مع مرور أكثر من عقد على الثورات العربية، يَظهرُ العالم لنا في سياقٍ سياسي مأزوم وكارثي، فنرى روسيا والصين تتوسعان في عملياتٍ عسكريةٍ تُخلخِل نظام ما بعد الحرب الباردة كما نعرفه، بينما تفشل حكومات الدول الكبرى مرةً تلو الأخرى في وضع سياساتٍ تنقذ العالم من توابع تغيرات المناخ وما يعنيه ذلك من مستقبل الحياة على الأرض. وبالتالي فهي لحظة المساءلة وإعادة التفكير بامتياز. وفي ظل ذلك، وكما اعتدنا في ملتقى التاريخ والذاكرة الثقافية على مر أكثر من خمسة أعوام، نحاول فتح مساراتٍ للنقاش والتفكير عن طريق إعادة النظر في موروثات وسرديات تاريخية تشكل وتتلامس مع مأساة الحاضر. وعندما فكرنا في كيفية التعامل مع الذكرى العاشرة للثورات العربية ومآلات الكثير من جيلنا وأجيال أخرى انخرطت في الفعل الثوري، وجدنا أنها لحظةٌ يشوبها الكثير من اليأس وشعورٌ عارمٌ بالعجز. فلم تنته الثورات  بعكس ما هو متوقع فحسب، ولكن في حالات عديدة، أوضاع أسوأ بكثير مما قبل 2010. وهذا لا ينسحب فقط على المجال السياسي، ولكن على ما أسفر عنه فشل الثورات العربية في إعادة طرح أسئلة أساسية حول شكل دولة ما بعد الاستقلال  والعقد الاجتماعي الذي فُرض على شعوب المنطقة، والذي يواجه حالياً أسئلةً جوهريةً عن ماهيته وما تبقى منه.

إن مراجعة تاريخ المنطقة من مرحلة ما بعد الاستقلال وصعود مشروع القومية العربية، وما تبعه ذلك من اختزال جميع الأسئلة السياسية الحرجة (سؤال تمكين النساء أو وضع الأقليات، أو سؤال الحريات والفاعلية الاجتماعية والسياسية،… إلخ) وتأجيلها إلى حين تحقيق الاستقلال التام، ولحين القضاء على العدو الصهيوني (وهو صراع جوهري لتحقيق مشروع تحرري حقيقي للمنطقة ولكن لا يجب تصفية أو تأجيل أي حراك سياسي باسم محاربة العدو الصهيوني، لأن تلك مراوغة سياسية غير أخلاقية بالمرة)، أسفر عن أزمات اجتماعية وسياسية مستمرة يتم قمعها تارةً بالعنف والسلطوية وتارةً أخرى بترتيباتٍ سياسيةٍ فاسدةٍ ومؤقتة، سرعان ما تتهاوى ونعود مرةً أخرى إلى المربع صفر.

إن تداعي مشروع التحرير الوطني بمختلف تنويعاته ووصوله إلى موضع الأزمة مع نهاية السبعينات ومع نهاية الحرب الباردة، أدى إلى احتكار حركات الإحياء الديني والحركات الإسلامية أغلبَ المساحات والخطابات العامة،  حيث نجحت الحركات الإسلامية في استقطاب أغلب التحركات الاجتماعية والسياسية في المنطقة، وجرها إلى معارك ومواجهات صفرية (علمانية/دينية، إسلامية/غربية، مجتمع مؤمن/مجتمع كافر، …إلخ). وما خلّفه ذلك من توابع كارثية أدت إلى تصفية وتفريغ أي حراك سياسي من محتواه، لأن ظلت جميع الأسئلة الرئيسية مؤجلةً إلى حين تحقيق مشروع التمكين الإسلامي، حتى وإن كان ذلك على حساب صعود الثورة المضادة أو عودة القوى العسكرية مرةً أخرى إلى المشهد السياسي بشكل أكثر عنفاً وشراسةً من الأول. 

تفرض جميع تلك الحقائق التاريخية والاجتماعية أسئلةً جوهريةً، ليست فقط عن دور الدين ومكانته في حياتنا اليومية، ولكن أيضاً عن تراثٍ ضخمٍ من الجدل والتساؤل الفلسفي والأخلاقي عن تلك الأسئلة ذاتها: أسئلة الإيمان، والعدالة، والشر،  أو كيف يمكننا أن نتمسك بإيماننا بالعدالة في مواجهة هذا الكم الهائل من الشر والظلم؟ أو إلى مدىً نكون فيه متسقين مع ذواتنا إذا تمسكنا بالأمل، مع علمنا بأن لذلك تبعاتٍ سياسيةً وماديةً وخيمة؟ وبالأحرى كيف يمكننا أن نتجاوز الصراع الصفري مع الحركات الإسلامية حول تلك الأسئلة ولكن دون السقوط في فخ الهوية والرؤى المقاربات الأحادية التي فرضتها الحركات الإسلامية على المجال العام، والخطابات الأوسع عن إطار أخلاقي-سياسي لا يتسم بالانتهازية أو هواجس يمينية حمقاء.

تراءى لنا في هذه اللحظة المثقلة بكثيرٍ من اليأس والتعب، أن قصة النبي أيوب، كالتجلي الأمثل عند الديانات الإبراهيمية الثلاث وعند تراث المنطقة الأوسع، هي نموذجٌ ملهمٌ للصبر والصمود في مواجهة البلاء والتمسك المدهش بالاتساق الأخلاقي والمصداقية في مواجهة الشك، وكأمثولةٍ تفتح مجالاً للنقاش والتفكير في اللحظة الراهنة. على أمل أن تكون كل الأسئلة التي أثارتها القصة، بصياغاتها المختلفة، نقطةً لإعادة النظر في طرح تلك الأسئلة مرةً أخرى بطرقٍ أكثر صدقاً للحظة، وأكثر إخلاصاً لما يمر به الكثيرون من شك، ولكن أيضاً إصراراً على مد لحظة المساءلة التي خلقتها الثورات العربية، حتى في ظل نجاح الثورات المضادة في الوقت الحالي.

في تلك السلسلة وبالتعاون مع الجمهورية.نت، دعونا عدداً من الكتاب والمفكرين واللغويين واللاهوتيين لقراءة سفر أيوب معاً، ومن خلال عدة نقاشاتٍ وحوارٍ مع النص وصياغاته المختلفة، تطرق المشاركون لتراث التفسير اللاهوتي والديني لطرح طرق مختلفة لفهم شخصية أيوب، وما يحتويه السفر الكتابي من صوتٍ ثوريٍّ ضد الظلم، ولكن أيضاً ضد تنميط وقبول الظلم دون مساءلة، كما في مقالة صفوت مرزوق؛ «هل كان النبي أيوب صابرا محتسبا؟». ومن موقعٍ آخر، يحاول الباحث أحمد شحاتة من خلال مقالته «الأيوبيون الجدد»، مد تساؤل أيوب إلى اللحظة الراهنة، للناجين من المذابح والحروب، وكأنّ في استمرار التساؤل استمرارَ الالتزام بمصداقية الإيمان الحقيقي بعد الثورات العربية. ومن التساؤل يعيد فؤاد حلبوني طرح سؤال العدالة الإلهية مرةً أخرى، ويتتبّع أولى المحاولات الفلسفية للرد على سؤال العدالة الإلهية (بدءاً بليبنتز ومروراً بكانط)، ويستخدم إحالة السفر إلى الوحوش القديمة التي خلقها الله كلحظةٍ تنتهي عندها القدرة الإنسانية لفهم قوى الطبيعة، ولكن أيضاً كيف يمكن أن تعود تلك القوى بأشكال أكثر تغولاً.

ومن ناحيةٍ أخرى، يقرأ الباحث نادر أندراوس السفر بالتوازي مع كتاب كيركاجارد؛ التكرار، في شكل رسالةٍ إلى صديقٍ ثوري يحاول فيها التأكيد على أنه حتى في ظل استحالة تكرار تجربة الحب (كما في كتاب كيركاجارد) أو تجربة أيوب (الإيمان الثوري الذي يسائل الله ويرفض التطبيع الأخلاقي مع قبول الشر ولوم الضحية)، تظل محاولة تكرار التحرر خطوةً إلى اكتشاف معنىً آخر للحرية والثورة. وعلى الجانب الآخر، يقرأ الكاتب عدي الزعبي تاريخ تفسير السفر والسجال الفلسفي حوله من خلال مآلات الثورة السورية. يرى الزعبي أنه باستحالة تبرير أو تفسير الشر ووجوده في ظل وجود إلهٍ عادل، تصبح حتمية الفعل، حتى ولو كان صغيراً، هي الأمل في كل هذا الخراب. مستشهداً بقصيدة الشاعر العراقي  بدر شاكر السياب المستوحاة من السفر ذاته. يؤكد عدي بأن الحب وتلك الأفعال الصغيرة اليومية هي ما يمكن أن يضيء ظلام اليأس والبلاء.

وبالتوازي، يحاول إسماعيل فايد قراءة المصادر الإسلامية للتأكيد على ضرورة فك سيطرة خطابات حركات الإحياء الديني، وفتح مجال أوسع من الجدل والنقاش في ظل لحظةٍ يسيطر عليها الكثير من الشك والتساؤل. وعطفاً على ذلك، يقوم موريس عايق باستخدام سفر أيوب كمدخل لدفع النقاش حول سؤال الإصلاح الديني ونقد الدين في المنطقة العربية كحاجةٍ ملحّةٍ طالما تَعدّى سؤال الإصلاح مجردَ نقاشٍ داخل جماعةٍ مؤمنة، ولكن في إطار مجتمعٍ يعيد تخيل منظومة القيم الحاكمة للمخيال الاجتماعي والسياسي.