ملعونةٌ أبداً، مُحتقرةٌ، وعصيّةٌ على الفهم

أنتِ الرعب الرهيب لعصرنا

تصرخ الجموع: «أنتِ خرابُ جميع الأنظمة،

والغضبُ الذي لا يُحدُّ، في الحرب والقتال»

فليصرخوا..

بالنسبة لمن لم يعرف التوقَ

الحقيقةُ تختبئُ خلف الكلمة

وهم لم يُمنحوا معناها الحقَّ

فليبقوا إذن، عمياناً بين العميان..

أما أنتِ أيتها الكلمة،

واضحة وقوية ونقية

تَنطقين بكل ما اتخذتُه هدفاً

أعطيكِ للمستقبل!

لتكوني آمنةً

حين يعي كل إنسانٍ نفسه

هل تأتين مع شروق الشمس؟

في ارتعاشة العاصفة؟

لا يمكنني التنبؤ،

لكن الأرض كلها ستشهد..

أنا لاسلطوي!

لا أحكم أحداً، ولا يحكمني أحد

جون هنري ماكاي

إنَّ تاريخ التقدم والتطور البشري هو في الوقت نفسه تاريخُ الصراع المرير الذي تخوضه كلُّ فكرةٍ جديدةٍ تبشّر بقدوم فجرٍ أكثر إشراقاً. في تشبثه بالتقاليد، لم يتردد القديمُ مطلقاً في استخدام أكثر الوسائل رداءةً ووحشيةً ليحافظ على امتيازاته، أياً كانت المرحلة أو الصيغة التي يتمكن الجديدُ عبرها من تأكيد وجوده. ولا حاجة بنا أن نقتفي الأثر في الماضي البعيد لنتمكن من تمييز فداحة المعارضة والصعوبات والعقبات التي وُضِعتْ في طريق كلّ فكرةٍ تقدميةٍ. فما زالت الأصفاد والسياط وسلاسل التعليق (الشبح) وسواها من أدوات التعذيب حاضرةً بيننا، ومازالت ملابس السجناء والوصم الاجتماعي تتآمر جميعاً ضد تلك الروح التي تمضي في مسيرتها واثقةً.

لا يمكن للاسلطوية أن تتجنَّب القدرَ المشتركَ بين كل الأفكار التي تنادي بما هو جديد. بل إنها -بوصفها الأكثر عناداً وثوريةً بين الأفكار الخلّاقة- لا مفر لها من مواجهة مزيج الرفض والحقد الذي يُكنّه لها العالمُ الذي تطمحُ لهدمه وإعادة بنائه.

إن تناولَ كلّ ما ارتُكب أو قيل ضدّ اللاسلطوية -وإنْ بإيجازٍ شديدٍ- يحتاج مجلداً ضخماً. لذا، سأتعاملُ مع اثنين فقط من الاعتراضات الرئيسية، وسأحاول بهذا أن أوضح ما الذي تعنيه اللاسلطوية حقاً.

تكمن الظاهرة الغريبة المرتبطة بمناهضة اللاسلطوية، في كونها تلقي الضوء على العلاقة بين ما يدعى «الفطنة» وبين «الجهل». مع ذلك، ما من غرابةٍ في هذا حين نأخذ بعين الاعتبار النسبيةَ التي تسمُ جميع الأشياء. تستحسن جموع الجهلاء ألا تدَّعي أية معرفةٍ أو تسامحٍ. ما يدفعها لحيز الفعل، كان دوماً محضَ اندفاعةٍ ومنطقٍ طفولي. ومع هذا، فإن اعتراضات الجاهل على اللاسلطوية تستحق التأمل بقدر ما تستحقه اعتراضات المثقف. 

فما هي هذه الاعتراضات إذن؟ الأول، هو أن اللاسلطوية غير عملية، رغم كونها فكرةً جميلةً. أما الثاني، فهو أن اللاسلطوية تمثّل العنف والهدم، ولذا يجب رفضها بوصفها فكرةً دنيئةً وخطيرةً. تشترك كلٌّ من الجموع الجاهلة والمثقفة -على السواء- في إطلاق الأحكام بناءً على الشائعات والتفسيرات الخاطئة، وليس بناءً على معرفةٍ متعمقةٍ بالموضوع.

يقول أوسكار وايلد: «إما أن يكون المخطط العملي مخططاً قائماً وموجوداً بالفعل، أو أن يكون مخططاً قابلاً للتطبيق في ظل الظروف القائمة، لكنّ الظروف القائمة هي ما يعترض المرء عليه، وأي مخططٍ يمكنه أن يقبل بهذه الظروف هو خاطئٌ وأحمق». من مقال لأوسكار وايلد بعنوان «The Soul of Man under Socialism» روح الإنسان في ظل الاشتراكية. نشره عام 1891 إثر تحوله لللاسلطوية بعد قراءة أعمال بيتر كروبوتكين. لذا فإن المعيار الحقيقي لما هو «عملي» لا يكمن في الإصرار على الحماقات نفسها، بل في كون المخطط يتمتع بما يكفي من الحيوية ليغادر المستنقع القديم ويبني حياةً جديدة ويحافظ على ديمومتها.

تُستثار مشاعر الإنسان الجاهل باستمرار بواسطة أكثر القصص ترويعاً حول اللاسلطوية. ليس أمراً معيباً أن يتم توظيف مثل تلك الحكايات ضد هذه الفلسفة وأنصارها. وبالتالي، فإن اللاسلطوية تمثّل لعديمي التفكير ما يمثّله الرجل الشرير للطفل: غولاً أسود مُصمّم على ابتلاع كل شيء؛ وباختصار، عنفاً ودماراً. 

العنف والدمار! كيف للإنسان العادي أن يعرف أن الجهل هو العنصر الأشد عنفاً في المجتمع، وأن قدرته التدميرية هي تحديداً ما تحاربه اللاسلطوية؟ كيف له أن يدرك أن جذور اللاسلطوية كانت وما زالت جزءاً من قوى الطبيعة التي لا تدمر النسيج الصحي، بل الطفيليات التي تتغذى على جوهر حياة المجتمع. إنها لا تقوم إلا بتنظيف التربة من الأعشاب الضارة، علَّها تؤتي ثماراً صحيةً. 

قال أحدهم: «تتطلب الإدانة جهداً عقلياً أقلَّ مما يلزم للتفكير». إن الكسل العقلي المنتشر على نطاقٍ واسعٍ في المجتمع، يثبت صحة هذا القول. لا يفضّل معظم الناس أن يتعمقوا بأي فكرةٍ تُقدَّم إليهم، ولا أن يتحققوا من مصدرها ومعناها؛ بل يفضلون اللجوء لإطلاق الأحكام وتعميمها، والاستناد إلى تعريفاتٍ سطحيةٍ أو متحيزةٍ لبعض المسائل الثانوية.

تحثّ اللاسلطويةُ الإنسانَ على التفكير والتقصي وتحليل كل مسألة. وكي لا أرهق القارئ العاديَّ كثيراً، عليَّ أن أبدأ بالتعريف، ثم أتوسع لاحقاً. 

اللاسلطوية هي فلسفةٌ لنظامٍ اجتماعيٍ جديدٍ، مبنيّ على الحرية غير المقيدة بالقوانين البشرية. هي النظرية القائلة أن كل أشكال الحكومات ترتكز على العنف، وعليه فإنها خاطئةٌ ومؤذية، إضافةً لكونها غير ضرورية. 

يرتكز هذا النظام الاجتماعي الجديد على المبادئ المادية للحياة. ويتفق اللاسلطويون جميعاً على أن الشر الرئيسي اليوم هو شرٌّ اقتصادي، كما يتمسكون بأن الحل للخلاص من هذا الشر يكمن فقط في أخذ كل أوجه الحياة بعين الاعتبار. سواءٌ الفردية أو الجماعية، الداخلية أو الخارجية.

إن فحصاً دقيقاً لتاريخ التطور البشري سيكشف عن عنصرين يخوضان صراعاً مريراً ضد بعضهما البعض. عنصران لم نبدأ بفهمهما إلا مؤخراً، وهما ليسا غريبين عن بعضهما، بل مرتبطين معاً بقوة، ومنسجمين حقاً، هما الغرائز الفردية والغرائز الاجتماعية. حيث تمثل الأولى العامل الأكثر فاعليةً للقدرات الفردية، وللنمو والطموح وتحقيق الذات. بينما تمثل الأخرى العامل الأكثر فاعليةً بالنسبة للقابلية للتعاون المشترك والرفاه الاجتماعي.

لا صعوبة في العثور على تفسير للعاصفة المحتدمة داخل الفرد، أو بينه وبين محيطه. إنَّ عجز الإنسان البدائي عن فهم وجوده وإدراك الوحدة التي تجمع الأشياء، دفعه للشعور بأنه يعتمد بالمطلق على قوى عمياء خفيّة، جاهزة على الدوام للسخرية منه أو إثارة حيرته. انطلاقاً من هذا الموقف، نمَت المفاهيم الدينية التي ترى الإنسان ذرة غبارٍ تعتمد على قوى خارقة ومتعالية، لا شيء يرضيها أقلَّ من الاستسلام التام. يمكن للإنسان أن ينال أمجادَ الأرضِ كلَّها شريطة ألا يعي نفسه. يردد كلٌّ من الدولة والمجتمع والقوانين الأخلاقية اللازمة نفسها: يمكن للإنسان أن ينال أمجادَ الأرضِ كلَّها شريطة ألا يعي نفسه.

اللاسلطوية فلسفةٌ تدفع الإنسان لأن يعي نفسه، وتؤكد أن الله والدولة والمجتمع هي كياناتٌ باطلة، وأن وعودها زائفة، وذلك لكونها لا تتحقق إلا عبر خضوع الإنسان. وعليه، فإن اللاسلطوية تعلمنا وحدة الحياة، ليس فقط في الطبيعة، بل أيضاً في الإنسان. وتُعلّمُ أن الصراع بين الغرائز الفردية والاجتماعية ليس أشد من الصراع بين القلب والرئتين: الأول هو الإناء الذي يحتضن جوهر الحياة الثمينة، والثاني هو مستودع العنصر الذي يحفظ جوهرَ الحياة نقياً قوياً. كذلك فإن الفردَ قلبُ المجتمع وجوهرُ الحياة الاجتماعية، أما المجتمع فهو الرئة التي توصل الهواء الذي يحفظ جوهر الحياة -وهو الفردُ هنا- نقياً وقوياً.

يقول إمرسون: «الأمر الوحيد ذو القيمة في العالم هو الروح الحية داخل كل إنسان، فهي التي ترى الحقيقة المطلقة وتنطق بالحق وتبدع». بكلماتٍ أخرى، الغريزة الفردية هي الأمر ذو القيمة في هذا العالم، وهي الروح الحقّة التي ترى الحقيقة وتمنحها الحياة، والتي تنبثق عنها حقيقةٌ أعظم، هي الروح الاجتماعية المولودة من جديد.

تُحرّر اللاسلطوية الإنسانَ من أسر الأوهام. إنها تلعب دور المُصلِح والحَكَم بين القوتين لتحقيق التناغم بين الفردي والاجتماعي. وفي سبيل هذا، تعلن اللاسلطويةُ الحربَ ضد المؤثرات الخبيثة التي حالت حتى الآن دون التمازج والانسجام بين الغرائز الفردية والاجتماعية، وبين الفرد والمجتمع.

تمثّل ثلاثية الدين والمُلكية والحكومة معقل استعباد الإنسان وكل ما ينشأ عن هذا الاستبداد من أهوالٍ أخرى. يسيطر الدين على عقله، والمُلكية على احتياجاته، والحكومة على سلوكه وتصرفاته.

يسيطر الدين على عقل الإنسان، ويذلُّ روحه ويُحقّرها. فهو يدَّعي أن الله كلُّ شيء، أما الإنسان فلا شيء. ومن هذا «اللا شيء» يخلق الله ملكوتاً مليئاً بالاستبداد والطغيان والقسوة. مذ بدأت الآلهة عملها، لم يسُد العالمَ شيءٌ آخر سوى الدموع والدماء والكآبة. تُحرّض اللاسلطوية الإنسانَ على التمرد ضد هذا الوحش الظلامي وتخاطبه: اكسر قيودك العقلية، لأنك لن تتخلص من هيمنة الظلام -العائق الأكبر في وجه التقدم- قبل أن تفكر وتحكم بنفسك. 

تسيطر المُلكية على احتياجات الإنسان، وتنكر حقه في إشباعها. وفي بعض الأحيان ادّعت أنها حقٌّ إلهي، وباتت تردّد مع الدين اللازمة نفسها: «ضحّوا.. تنازلوا.. قدّموا!». بالمقابل، ترفعُ اللاسلطويةُ الإنسان من وضعية السجود الانبطاحية تلك، وتسمح  له أن يقف منتصباً، وجهُهُ نحو النور. يتعلَّمُ أن يرى الطبيعة النهمة والمدمرة والمُهلكة للملكية الخاصة، ويصبح قادراً على توجيه ضربةٍ قاتلةٍ لهذا الوحش.

يقول اللاسلطوي الفرنسي العظيم بيير برودون: «الملكية سرقة». وهي كذلك، لكن دون المخاطر والمجازفات التي تقتضيها السرقةُ. حتى اللحظة، سلبتِ الملكيةُ الإنسانَ حقَّهُ الطبيعيَّ وتركته فقيراً ومنبوذاً. وهي غير مبررةٍ مهما لجأنا إلى الأعذار البالية التي تدّعي أن الإنسان لا يُنتجُ ما يكفي لإشباعِ جميع احتياجاته. من يعرفُ ألفباء الاقتصاد يعلمُ أنَّ معدّل إنتاجيّة العمل خلال العقود القليلة الماضية فاقَ معدّل الطلب الطبيعي مئات الأضعاف. لكن ما الذي يعنيه الطلبُ الطبيعيُّ لدى مؤسسةٍ غير طبيعية؟ الطلبُ الوحيدُ الذي تعترفُ به الملكيةُ هو شهيتها الشرهة للمزيد من الثروة، لأن الثروة تعني السلطة؛ القدرة على الإخضاع والقهر والاستغلال، والقدرة على الاستعباد والانتهاك والإذلال. تتباهى أميركا بقوتها العظيمة وثروتها القومية الهائلة. لكن ما هي جدوى كل ما لديها من ثروات إن كان الأفرادُ الذين يشكلون الأمة فقراء وبؤساء؟ إن كانوا يعيشون في شقاءٍ وفسادٍ وجريمةٍ، دون أملٍ أو سعادةٍ، جيشٌ تائهٌ من الفرائس البشرية. 

من المُسلَّم به عموماً، أنه إنْ لم تتعدى عائداتُ العمل تكاليفَه، فلا مفر من الإفلاس. لكن أولئك المشتغلين في إنتاج الثروة لم يتعلموا حتى هذا الدرس البسيط بعد. مع كل عام، تتزايد كلفة الإنتاج من الأرواح الإنسانية (50 ألف قتيل و100 ألف جريح في أميركا خلال العام الماضي). أما العائداتُ التي تحققها الجماهير التي شاركت في خلق هذه الثروة، فإنها تتضاءلُ أكثر فأكثر. مع هذا ما زالت أميركا متعاميةً عن الإفلاس الحتمي لأعمال الإنتاج. ليست هذه جريمتها الوحيدة، فالأمر الأكثر كارثيةً هو تحويل المُنتِج إلى مجرد جزءٍ من الآلة، يتمتعُ بإرادةٍ وقدرةٍ على اتخاذ القرار أقلَّ بكثير مما لدى سيده الفولاذي. لم تُسلب من الإنسان منتجاتُ عمله فحسب، إنما سُلبت منه قوةُ المبادرة الحرة والأصالة والرغبة والاهتمام بالأشياء التي يصنعها.

تتألف الثروة من أشياء نافعة وجميلة، أشياء تساعد على تنشئة أجسادٍ قويةٍ لتحيا في بيئة مُلهِمة. لكن إن كان على الإنسان أن يعمل في الخياطة وحفر المناجم وشق الطرقات ثلاثين عاماً من حياته، فلن يكون بمقدورنا التحدث عن ثروة. إنّ ما يقدمه المرء للعالم في هذا الحال ليس سوى أشياء رماديةٍ قبيحةٍ تعكس وجوداً رتيباً ومهيناً، أكثر ضعفاً من أن يحيا وأكثر جبناً من أن يموت. من الغريب أن نقول إن هناك أشخاصاً يمجدون المنهجية المُهلِكة للإنتاج المركزي باعتبارها الإنجاز الأكثر مدعاةً للفخر في عصرنا. هؤلاء يفشلون تماماً في إدراك أننا بمواصلة الخضوع للآلة ستصبح عبوديتنا أكثر اكتمالاً من عبودية رقيق الملوك، وأن المركزية لا تؤذِن بموت الحرية فقط، بل أيضاً الصحة والجمال، والفن والعلم. جميعها ستصبح مستحيلةً في جوٍّ ميكانيكيٍّ كالساعة.    

ليس بوسع اللاسلطوية إلا أن ترفض مثل هذه الطريقة في الإنتاج، فهي تهدف للتعبير الأكثر تحرراً عن جميع القوى الكامنة في الإنسان الفرد. يُعرّف أوسكار وايلد الشخصية المثالية على أنها «تلك التي تتطور في ظل ظروفٍ مثالية، فلا تكون جريحةً أو مشوهةً أو مهددة». وعليه، فإن الشخصية المثالية ممكنةٌ فقط في مجتمعٍ يكون فيه الإنسان حراً في اختيار نوع العمل وشروطه. ويكون معنى صنع طاولة أو بناء منزل أو حرث تربة، كمعنى الرسم بالنسبة للفنان، والاكتشاف بالنسبة للعالِم؛ ناتجاً عن الإلهام والتوق والاهتمام العميق بالعمل كقوةٍ خلّاقة. وانطلاقاً من هذا المَثل الأعلى للاسلطوية، فإن اقتصادها ينبغي أن يتكون من جمعياتٍ إنتاجيةٍ وتوزيعيةٍ طوعية، تتطور تدريجياً إلى شيوعيةٍ حرة، باعتبارها الوسيلة الأفضل للإنتاج مع أقل قدرٍ من الهدر للطاقة البشرية. كما تعترف اللاسلطوية أيضاً بحق الفرد في التخطيط لصيغ أخرى من العمل تنسجم مع ميوله ورغباته.

إنَّ هذا العرض للطاقة الإنسانية يكون ممكناً فقط في ظل حريةٍ فرديةٍ واجتماعيةٍ تامتين. توجّه اللاسلطوية قواها ضد العدو الثالث والخصم الأكبر لكلّ مساواةٍ اجتماعيةٍ؛ أي الدولة، السلطة المُنظّمة والقوانين التشريعية، التي تسيطر على سلوك الإنسان.

فكما أن الدين قيّد عقل الإنسان، وقامت الملكيةُ -أو احتكار الأشياء- بقمع وكبت احتياجاته، كذلك تستعبدُ الدولة روحه وتُملي عليه جميع سلوكياته. يقول إمرسون: «إنَّ جميع الحكومات في جوهرها مستبدة». وهذا صحيحٌ، سواء كانت تستمدُّ سلطتها من حقٍّ إلهيٍّ، أو من قوة الأغلبية؛ فهي تسعى في كل الأحوال للحصول على تبعية الفرد المطلقة. 

يقولُ اللاسلطوي الأميركي العظيم ديفيد ثورو، مشيراً إلى الحكومة الأمريكية: «ما الحكومةُ إلا تقليد، رغم أنها تُعدُّ أمراً حديثاً. يسعى هذا التقليدُ بكلِّ عزيمته للانتقال إلى الأجيال القادمة، لكنه يفقد نزاهته مع كل مسعىً يبذله؛ وهو يفتقر الحيوية والقوة التي يتمتعُ بها إنسانٌ حيٌّ بمفرده. لم يزد القانون من عدل الإنسان مثقال ذرةٍ، بل إن احترامه (أي احترام القانون) حوّلَ أصحابَ النوايا الحسنة إلى عملاء يوميين للظلم».

حقاً، فالكلمة المفتاحية للحكومة هي الظلم. وبما لدى الملوك «المعصومين من الزلل» من غطرسةٍ ورغبةٍ في الإشباع الذاتي، أصدرتْ الحكوماتُ أوامرها وقضتْ وأدانتْ ونفّذتْ عقوباتها حتى على أتفه الجرائم، بينما احتفظت لنفسها بأعظم جريمة: إبادةُ الحريةِ الفرديةِ. لذا فإن ويدا هي الروائية الإنجليزية ماري لويس دي لا رامي. التي اشتهرت باسم Ouida ويدا.كانت محقةً عندما أكدت أن «هدف الدولة الوحيد هو غرس هذه السّمات في جمهورها، الأمر الذي يضمنُ لها أن وصاياها ستكون مطاعةً وخزينتُها مملوءةً. إن أسمى مكاسبها هو اختزالُ الإنسانية إلى عملٍ ميكانيكي. وفي مناخها، لا مفر من أن تذوي وتفنى كل تلك الحريات الأرقّ والأكثر دقةً والتي تتطلب مساحةً أكبر ومعاملةً خاصة. تتطلبُ الدولةُ ماكينة جباية ضرائبٍ لا تكلّ، وخزينةً لا تعرف العجز، وشعباً رتيباً مطيعاً لا روح له، يمضي وضيعاً كقطيعٍ من الأغنام يتم اقتياده عبر طريقٍ مستقيمٍ محاطٍ بجدارين عاليين».  

لكن حتى قطيع الأغنام كان ليقاوم خداع الدولة لولا لجوئها لتوظيف الأساليب الفاسدة والمستبدة والقمعية في سبيل تحقيق غاياتها. وهذا ما جعل باكونين يرفض الدولة باعتبارها رديفةً للتنازل عن الحرية الفردية أو الأقليات الصغيرة، ورديفةً لتدمير العلاقات الاجتماعية. إنها اختزالُ الحياةِ أو حتى إنكارها في سبيل عظمةٍ مزعومةٍ. الدولةُ هي المذبح الذي يُضحّى عنده بالحرية السياسية؛ وهو كالمذبح الخاص بالدين، صُمِّمَ لتلقي القرابين البشرية.

في الحقيقة، من الصعوبة أن تجد مفكراً معاصراً لا يوافق على أن الضرورة الوحيدة للحكومة -أو السلطة المنظمة، أو الدولة- هي الحفاظ على الملكية والاحتكار. فهي لم تثبت فعاليتها إلا في هذه الوظيفة.

حتى جورج برنارد شو الذي كان يأمل المعجزات من الدولة في ظل الاشتراكية الفابية، نسبةً للجمعية الفابية Fabian Society، وهي جمعية إنجليزية تأسست عام 1884، سعت لنشر الاشتراكية بالوسائل السلمية، ونبذ مؤسسوها العنف كوسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعي. يعترف بأن «الدولة في الوقت الراهن ماكينةٌ ضخمةٌ لسرقة واستعباد الفقراء باستخدام القوة الوحشية». لكن إن كانت هذه هي الحال، سيكون من الصعب أن نفهم سبب رغبة المذكور بتأييد الدولة، حتى بعد أن يتم القضاء على الفقر.

لسوء الحظ، هناك عددٌ من الناس ما زالوا مؤمنين بالعقيدة المُهلكة التي تدّعي أن الدولة مؤسسةٌ مبنيةٌ على القوانين الطبيعية، وأنها تحقق النظام والانسجام الاجتماعيين، وتقلل الجريمة، وتمنع الشخص الكسول من سلب زملائه. لذا، لا بد أن أتوقف قليلاً للتحقق من هذه الادعاءات.

القانون الطبيعي هو ذاك العامل الذي يؤكد نفسه في الإنسان، بحريةٍ وتلقائيةٍ، دون أي قوةٍ خارجية، بتناغمٍ وانسجامٍ مع متطلبات الطبيعة. فمثلاً، الحاجة للغذاء، والإشباع الجنسي، والضوء، والهواء؛ جميعها قانونٌ طبيعيٌّ. لكنّ التعبير عنها لا يحتاج ماكينة الدولة، ولا يحتاج الهراوة والبندقية والأصفاد والسجون. كل ما يلزمنا كي نطيع القوانين الطبيعية -إن كنا سندعو هذا طاعةً- هو الفُرص الحرة والتلقائية فحسب. لقد تم إثبات عجز الحكومات عن الحفاظ على نفسها وسط عوامل متناغمة كهذه عبر لجوء جميع هذه الحكومات للوصفة المرعبة المكوّنة من العنف والقوة والإكراه في سبيل الحفاظ على نفسها. لهذا كان بلاكستون ويليام بلاكستون William Blackstone ـ (1723-1780) أستاذ قانون وقاض وبرلماني إنجليزي، يعد كتابه «تعليقات على القانون الإنجليزي» من أكثر الكتب تأثيراً في تاريخ القانون البريطاني والأميركي. محقاً حين قال: «القوانين الإنسانية باطلة، لأنها تتعارض مع قوانين الطبيعة».

يصعبُ أن ننسب للحكومات أية قدرة على خلق النظام أو الانسجام الاجتماعي، باستثناء قدرتها على ذبح آلاف الأشخاص كما حدث في وارسو. الإشارة هنا إلى القمع الذي مارسته السلطات الروسية في مواجهة الثورة البولندية ضد الاحتلال الروسي، وتعرف هذه الأحداث بانتفاضة يناير 1863. فالنظام الذي يُطبَّق وتتم المحافظة عليه باستخدام الترهيب، لا يتمتع بضماناتٍ آمنةٍ. ورغم ذلك، إنه النظام الوحيد الذي تمكنت الحكومات من الحفاظ عليه على الإطلاق. ينمو التوافق الاجتماعي وينشأ بصورةٍ طبيعيةٍ عن تكافل المصالح. أما في مجتمعٍ لا يحصل فيه من يعملون على شيء بينما يتمتع من لا يعمل بكل شيء، فلا وجود لتكافل المصالح؛ إذ إن الانسجام الاجتماعي في مجتمعٍ كهذا محضُ خرافة. الطريقة الوحيدة التي تعرفها السلطة المنظَّمة للتعامل مع هذا الوضع المميت، هي منح المزيد من الامتيازات لأولئك الذين يحتكرون الأرض ويستعبدون الجماهير المحرومة من الميراث. وهكذا فإن كل ما لدى ترسانة الدولة من قوانين، وأجهزة شرطة، وجيش، ومحاكم، وهيئات تشريعية، وسجون، يتم توظيفها معاً في توليفةٍ من أشد العناصر عدائيةً للمجتمع.

إن أشدَّ مبررات السلطة والقانون منافاةً للمنطق هو الادعاء القائل إنهما يعملان على تقليل الجريمة. فالحقيقة هي أن الدولة نفسُها أعظم المجرمين. وهي تكسر كل القوانين، المكتوبة منها والطبيعية، وهي تسرق تحت مظلة جباية الضرائب، وتقتل تحت مظلة الحرب وعقوبة الإعدام؛ وبهذا وصلتْ إلى طريقٍ مسدودٍ في التعامل مع الجريمة. لقد فشلت كلياً في تدمير -أو حتى تقليل- المصائب المروعة التي أسهمت بنفسها في خلقها.

ليست الجريمةُ إلا توجيهُ الطاقة في اتجاهٍ خاطئٍ.  وطالما أن جميع مؤسساتنا -الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية- تتآمر معاً لتوجيه الطاقاتِ الإنسانية في مساراتٍ خاطئة؛ وطالما أن معظم الناس في أوضاع غير لائقة يؤدون أعمالاً يكرهون القيامَ بها، ويحيون حياةً يشمئزون منها، ستصبح الجريمةُ حتميةً ولن تنفع القوانين الوضعية شيئاً سوى زيادتها. ما الذي يعرفه المجتمع -بما هو عليه اليوم- عن اليأس والفقر والخوف والكفاح المرعب الذي يقود الروح الإنسانية إلى الجريمة والانحطاط؟ من يعرف هذه العملية الرهيبة لن يفشل في رؤية الحقيقة في كلمات بيتر كروبوتكين التالية: 

«أولئك الذين يدركون الصلة بين الفوائد المنسوبة للقانون والعقاب، وبين الأثر المهين للعقاب على الإنسانية؛ والذين بإمكانهم رؤية سيل الفساد الجارف الذي يتسبب به المخبرون، ويُفضّله القضاة، وتدفعُ الحكومات الأموالَ للحفاظ عليه تحت ذريعة فضح الجريمة؛ أولئك الذين رأوا ما في داخل السجون، وما الذي يمكن أن يتحول إليه الكائن البشري عندما يُحرم من حريته، وعندما يتلقى المعاملة الوحشية ويتعرض للإذلال على يد سجانيه؛ أولئك سيتفقون معنا على أن نظام السجن والعقوبة بغيضٌ بكلِّ ما فيه، ولا بدَّ من العمل على إنهائه».

إنَّ التأثير الرادع للقانون على «الإنسان الكسول» هو أكثرُ بطلاناً من أن يؤخذ بعين الاعتبار. لو تم إعفاء المجتمع من الهدر والكلفة اللازمان للحفاظ على «طبقةٍ كسولةٍ»، ومن الكلفة الباهظة التي تتطلبها معدات حماية هذه الطبقة؛ فإنَّ موائد المجتمع ستتضمن وفرةً تكفي الجميع. وإلى جانب هذا، من الجيد أن نأخذ بعين الاعتبار أن الكسل ينتج إما عن امتيازات خاصة أو عن شذوذات جسدية أو نفسية. بينما يُعزز نظام الإنتاج المُختَل الحالي كلا الأمرين لدينا. وأكثر الظواهر إثارةً للعجب الآن، هي أن على الناس أن يرغبوا في العمل طوال الوقت. تهدف اللاسلطوية إلى تجريد العمل من وجهه المميت والرتيب، ومن كآبته وإلزاميته. وهي تهدف لجعل العمل أداةً للفرح والقوة والانسجام الحقيقي، حتى يصبح بمقدور أشد الناس بؤساً أن يجدوا في العمل متعةً وأملاً.

لتحقيق تسويةٍ كهذه في الحياة، لا بد من التخلص من الدولة ومقاييسها الجائرة والقمعية والتعسفية. فهي في أحسن أحوالها لا تفعل شيئاً سوى فرض نمط حياةٍ واحدٍ على الجميع، دون الأخذ بعين الاعتبار للاختلافات والاحتياجات الفردية والاجتماعية. تعتزمُ اللاسلطويةُ، عبر تدمير الدولة والقوانين الوضعية، أن تنقذ استقلالية الفرد واحترامه لذاته من الانتهاكات التي تمارسها السلطة. بالحرية وحدها يمكن للإنسان أن يبلغ مكانته الكاملة. وبالحرية وحدها سيتعلم أن يفكر ويتحرك ويقدّمَ أفضل ما لديه. وبالحرية وحدها سيتمكنُ من إدراك القوة الحقيقية للروابط الاجتماعية التي تجمع البشر معاً، والتي تشكل الأساس الحقيقي للحياة الاجتماعية الطبيعية.

لكن ماذا عن الطبيعة الإنسانية؟ هل هي قابلةٌ للتغيير؟ وإن لم تكن كذلك، فهل ستصمدُ في ظلِّ اللاسلطوية؟

أيتها الطبيعة الإنسانية المسكينة، كم من الجرائم الفظيعة ارتكبت باسمك! كلُّ الحمقى -من الملك إلى رجل الشرطة، ومن الكاهن البليد إلى الهاوي الأعمى للعلم- جميعهم يجرؤون على الحديث عن الطبيعة الإنسانية كمن لهم الأحقية. كلما ازداد الدجلُ العقليّ، ازدادت حدةُ الإصرار على أن الطبيعة الإنسانية خبيثةٌ وضعيفةٌ. لكن كيف يمكن اليومَ لأيٍّ كان أن ينتقدها، مع وجود كل تلك الأنفس السجينة والقلوب المقيدة والجريحة والمشوهة؟

لقد وضَّح جون بوروز جون بوروز John Burroughs ـ (1837-1921) عالم أميركي مختص بالتاريخ الطبيعي. أنَّ لا نفعَ على الإطلاق من الدراسة التجريبية للحيوانات وهي قيد الأسر. فهي تخضع لتحولٍ كاملٍ في شخصياتها وعاداتها وميولها عندما يتم انتزاعها من بيئتها الأصلية في الحقل أو الغابة. فمن إذن سيكون بمقدوره الحديث عن إمكانيات الطبيعة البشرية وهي محاصرةٌ في نطاقٍ ضيقٍ تتعرضُ للجلد يومياً في سبيل إخضاعها؟

فقط عبر الحرية وتوافر الفرص، وعبر السلام والسكينة قبل كل شيء، يمكن أن نفهم العوامل المهيمنة على الطبيعة الإنسانية، والإمكانيات المذهلة التي تمتلكها.

إنَّ ما تمثله اللاسلطوية إذن، هو تحرير عقل الإنسان من سطوة الدين، وتحرير جسده من سطوة الملكية، والتحرر من قيود الدولة وكوابحها. تمثّلُ اللاسلطوية نظاماً اجتماعيّاً مبنيّاً على التجمع الحر للأفراد في سبيل إنتاج رفاهٍ اجتماعيٍّ حقيقيٍّ؛ نظامٌ سيضمن لكل إنسانٍ حريةَ الوصول لخيرات الأرض والتمتعَ التامَّ بمستلزمات الحياة، وفقاً للرغبات والأذواق والميول الفردية.    

هذا ليس خيالاً جامحاً أو انحرافاً عقلياً. إنه النتيجة التي توصل إليها عددٌ كبيرٌ من المثقفين والمثقفات حول العالم؛ وهو النتيجة التي تنشأ عن الملاحظة الدقيقة والجادة لاتجاهات المجتمع الحديث: الحرية الفردية والمساواة الاجتماعية، القوتان التوأم لولادة ما هو حسنٌ وحقيقيٌ في الإنسان.

أما فيما يتعلق بالمنهج، فاللاسلطوية ليست -كما قد يفترض البعض- نظريةً للمستقبل تتحقق بقدرة الوحي الإلهي. بل هي قوةٌ حيةٌ تتصل بشؤون حياتنا، وتعمل باستمرارٍ على خلق ظروف جديدة. وعليه، فإن المناهج اللاسلطوية لا تتضمن برنامجاً متصلّباً ينبغي تنفيذه في ظل كل الظروف. بل يجب أن تُستخلص هذه المناهج من الاحتياجات الاقتصادية الخاصة بكل مكانٍ ومناخ، ومن المتطلبات الفكرية والدنيوية للأفراد. ستريد شخصية تولستوي الهادئةُ المطمئنةُ مناهجَ مختلفةً لإعادة البناء الاجتماعي، عن تلك التي تريدها الشخصية الحادة والانفعالية لميشيل باكونين أو بيتر كروبوتكين. وبالمثل، يجب أن يكون واضحاً أن الاحتياجات الاقتصادية والسياسية لروسيا ستفرضُ معاييراً أشدَّ قسوةً مما يلزمُ في إنكلترا أو أميركا. لا تعني اللاسلطويةُ الصرامةَ العسكريةَ والتماثلَ، إنما هي روحُ التمرد، بكل الوسائل، ضد كل ما يعيق النموَّ الإنسانيَّ. ويتفق جميع اللاسلطويين على هذا، كما يتفقون أيضاً على معارضة الآلية السياسية كوسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعيّ العظيم.

يقولُ ثورو: «ليس الاقتراع سوى لعبة أخرى، كطاولة النرد أو الداما، تتضمن قوانيناً للصواب والخطأ، ولا يتخطى الالتزامُ بها حدود النفعية. فحتى حين نصوّتُ لما هو صائبٌ، فإننا لا نفعلُ شيئاً في سبيله. الحكيمُ لا يترك الصوابَ والحق تحت رحمة الصدفة، كما أنه لا يأمل أن يسود عبر قوة الأكثرية». إنَّ فحصاً دقيقاً لآليات العمل السياسي ومنجزاته سيثبتُ منطق ثورو. 

ما الذي يظهره تاريخ الآليات البرلمانية؟ لا شيء سوى الفشل والهزيمة، دون أدنى إصلاحٍ للتخفيف من الضغط الاقتصادي والاجتماعي على الشعب. لقد سٌنَّت القوانين والتشريعات بهدف تحسين وحماية العمل. ومع هذا فقد ثبتَ خلال العام المنصرم أن مناجم ولاية إلينوي الأمريكية كانت تعاني من أسوأ الكوارث رغم صرامة قوانين حماية المناجم. وأن الدول التي تمنعُ قوانينُها عمالةَ الأطفال، تعاني من أعلى معدلات استغلال الأطفال. ورغم أننا -كعمال- نتمتع بفرصٍ سياسيةٍ كاملةٍ، إلا أن وقاحة الرأسمالية قد بلغت أشدّها حقاً.

حتى لو قُيِّضَ للعمال أن يحظوا بمن يمثلهم -الأمر الذي يطالب به سياسيونا الاشتراكيون الطيبون بشدّة- فما هي فرصة أن يتمتع هؤلاء الممثلون بالأمانة وحسن النية؟ على المرء أن يضع العملية السياسية في عين الاعتبار كي يدرك أن طريق النوايا الحسنة مليءٌ بالمزالق: اللعب من تحت الطاولة وشتى أشكال الخداع والغش -حيث يمكن لذوي الطموح السياسيّ أن يحرزوا نجاحاً- ويضافُ لهذا تثبيطٌ تامٌّ للشخصية والقناعات، حتى لا يبقى شيءٌ يمكن أن يأمله المرء من مثل هذا الإنسان البائس. مراراً وتكراراً، كان الناس حمقى بما يكفي ليثقوا ويصدّقوا ويدعموا السياسيين الطموحين بكل ما لديهم، فقط ليجدوا أنفسهم مخدوعين وقد تمت خيانتهم.

قد يدَّعي البعض أن من يتمتعون بالنزاهة لن يصبحوا فاسدين ضمن طاحونة السياسة. ربما لا، لكن أشخاصاً كهؤلاء سيكونون عاجزين تماماً عن إحداث أدنى تأثيرٍ لصالح الكادحين، كما أظهرت العديد من الحالات حتى الآن. الدولةُ هي السيد الاقتصادي لخدمِها المخلصين؛ أما الأشخاص الطيبون -إن كان لهم وجود- فعليهم إما أن يبقوا مخلصين لعقيدتهم السياسية ويخسروا الدعم الاقتصادي، أو أن يتمسكوا بالسيد الاقتصادي ويصبحوا عاجزين كلياً عن الإتيان بأدنى عملٍ صالحٍ. فميادينُ السياسة لا تترك للمرء أيَّ بدائل: إما أن يكون وغداً، أو مغفلاً.

مازالت الخرافاتُ السياسيةُ مسيطرةً على عقول وقلوب الجماهير، لكنّ عاشقي الحرية الأحقّاء ليس لهم أي شأنٍ بها. بل هم يؤمنون مع شتيرنر ماكس شتيرنر Max Stirner ـ (1806-1856) فيلسوف ألماني، عُني بالمفهوم الهيجلي للاغتراب الاجتماعي والوعي الذاتي. يعتبر أحد رواد الوجودية واللاسلطوية الفردية. أن الإنسان حرٌّ بقدر رغبته في أن ينال حريته. لذا فإن اللاسلطوية تعني الفعل المباشر والتحدي الصريح والمقاومة المفتوحة ضد كل القوانين والقيود الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. غير إن التحدي والمقاومة مخالفان للقانون. وهنا يكمن خلاص الإنسان في كل ما هو غير قانوني ويتطلب نزاهةً واعتماداً على الذات وشجاعةً. وباختصار، تخاطبُ اللاسلطويةُ الأرواح الحرة والمستقلة، و«البشر الذين هم بشرٌ بحق، ولديهم عظام في ظهورهم ليس بمقدور أحدٍ أن يربت عليها». الاقتباس هنا من كتاب «والدن» لهنري ديفيد ثورو.

إنَّ حق الاقتراع العام نفسُه مدينٌ بوجوده لفعلٍ مباشر. فلولا روح التمرد والتحدي التي تمتع بها آباء أميركا الثوريون لبقي أحفادهم عبيداً للملوك. ولولا الفعل المباشر لجون براون جون براون John Brown ـ (1800-1859) مناضل أميركي مناهض للعبودية. ورفاقه، لظلت أميركا تتاجر بلحم الرجل الأسود. إن النقابات المهنية التي تشكل حلبة الصراع الاقتصادي الحديث تدين بوجودها أيضاً للفعل المباشر. وفي الآونة الأخيرة سعت الحكومة والقوانين لسحق حركة النقابات المهنية، وأدانت أنصار حق الإنسان في تنظيم السجون بتهمة التآمر. لو أنهم سعوا لفرض قضيتهم عبر التوسل والتضرع والبحث عن التسويات، لكانت النقابات المهنية اليوم أمراً عديم القيمة. لقد أصبح الفعل الاقتصادي الثوري المباشر قوةً لا يستهان بها في المعركة في سبيل التحرر الصناعي، سواءٌ في فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا أو روسيا أو حتى إنكلترا (حيث يمكن ملاحظة تنامي تمرد النقابات العمالية الإنكليزية)، حتى بات العالم اليوم مدركاً لمدى أهمية وقوة العمل. منذ أمدٍ غير بعيدٍ كان الإضراب العام -التعبير الأسمى عن الوعي الاقتصادي لدى العمال- موضع سخريةٍ في أميركا. واليوم، على كل إضرابٍ عظيمٍ يود أن يحرز نصراً، أن يدرك أهمية الاحتجاجات العامة التضامنية.

إذ أثبت الفعل المباشر جدواه على المستوى الاقتصادي، فإن له الفعالية نفسها على مستوى بيئة الفرد. هناك مئات القوى التي تنتهك وجود الفرد، وما من سبيلٍ لاستعادة حريته إلا عبر المقاومة المستمرة وحدها. إنَّ الفعل المباشر ضد سلطة السوق، وضد سلطة القانون، وضد السلطة الطاغية والتطفلية للناموس الأخلاقي، هو المنهج المنطقي والمتسق الذي تتبعه اللاسلطوية. 

ألن تؤدي إلى الثورة؟ بالطبع ستفعل. ما من تغيير اجتماعي -على الإطلاق- تحقق دون ثورة. إما أن الناس يجهلون تاريخهم، أو أنهم لم يتعلموا بعد أن الثورة ما هي إلا فكرةٌ وُضعتْ قيد التنفيذ.

إن اللاسلطوية، خميرةُ الفكر العظيمة، باتت اليوم أكثر تغلغلاً في كل مناحي السعي البشري؛ في العلم والفن والأدب، وفي النضال في سبيل اقتصادٍ أفضل. إنَّ كل اعتراضٍ فرديٍّ أو اجتماعيٍّ على الاضطراب القائم يستمد نوره من روح اللاسلطوية. إنها فلسفة سيادة الفرد، ونظرية الانسجام الاجتماعي. وهي الحقيقة العاصفة والمتعاظمة والحية، التي تعيد بناء العالم وتعلن بزوغ فجرٍ جديدٍ.