الأساس الأخلاقي للجمهورية الألمانية في نظر كثيرين. ولذلك تُعتبر مقارنة الهولوكوست مع جينوسايدات أخرى هرطقة، رِدة عن الدين القويم. لقد حان الوقت لهجر هذه العقيدة.

النقاش الألماني في شأن معاداة مزعومة للسامية من طرف أشيل مبمبمه، أو بخصوص كتاب مايكل روثبرغ ذاكرة متعددة الاتجاهات، أو كتاب يورغن تسيمرر من وندهوك إلى آوشفيتز، الذي يربط بين الاستعمار الألماني وحرب الإفناء النازية، يدفع مراقبين أجانب مثلي إلى حك رؤوسهم. فبعد كل حساب، نحن نثابر على إثارة هذه القضايا منذ عشرين عاماً. لقد شارك روثبرغ وتسيمرر في مؤتمر نظمتُه أنا في سيدني في شأن «الجينوسايد والاستعمار» عام 2003، ونشر تسيمرر مقالة عن الاستعمار أُدرِجت مع كثيرات غيرها في كتاب حرَّرتُه في السنة التي تلت. وبنهاية العقد أخذ العديد من الباحثين بقبول فكرة أنه يمكن فهم النظام الاشتراكي القومي [النازي] والهولوكوست في إطار مفاهيم الاستعمار والامبريالية.

إذاً، ما الجديد هنا؟ بالتأكيد ليس الطرح المضاد الذي رفع رايته في حينه مؤرخون ألمان وغير ألمان مثل أمثال بيرثه كوندروس وروبرت غروارث وشتيفان مالينوفسكي. لقد أخرج هذا النقاش التأريخ للهولوكست من نطاقه المحلي الضيق وألزم جميع المشاركين فيه بإرهاف تفكيرهم. الوضع مختلف اليوم. فحدة رد الفعل على مقالة روثبرغ وتسيمرر كشف زيف المقارنة في دي تسايت، وما أظهرته تعبيرات التنديد بالكاتبين والسخرية منهما والسخط عليهما، تذكر بمحاكمات الهراطقة. لقد حل الغضب محل صفاء الذهن، وهو ما فاقَمته قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على تعميم الانفعالات السياسية وتوجيهها. أعتقد أننا نشهد ما لا يقل عن طقس عام لطرد الأرواح الشريرة، يؤديه كهنة العقيدة الألمانية Katechismus der Deutschen الذي نصّبوا أنفسهم بأنفسهم. 

العقيدة

1-  الهولوكوست فريد لأنه كان استئصالاً بلا حدود لليهود، لا غرض له غير الاستئصال، فهو بذلك يتميز عن الجينوسايدات الأخرى ذات الأهداف البراغماتية المحدودة. الهولوكوست هو المثال الوحيد في التاريخ على مبادرة دولة إلى تدمير شعب لاعتبارات إيديولوجية فحسب.

2-  والهولوكست بذلك انقطاعةٌ في الحضارة، والأساس الأخلاقي للأمة [الألمانية].

3-  تقع على ألمانيا مسؤولية خاصة حيال اليهود في ألمانيا، والتزام خاص بإسرائيل: (أمن إسرائيل هو من مبررات الدولة في ألمانيا).

4-  معاداة السامية هي ضرب خاص من ضروب الاستعداد العدائي المسبق، ضرب ألماني بصورة خاصة. ولا يجب تقريبها من العنصرية.

5-  معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية.

حلت هذه العقيدة محل عقيدة سابقة لها في نحو عام 2000. كانت العقيدة الألمانية السابقة ملتزمة بمعايير الشرف والتقليد القوميين، وتعتبر الهولوكست حادثة تاريخية ارتكبها متعصبون، لوَّثوا شرف الأمة.

شهدت العديد من العائلات الألمانية مواجهات جيلية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، وقعت بين المعنى القديم للألمانية ومعنىً جديداً ولد مع جيل الثمانية وستينيين طلاب جامعات في ألمانيا الغربية وقتها، احتجوا على بيروقراطية الدولة وعسكرتها، وعلى العائلة التقليدية، ومثلوا قفزة في الحريات الجسدية والجنسية، وكانوا جزء من موجة احتجاجية، طلابية أساساً، في العديد من المجتمعات الغربية. (الهوامش من المترجم).. هذا لا يعني أن الثمانية وستينيين آمنوا بفرادة الهولوكوست. فنزعة معاداة الامبريالية المميزة لذلك الجيل دفعت كثيرين منهم إلى مقارنة حرب الولايات المتحدة في فييتنام بألمانيا النازية، وكذلك بين اليو إس إي بالإس إي، والإس إس أي مقارنة الولايات المتحدة الأميركية بميلشيات الـSA النازية، وبقوات الصاعقة النازية SS.. على أن ثمانينات القرن الماضي شهدت بزوغ فكرة خصوصية الهولوكوست في الغرب، وأخذ العديد من اليساريين والليبراليين الألمان يعتبرون أن كون المرء ما بعد هولوكستي «طيب» يقتضي إدماج هذا الاعتقاد في فهمه لنفسه وفي صورته الدولية.

العقيدة الجديدة لم تحقق الانتصار أثناء مجادلة المؤرخين في الثمانينات على ما يُعتقد عموماً. فقد كانت تلك المجادلة حلقة بين حلقات من النقاش حول التعددية الثقافية، حول كتاب دانيال غولدهاغن الإشكالي D. Goldhagen: Hitler’s Willing Executioners, Ordinary Germans and the Holocaust, New York 1997. والكتاب أبرز مثال على التأويل النياتي للهولوكست (أن ثمة نية مبيتة مسبقة وراءه) بالتقابل مع تأويل وضعياتي إن جاز التعبير (تحدث الجينوسايدات في سياقات أو وضعيات عينية…). وهو بمثابة رد على كتاب كرستوفر براوننع: Ordinary Men: Reserve Police Battalion 101 and the Final Solution in Poland, London, 1992 ، حول معرض الحرب، وحول النصب التذكاري للهولوكوست في برلين، وهي حلقةٌ قاتلَ المحافظون فيها، بقيادة صحيفة فرانكفوتر ألجماينه تسايتونغ، دفاعاً عن العقيدة القديمة. لكن المحافظين استوعبوا في النهاية أن الشرعية الجيوسياسية للبلد [كقوة غربية] تعتمد على التسليم بالعقيدة الجديدة التي كانت تتوسع في تقديمها نخبٌ أميركية وبريطانية وإسرائيلية. 

التعاليم الخمس المذكورة فوق صارت بنود إيمان في ألمانيا خلال الجيل السابق، استبطنها عشرات ملايين الناس كسبيل قومي لافتداء ماضٍ آثم. والأمر باختصار أن العقيدة تتضمن مبدأ افتداء ينص على أن تضحية اليهود على يد النازيين في الهولوكوست هي شرط شرعية الجمهورية الفدرالية. وإنما لذلك الهولوكوست أكثر من حادث تاريخي مهم. إنه جرح مقدس لا يجوز تلويثه بجروح مدنسة تخص الضحايا غير اليهود والجينوسايدات الأخرى. حتى أن الهولوكوست كانقطاعة حضارية يبدو للمؤرخ دان دينر إشغالاً للموقع الذي كان يشغله الله في زمن ما قبل التنوير. ويتمثل الدليل على ذلك في أن الأهمية الكونية لمعاناة اليهود في ذلك الجينوسايد أضحت أساساً لعالم جديد، عالم يبقى وفقاً لدينر مغلقاً دون أولئك الذين ظلوا عالقين في الماضي، السابق لـ «التضحية» (يقصد العرب)، وذلك بسبب «انسداد في زمن المقدس» يعانون منه. يجب نفي الأخلاقية النازية، لتحل «محبة افتدائية للسامية» [لليهود] محل المعاداة الافتدائية للسامية (بعبارة سول فريدلاندر).       

سردية الافتداء

ويمكن تَبيُّنُ دور مركزي في سردية الافتداء هذه المتشكلة على غرار افتداء المسيح في «انبعاث» الضحايا [ضحايا الهولوكوست من اليهود]. فمنذ توحيد الألمانيتين وانهيار الاتحاد السوفييتي، عملت الدولة الألمانية على إعادة زرع ألمانيا باليهود. وهكذا يُصحَب الخطاب عن هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي السابق بسردية افتدائية يُمزَج المهاجرون اليهود فيها بضحايا الهولوكوست بُغية استعادة «التعايش الألماني اليهودي». أما وأن ألمانيا خبرت أكبر اشتغال على التاريخ في التاريخ، فيمكنها أن تقف بفخر مجدداً بين الأمم كمنارة للحضارة، تشهد على ذلك تربيتاتٌ على الرأس من طرف النخب السياسية الأميركية والبريطانية والإسرائيلية.

تتطلب حماية الإيمان يقظة مستمرة. وكهنة العقيدة يتتبعون بلا كلل الهرطقة المعادية للسامية وأي مؤشرات على العقيدة القديمة، مثل Schlusstrichdebatten (النقاشات في شأن وضع خط تحت الماضي حصلتُ من موسز على الشرح التالي للمقصود بهذه العبارة: عملياً وقف التأثيرات النقدية للهولوكوست، وتحديداً دلالاته بخصوص القومية الألمانية.)، يقودهم موظف حكومي لقبه المهيب هو «المفوض الفيدرالي لشؤون حياة اليهود والنضال ضد معاداة السامية في ألمانيا». وبالفعل، قاد الحذف الرمزي من الأمة قيد الافتداء، وقد تم عبر سلسلة من الفضائح عن الماضي النازي للمحذوفين منذ ستينات القرن الماضي، قاد إلى ظاهرة إجبار متكرر على الحذف حتى بعد زوال النازيين بزمن طويل. الآن يكتشف الكهنة نازيين جدداً، من الفلسطينيين وأصدقائهم من الإسرائيليين غير الصهيونيين في ألمانيا وخارجها، من أولئك الذين يجربون أنماط تعايش غير قومية. ومن التجليات المنذرة بالمخاطر لذلك قرارُ البوندستاغ الخاص بحركة مقاطعة ومعاقبة وسحب الاستثمار من الأكاديميات الإسرائيلية (بي دي إس) في عام 2019، وهو قرار يدين الحركة لأنها تُذكّر بـ«أسوأ طور من أطوار التاريخ الألماني». على ما هو عليه من ضيق أفق محلي، القرار الذي حظي بدعم واسع يشير إلى إجماع يمتد من طائفة الأنتيدويتش إلى حزب البديل من أجل ألمانيا [اليميني الشعبوي]. ولا يبدو أنه تعني هؤلاء السياسيين أي سبل بديلة يتبعها الفلسطينيون لمقاومة استعمار أرضهم، ما داموا لا يشعرون بالحاجة إلى استحسان الفلسطينيين من أجل الاستقامة الأخلاقية لصورتهم الذاتية وسمعتهم الدولية. الغطرسة الأخلاقية تقود إلى وضع عجيب يحاضر فيه أغيار ألمان على أميركيين وإسرائيليين وبريطانيين، موبخين إياهم على الافتقار إلى الأشكال الصحيحة من تذكر الهولوكوست والولاء لإسرائيل. ولم يمنعهم ذلك من التمسك بالانضباط، بل وفرض قدر من الامتثال على حزب البديل من أجل ألمانيا الذي فهم مقتضيات الصورة العامة الضرورية لتجنب النبذ العام، بينما هو يحاول إحياء العقيدة القديمة. وهو ما يثير إعجاب إسرائيل كدولة معادية للإسلام تضبط الهجرة بشدة. وبلغ من شدة خوف الناس في ألمانيا أن أحد المساهمين في مداولة عن قضية مبمبه، نُشرت مجرياتها في مجلة دراسات الجينوسايد، أصرَّ على أن تُكتَم هويته.

بيد أن نجاح الكهنة أثار ردة فعل. فحملة التطهير ضد الهراطقة دفعت الليبراليين الذين يقودون المؤسسات الثقافية الألمانية إلى التخوف من أن التفكير ليس حراً بالفعل، وأن دورهم في التطهير قد يكون قادماً. وهكذا أصدروا في كانون الأول 2020 مبادرة Initiative GG 5.3 Weltoffenheit، وهي تصريحٌ عن حرية التعبير وعن الحق في نقد سياسة إسرائيل. ورغم أن كثيرين منهم يعارضون حركة مقاطعة الأكاديميات الإسرائيلية وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها، فإنهم لا يرون أن عمل الحركة موجب لفصل داعميها من العمل والاستبعاد من الحياة العامة. ولهذه الأسباب نفسها يدعم بعضهم كذلك إعلان القدس في شأن معاداة السامية وذلك لموازنة الآثار المخيفة لتعريف التحالف الدولي لتذكر الهولوكوست لمعاداة السامية، التعريف المدعوم من قبل الحكومة الإسرائيلية.

المنظور الآخر للمهاجرين

يتعذر أكثر وأكثر انضباط سكان ألمانيا بالعقيدة بفعل التغير الديمغرافي والجيلي. ومن نافل القول إن المهاجرين إلى ألمانيا يجلبون معهم تجاربهم ومنظوراتهم عن التاريخ والسياسة، وهي منظورات وتجارب ليست متمرسة بحكايات التهنئة الذاتية التي يحب الغربيون أن يرووها لأنفسهم عن نشر الحضارة عبر القرون. استظهار بنود الإيمان التي تنص على أن النازية انقطاعة حضارية مؤسفة خاوية من المعنى في نظر المهاجرين، حتى لو تبينوا السمات المميزة بالفعل للهولوكوست. تُرى ألم يفتح الأميركيون والأوربيون، ومن بينهم السلطات الاستعمارية الألمانية، أجزاء واسعة من الكوكب، ويقتلوا الملايين، باسم الحضارة الغربية؟ لا تعكس العقيدة عوالم حياة أعداد متزايدة من الألمان الشبان، برغم جهود معلميهم لتلقينهم إياها. فمثل نظرائهم في أميركا ممن شاركوا في احتجاجات «حياة السود مهمة»، يدرك هؤلاء الشبان أن العنصرية المعادية للاجئين، وليس معاداة السامية وحدها، مشكلة عامة. يلاحظون كذلك أن الإسرائيليين يثابرون على انتخاب حكومات يمينية تعزز مشروع الاستيطان، فتقضي بذلك على حل الدولتين الذي يسمح للألمان (وللأميركيين) بأن يصالحوا بين صهيونيتهم وبين العدل للفلسطينيين. وينضم إليهم في برلين ألوف الشبان الإسرائيليين والفلسطينيين الفارين من الكابوس المسيطر في بلدهم. علاوة على ذلك، تعني الفوضى الديمقراطية للإنترنت عسر تحكم الكهنة بالكلام، مثلما كان الحال في ثمانينات القرن السابق وتسعيناته. وسائل التواصل الاجتماعي تعطي قوة لدوائر عامة من التابعين [سبألترن]، حتى وإن بقي الرد على السلطة محدوداً بفعل الإجماع العابر للأحزاب حول العقيدة.

وفي الوقت نفسه، يلتحق أكاديميون ألمان في زمن العولمة التالي لعام 1990 بزملاء لهم في الخارج في تكريس مزيد من الانتباه إلى التاريخ الامبريالي والأدب الاستعماري، لأنهم ليسوا مهتمين فقط بأفكار وأفعال البيض من الناس. وبينما يتعذر تلخيص حقل بحثي عبر-مناهجي مثل دراسات ما بعد الاستعمار، فإن إحدى نقاطها الرئيسية تتمثل في فهم المركز الاستعماري والبلد المستعمر كوحدة منفردة، يحدث فيها تدفق المعلومات والناس والثقافة. وتتمثل نقطة ثانية في تسجيل كيف أن المقولات الامبريالية للسياسة كانت تفهمها حتى وقت قريب بلغة التراتبات العنصرية والتماثلات التاريخية، محاكاة روما [الامبراطورية] مثلاً.

وهكذا يعتبر العديد من المؤرخين أن نفي علاقة الهولوكوست بالتاريخ الامبريالي منحرف بقدر ما هو الإصرار على أن معاداة السامية متميزة كلياً عن العنصرية. ومثلما تظهر كلاوديا برنز فقد تداخل «السواد» و«اليهودية» في نقاشات [عصر] التنوير عن الانعتاق اليهودي، النقاشات التي اقترحت فيها حلول كولونيالية لـ«المسألة اليهودية». وتلقى فلهلم مار، المخترع المقيت لعبارة أنتيسيميتيزموس [معاداة السامية]، الإلهام من التراتبيات العنصرية المتصلبة التي رصدها أثناء أسفاره في الأميركتين في خمسينات القرن التاسع عشر. ومثلما كتب كرستيان إس أندرسون، من بين آخرين، فإن الحكم الألماني في أفريقيا وفر لعموم ألمانيا  Alldeutscher Verband نموذجاً يحتذى للإخضاع والفصل والاضطهاد العنصري. فمثلاً طالبَ المعادون للسامية في تسعينات القرن التاسع عشر أن يوضع اليهود تحت قانون أجانب خاص، وهذا مثلما حاموا عن وجوب إخضاع الأفارقة لقانون مستقل خاص بـ«الأصليين». لقد وُجِدَ الفهم الخاص بالوجود اليهودي في ألمانيا في سياق نظرة عنصرية إلى العالم، يشغل فيها مواقع مركزية فتح بلدان واستعمار الشعوب الأجنبية، وتراتبية الحضارات، والتقدم والانحطاط، والبقاء والانقراض.

لا شيء «نقيٌ»

من وجهة نظر هذه الضروب من الترابطات لا تعني لغة «النسبنة» شيئاً. هذه لغة لاهوتية وليست بحثية. حين يُدرِجُ مايكل روثبرغ الهولوكوست في علاقة مع جروح تاريخية أخرى، فهو يقوم بما كان ممارسة عالمية منذ الهولوكوست. الذاكرة تتكون من عمليات تكرارية من الاستيعاب والاستبعاد، التشبيه والتفريق. ما من شيء «نقي». والهولوكوست جزء من عدة تواريخ: معاداة السامية، الاستعباد الجمعي، القمع الاستعماري للتمردات، وتهجير السكان وغير ذلك. لقد أجبرت مجلة تسايتغايست قراءها على أخذ العلم بالمواريث الاستعمارية للبلدان الغربية حين جمعت بين نشاطية سياسية من فوق وشغل بحثي من تحت. كيف شقت هذه المواضيع دربها إلى المتاحف؟ لماذا سميت تلك الشوارع بأسماء «أبطال» الاستعمار، ولماذا نُشرت تماثيلهم في النطاقات المدينية؟ وكيف انتفعت مؤسسات، بل اقتصادات كاملة، من الاستعباد المنظومي للأفارقة، بل واعتمدت عليه؟ وأصلاً، ماذا كانت القوى الأوروبية تفعل في أفريقيا وبقاع أخرى من العالم؟ وهل ينبغي دفع تعويضات لذراري الشعوب التي أخضعت لحملات جينوسايدية واستغلال مفرط؟ يبدو طرح هذا السؤال بحد ذاته تهديداً لأسس الحضارة الغربية في نظر توبياس راب من دير شبيغل. لقد أثارت هذه التطورات رد فعل مألوفاً، سميتُه في مكان آخر أوجه قلق في دراسة الهولوكوست والجنيوسايد: الهلع من أن المكانة الأيقونية للهولوكوست ستتضرر، وسيُعتبر مجرد «جينوسايد آخر» في التاريخ مثل غيره، فيتلوث المقدس بالمدنس. والبعض مثل توماس شميت من دي تسايت منشغل البال بـ«الاشتباه العام بالرجل الأبيض». عند جيل الثمانية وستينيين الموغل في العمر يعادل تأثير الدراسات ما بعد الكولونيالية تأثير سقوط روما بيد البرابرة. النقاش في هذه الشؤون في وقته، لكن الكهنة يريدون إدارته كأنه محكمة تفتيش تندد بالهرطقة وتستظهر العقيدة بديلاً عن النقاش المدعم بالحجج.

الحقيقة هي أن النخب الألمانية تستخدم الهولوكوست بالفعل لتمويه جرائم أخرى. خذ مثلاً كلاوديوس زيدل الذي تساءل في فرانكفورتر ألجماينه تزايتونغ: هل كان الهولوكوست فعلاً استعمارياً؟ وإذ أجاب على تساؤله بالنفي ألح على أنه يقع على الألمان التزام خاص حيال اليهود بسبب الهولوكوست. وأهمل أن يذكر شيئاً عن التزام مماثل بخصوص ناميبيا. حين طلب الناميبيون تعويضات [عن جينوسايد 1904] أنكر المبعوث الألماني روبرخت بولنز ذلك عليهم لأن الهولوكست لا يُقارن بغيره، حسبما أعلن. ووقتها أعلن شميت أن الهولوكوست ليس جريمة استعمارية، وأن «الجنوب العالمي مدين بشرح السبل لتنمية أفضل» أكثر من الغرب. لا عجب بالتالي في أن أحفاد ضحايا الدولة الألمانية الذين تحطمت قدراتهم على التنمية بفعل حرب الإبادة الاستعمارية، يجدون ثقافة الذاكرة الألمانية عنصرية: فهي تقيم تراتباً في المعاناة، وتقرر درجات من الإنسانية وتظهر عوزاً مربكاً إلى وعي نقدي للذات.

يُسوِّغُ الكهنة تلك التراتبية بالإشارة إلى فرادة تجربة الهولوكوست: اليهود وحدهم قتلوا من أجل القتل، بدافع الكراهية وحدها، هذا بينما قتل ضحايا الجينوسايدات الأخرى لأسباب براغماتية. وفي حين رأى النازيون السلاف بمنطق استعماري، فقد رأوا اليهود بعدسات معاداة السامية، ما أدى إلى حملة القتل الهائلة، الفريدة في التاريخ. وتضيف هذه المجادلة إلى ما تقدم أنه إذا كان الاستعمار عاملاً مهماً، فلماذا لم ترتكب بريطانيا وفرنسا هولوكوستاً في امبراطوريتيهما الأكبر بكثير من الامبراطورية الألمانية؟

استعمارية الاشتراكية القومية [النازية]

هذه الاعتراضات مبنية على قراءة خاطئة للتاريخ، على ما جادلتُ في كتابي مشكلة الجينوسايد. إنها تتجاهل أن الإمبراطورية النازية كانت مسعى تعويضياً يبتغي ضمان مناعة دائمة للشعب الألماني ضد المجاعة التي عانى منها بسبب حصار الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى. كان ذلك طموحاً طوباوياً نحو سيطرة جغرافية مكتفية ذاتياً على الموارد والتخلص من أي مخاطر أمنية داخلية. كان العديد من الألمان قد لاموا اليهود واليسار على هزيمة 1918، ومنذ ذلك الوقت اعتبر النازيون اليهود شعباً معادياً أضعف المشروع الامبراطوري الألماني، وذلك بفعل الولاء اليهودي للإيديولوجيات الأممية، الليبرالية والشيوعية. قد يبدو الهولوكوست للكهنة أمراً غير مسبوق، لكن المؤرخين يعرفون أن إزالة جماعات كاملة في حملات أمنية بارانوئية وانتقامية هو نمط مألوف في تاريخ العالم. لقد درس هتلر والقادة النازيون الآخرون هذه الأنماط في الامبراطوريات القديمة والحديثة فيما كانوا يصوغون نسخة حديثة قاسية منها بعد الهزيمة العسكرية المذلة.   

ومثل روما والألمان القدماء، سيحمي الرايخ الألماني الجديد الحضارة الأوربية من «البربرية الآسيوية»: من «العاصفة المهددة للشرق الآسيوي الداخلي، هذا الخطر المتأهب الأبدي على أوروبا». كانت هذه بالفعل مهمة ألمانية تاريخية، وفي نوفمبر 1944 أضاف هتلر: «طوال قرون، وقع على الرايخ القديم، وحده ومع قوى حليفة، أن يصعد كفاحه ضد المغول، ولاحقاً ضد الترك، من أجل حماية أوروبا من مصير يلوح من حيث محصلته شبيهاً بالضبط بالبلشفية اليوم». كان الاستشراق تقليداً متأصلاً ومستمراً للنزعة الغربية الألمانية.

أولئك الذين فرّوا من النازية، ومنهم باحثون يهود مهاجرون، يجدون هذه الروابط وجيهة. قبل أكثر من عقد مما كتبه إيميه سيزير وفرانز فانون في هذا الشأن، أدرك هؤلاء الفارون من النازية أن النازيين كانوا يستوردون إلى أوروبا أسلوب حكم كان الأوربيون قد استخدموه في حكم امبراطورياتهم. ليس بلا سبب أن رافائيل لمكين الذي ابتدع مفهوم الجينوسايد عام 1944 يُعرِّفه بلغة الاستعمار: إحلال المستوطنين محل شعب؛ ويسمي فرانتز نويمان في كتابه البهيموث: بنية الاشتراكية القومية وممارستها (1942) الكتاب متاح في العربية بترجمة حسني زينة، وصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017. النازية بـ«الامبريالية العنصرية» التي تسعى إلى توحيد السكان عبر وعدهم بأسلاب فتح العالم، أي «رد الدول المهزومة وتوابعها إلى مستوى شعوب مستعمَرة».

آن أوان تفكير شامل

تعتبر العقيدة الألمانية أن العدالة التاريخية تتمثل في صفقة تعقد بين أمتين ثابتين ومتميزتين: وبدلاً من قتل اليهود، يتعين على الألمان الآن أن يعاملوهم بلطف وترحاب. محبة السامية هذه تثابر على أن ترى اليهود كضيوف والجماعة اليهودية كممثلة لدولة أجنبية، إسرائيل. وبينما تجري رعاية هذه الصلة [بين اليهود وإسرائيل]، يُطلب من المهاجرين المسلمين ألا يتماهوا بالمسلمين في الخارج كيلا يُنمّي ذلك الإرهاب. إصلاح الانقطاعة الحضارية مكَّنَ ألمانيا من إعلان مهمة حضارية جديدة: حل مشكلة «معاداة السامية المستوردة» مع المهاجرين بتعليم الأخيرين عن الهولوكوست وليس بمماهاة العنصرية في كل أشكالها بذلك الخلط القائم في ألمانيا بين الفولك [الشعب بمفهوم عرقي ثقافي] والمواطنة السياسية. يتساءل المرء عن كيف ينظر أولئك المهاجرون إلى حسّ ألمانيا بالعدل التاريخي حين يعني هذا الحس الدفاع عن دكتاتورية عسكرية تتسلط على الفلسطينيين طوال أكثر من نصف قرن.

لا جدال في أن العقيدة أفادت في شيء مهم: نزع نازية البلد. وإنه لأمر طيب وجود النصب التذكاري للهولوكوست في برلين. بيد أن البلد تغير. ولا يقتصر الأمر على أن العقيدة عاشت عمراً أطول من نفعها، بل إنها تضعف الحرية ذاتها التي يُثمّنها الألمان في الظاهر. بافتراضاتها «الفولكية»، وتصنيمها للحضارة الأوروبية في مقابل البربرية الآسيوية، العقيدة محشوة بتناقضات تكشفها اليوم أصوات ألمانية وغير ألمانية. لقد آن الأوان لإزاحتها جانباً، والتداول مجدداً في شأن مطالب العدل التاريخي على نحو يحترم ضحايا الدولة الألمانية، والألمان بكل أنواعهم.