في إحدى زنزانات ثكنة صيدا العسكرية جنوبي لبنان، حصل شجارٌ بين أحمد، اللاجئ السوري والقادم حديثاً إلى لبنان، ومجموعة من قدماء السجن المتنفّذين. وسريعاً انبرى ثلاثة شبانٍ فلسطينيين للدفاع عنه حتى أصبح الشجار ملكهم. أثمر ذلك أن لن يقربه أو يضايقه أحدٌ بعدها، وصار يسمى صديق الفلسطينيين.
في جلسة التعارف التي أعقبت ما حدث، وبعد تقديم أحمد لعبارات الشكر والامتنان للشبان، أخبرهم أنه جاء لاجئاً من جسر الشغور إلى لبنان عبر طرق التهريب، وهو ما كان سبباً لحبسه. أخبره الشبّان، بعد أن طمأنوه أن إقامته في السجن لن تطول وسيخضع لتسويةٍ يصبح بعدها في وضعٍ قانوني، أنهم من مخيم عن الحلوة، من «العرب»، ليرد عليهم أحمد قائلاً إنه عربيٌّ مثلهم، وإن الحدود «الحقيرة» هي التي فرّقت أبناء الأمة الواحدة، فانفجر الشبان ضاحكين مما قال دون أن يدري أحمد سبب الضحك. كان هذا بداية العام 2014، وقتها كانت جسر الشغور تحت سيطرة قوات النظام السوري، وكان أحمد، لأول مرة، يتحدث ويجلس ويأكل ويشرب مع فلسطينيين.
أول خطوة في عين الحلوة
بعد ثمانية عشر يوماً كان أحمد على موعدٍ مع الخروج من السجن والبدء بإجراءات التسوية التي أخبره عنها رفاق السجن الذين ودعهم، وبعد ثلاثة أشهر عادت الحرارة إلى أحد أرقامهم الموجودة مع أحمد، وبعد مباركته لهم بخروجهم أيضاً من السجن، دعوه إلى مخيّمهم، وسرعان ما لبّى أحمد الدعوة.
كان أحمد على موعد زيارة ثكنة صيدا مرة أخرى، لكن ليس إلى الزنزانة إنما إلى مكتب التصاريح، حيث سيمُنح رقماً يدخل به إلى المخيّم لمدة ثلاثة أشهر. ما لفت انتباهه أن جميع من معه في الطابور( 20 شخص تقريباً) كانوا سوريين، إذ لا يحتاج الفلسطينيون واللبنانيون إلى تصريح لدخول المخيم.
داخل أسوار المخيم كان عمر، رفيق السجن، بانتظار أحمد، واصطحبه إلى منزله في حي عرب الغوير، والذي يعود اسمه بفعل الذاكرة إلى قرية غوير أبو شوشة شمال فلسطين. وقتها عرف أحمد لماذا ضحك الشباب في السجن، وعلى غير ما اعتاده في جسر الشغور، كان سطح المنزل قاعة استقباله، حيث أطلقت 21 رصاصةً، دراكاً، من كل بندقية ابتهاجاً بالضيف الجديد.
«أنتو ما بتفزعوا من القواص؟»، وجّه أحمد سؤاله إلى أم عمر على مائدة الغداء في إشارةٍ إلى النساء والأطفال، وكان الجواب حاضراً: «الرصاص هون يمّا متل الخبز، موجود في كل بيت، والطخطخة عنوان الفرحة يلّي افتقدناها وقت صفينا بلا وطن، ومنخلقها في ظروفنا ومنوجدلها أسباب، مثل عملية فدائية في فلسطين، أسر جنود للاحتلال، موت شارون، سقوط حسني مبارك، عرس، نتائج البكالوريا أو البريفيه، طلع فلان من السجن، لقى شغل، إجاه طير حمام، خلّفت مرته، وطهور الصبي».
يقول أحمد: «ما خطر في بالي وقتها سؤال: كم من الرصاص سنحتاج في فرحنا بسقوط بشار الأسد، هل سيكفينا رصاص الدنيا؟». يبوح لنا بسر، وهو أنه حين تحررت جسر الشغور في 2015، كان إطلاق الرصاص باباً للتعبير عن فرحته رغم انضباطه وكرهه للحرب والسلاح. يقرّ أنه مخطئ، لكنه فعل ذلك، وقد يعيدها حين يسقط الأسد.
لأحمد الذي تزوج وكوّن أسرة في عين الحلوة قصّته، وقد روينا جزءاً منها، لكن يبقى سؤال: ما الذي يدفع آلاف السوريين للعيش في مكانٍ مثل مخيم عين الحلوة، تحيط به ثمانية حواجز عسكرية لبنانية من كل جانب، فضلاً عن جدارٍ أسمنتي يلفُّ المخيم مثل الحزام، وتعلوه الأسلاك الشائكة، عازلاً إياه عن محيطه الذي يحوي ثكنةً للجيش ومخابراته وأبراجَ مراقبةٍ ومخفراً للدرك. والأهم من هذا تواجد غالبية الفصائل العسكرية الفلسطينية في المخيّم، واندلاع اشتباكات مسلّحة بين الحين والآخر، خاصة عندما نضع في الحسبان أن السوريين فروا من الحرب التي أرهقتهم، وباتوا يبحثون عن الأمان.
تعريف بعاصمة الشتات
أُقيم مخيم عين الحلوة عام 1948 على أرضٍ مساحتها كيلو متر مربع واحد بهدف إيواء 15 ألف عائلة هُجرت من 36 قرية في قضاء الجليل شمال فلسطين، وكانت أسماء هذه القرى حاضرةً في أسماء أحياء المخيّم فيما بعد: مثل عمقا وطيطبا والصفصاف والزيب وصفورية ولوبية وحطين والمنشية والطيرة وغوير أبو شوشة.
تحوّلت الأحياء إلى كتلٍ أسمنتية عام 1952، وبنتها الأونروا بعد أن اهترأت الخيام. أما شوارعه فلم تحمل أسماء القادة الفلسطينيين، وهما شارعان فقط: الشارع التحتاني والشارع الفوقاني، لكنهما مليئان بصور القادة الفلسطينيين (ياسر عرفات وأحمد ياسين ومحمود عباس وغيرهم) وصور الفدائيين والشهداء، وشخصياتٍ كثيرة كلٌّ منها يتبع لفصيله.
امتدت بيوت االمخيّم الذي استمدّ تسميته من عين ماء عذبة على جانبي الشارعين، وبينهما مئات الأبنية المتلاصقة التي ازدادت وأخذت منحىً شاقولياً حتى كادت تلتقي في الطوابق العليا، في حين فُصلت «الزواريب» بينها على الأرض، وهي ممرات ضيقة منها ما لا يتسع لأكثر من شخصٍ يسير على قدميه.
وتقول الأونروا في معرّفاتها إنّ سجلاتها تحوي نحو 47 ألف فلسطيني مسجّل في المخيّم، يضاف إليهم اليوم الفلسطينيون الذين قدموا من سورية في رحلة لجوء ثانية، والسوريين الذين ازداد عددهم بشكل ملحوظ داخل أسوار المخيّم. هذه الزيادة تجلّت في إحصاءات غير رسمية قالت إنّ عدد سكان عين الحلوة قد وصل إلى 130 ألف نسمة في عام 2017، وأصبح أكبر مخيم فلسطيني في لبنان من حيث عدد السكّان.
صحيح أن الحرب السورية ساهمت في تضخم أعداد السوريين والفلسطينيين السوريين في المخيم، إلا أنها لم تكن بداية التواجد السوري فيه، إذ شكل المخيّم منذ ثمانينيات القرن الماضي سوقاً لتصريف البضاعة السورية، وفي مقدّمتها الألبسة والأحذية، والتي كانت مصدر جذب للباحثين عن فرص عمل في سوق الأعمال حرة.
أقرب إلى الوطن
لم يكن أحمد أول زائرٍ ومقيم في المخيّم من جسر الشغور، فقد سبقه إليه شخصٌ يسمى «أبو جبال»، يعرفه كثرٌ من سكان المخيم، ومنهم الحاجة سميرة التي أخبرتنا أن أبو جبال دخل عين الحلوة في ثمانينيات القرن الماضي، وبدأ بصنع الكعك «الذي لن تنسى طعمته»، وخاصةً المعروك السوري المحشو بالعجوة وجوز الهند، وذاك المدهون بالقَطر والذي يكثر بيعه وصنعه في رمضان حتى «أصبح أحد طقوس الفلسطينيين في الشهر الفضيل».
أوصى أبو جبال قبل وفاته منذ بضعة أشهر أن يدفن في عين الحلوة، على الرغم من أن الأونروا لم تخصص مقابر للسوريين، حيث يدفنون في قرية «سيروب» القريبة من المخيم، في مدافن خصصتها لهم دار الإفتاء اللبنانيّة. إلا إن أبناء المخيم جهزوا له قبراً وأقاموا له جنازةً كواحدٍ منهم كما أخبرتنا سميرة.
بين منتصف الشارعين الفوقاني والتحتاني يبرز طريقٌ بطول 250 متراً وعرض أربعة أمتار يصل بينهما، كان تجمّعاً لبائعي الخضروات والسمك. تقول سميرة إن السوريين «جعلوا منه سوقاً ساهم في شهرة المخيم ونموّه من الناحية الاقتصاديّة، وبات سوق عين الحلوة مقصداً لأبناء القرى المجاورة للمخيّم لرخص الأسعار فيه ولطيبة التجار الفلسطينيين والسوريين».
يقول أبو وليد، وهو سوريٌّ يملك محلاً للألبسة في المخيّم، إن أبو جبال كان سبب دخوله للمخيّم واستقراره داخله: «في بداية التسعينات كنت أفرد بسطة ألبسة تحوي إشاربات وجوارب وملابس نسائية خفيفة بالقرب من مدخل المخيم الشمالي قريباً من المشفى الحكومي. وقتها رآني أبو جبال وطلب مني أن أبيع في الداخل. عارضت الأمر في البداية نظراً لما يحكى عن أن ‘المخيم مليء بالزعران والبلطجية ويفتقد للأمان’. دخلت بعدها أمام إلحاحه الشديد وهرباً من الشمس التي كانت تكوي رأسي، ومنذ ذلك الوقت أنا هنا».
حصل أبو وليد، بمساعدة أبو جبال، على عربةٍ خشبيّةٍ ليضع عليها بضاعته بدلاً من فرشها الأرض، وسريعاً نمت تجارته لرخص الألبسة السورية ولافتقاد المخيّم لمحلّات الألبسة. بعد أشهر قليلة افتتح أبو وليد «أول محل لكافة أنواع الألبسة في سوق مخيم عين الحلوة».
هذا المكان يستحقُّ العيش فيه
فتح المخيم أبوابه للقادمين إليه من تجار وأصحاب بسطات سوريين وزائرين بهدف التبضع منه، ومع الوقت كبرت البسطات وبرزت الحاجة إلى محلات. هنا بدأت تتشكل ملامح سوق بمحلات مبنية ومرصوصة إلى جانب بعضها البعض على جانبي الطريق الذي يصل الشارع الفوقاني بالتحتاني، وسُقِف السوق بمبادرةٍ شارك فيها الجميع، وأنير ليلاً، وفي مواسم الأعياد لا يخلو من الأقدام حتى ساعات الفجر، وهكذا بقي إلى يومنا هذا.
بموازاة ذلك، كانت النساء تؤسس لإقامةٍ جديدةٍ ودائمة. بدأ ذلك من الاستغناء عن «عدّة» الإقامة المؤقتة: مثل الحصير وعددٍ قليلٍ من الطرّاحات وبعض أواني المطبخ، مقابل شراء «أثاث منزلٍ كامل لا ينقصه إبرة». تقول أم وليد التي تنحدر من قرية معرزاف في جبل الزاوية إنها صدمت حين دخلت المخيّم لأول مرة بناءً على رغبة زوجها الذي أراد الاستقرار هنا، وبدا لها أن هذا المكان لا يصلح للعيش: «أتيت بصبحة أطفالي الثلاثة، وكانت الجدران متروسةً بكاميرات المراقبة وصور القادة ورسومات لفلسطين وقراها والمسجد الأقصى والكوفية وحنظلة، بينما ينتشر المسلحون في كلّ حيٍّ وشارعٍ وزاروبة، ولا تفارق المسدّسات خواصر الرجال، بينما المنازل صغيرةٌ ومتلاصقةٌ لدرجة انعدام الخصوصية، ويكسوها الظلام نتيجة استحالة دخول أشعة الشمس إليها». تستدرك أم وليد كل ذلك: «لكنّهم احتضنونا مثل عائلاتهم»، ولعل هذا الاحتضان كان كلمة السر التي جعلت هذا المكان يستحق العيش فيه بالنسبة لأم وليد ولأي سوريٍّ قصد عين الحلوة.
وفق تقديرات اللجنة الشعبية في مخيم عين الحلوة، كان يوجد نحو 150 عائلة سورية داخل المخيّم قبل عام 2011. تقول أم وليد إن حالة التجانس والاندماج مثّلت باباً للدخول إلى المطبخ الفلسطيني والتعرف على أكلات فلسطينية مثل المفتول والكبة بالصينية والمسخّن والمغلي (شراب يقدّم بعد الولادة)، مقابل تعرّف الفلسطينيات على أسلوب الطهي السوري وإعداد المؤونة؛ مثل «الدوبيركة» و«المقدّد» وصنع «رب البندورة» بالطريقة المنزلية. تتابع أم وليد أنها في البداية كانت متمسكةً بطرق الطبخ التي تعلّمتها مقابل الطعام الفلسطيني الذي وجدته غريباً لتعقيدات صنعه ولكثرة البهارات الموضوعة داخله، ولكنها مع الوقت استساغت ذلك، فعلى سبيل المثال باتت بين الحين والآخر تطبخ المقلوبة الفلسطينية، وذلك بأن تضع الدجاج المسلوق في أسفل الطنجرة، ومن ثم تضيف الخضروات المقلية (بطاطا وباذنجان وزهرة وفليفلة)، وفوقها الرز (حصراً النوع الطويل؛ أي رز المنسف) والكثير من البهارات. في حين تطبخ سميرة بين الحين والآخر المقلوبة على الطريقة السورية، وهي وضع لحم الضأن وشرائح البندورة بدل الدجاج والاكتفاء بالباذنجان المقلي وبهار المقلوية فقط، مع استعمال الرز القصير. تخبرنا أنها أدمنت شرب الشاي بالقرفة، وهي مشروبٌ مفضلٌ لدى السوريين، ولاحقاً تعرفت على المتة التي أصبحت حاضرةً دائماً في بيتها.
وفقاً لذاكرة أم وليد، تروي أنه في عام 1995 قد طلبت السلطات اللبنانية من الفصائل الفلسطينية إخراج جميع السوريين من المخيّم، والحصول على إذن لمن أراد العمل داخله. تقول إنها لا تنسى تجمّع جاراتها في منزلها حين سماعهم بالخبر وتحلق الرجال حول زوجها في السوق، مبدين رفضهم لهذا القرار الذي جاء بذريعة «تنامي الفصائل الإسلامية والمتشددة في المخيم».
تضيف أم وليد: «الحمد لله أنه لم يتم اقتلاعنا من هذا المكان». تراجعت السلطاتُ عن قرارها وسط الاستهجان الفلسطيني العالي النبرة واستبدلته بإصدار تصاريح للسوريين تمنح مجاناً من ثكنة صيدا العسكرية قرب المخيم، وتُجدّد كل ثلاثة أشهر. والتصريح هو رقمٌ يسأل عنه الحاجز عند دخول السوريين والسوريات وخروجهم-ن من المخيم.
طول مدة إقامة عائلة أم وليد دفع زوجها وسوريون آخرون كثر إلى شراء منازل في المخيم. تخبرنا أن زوجها اشترى بيتاً بمساحةٍ كبيرةٍ وإطلالةٍ بحرية في قرية «شرحبيل» شمالي صيدا، إلا أنه لم ينم فيه ليلةً واحدة، وحتى ابنها الذي تزوج في الشقة الجديدة عاد للعيش في عين الحلوة بعد انقضاء شهر العسل، ليبقى المنزل فارغاً لسنوات، ولاحقاً أجّروه لعائلةٍ سوريةٍ لاجئة من حمص».
كانت «الجلّابيّة» واضحة الحضور في لباس الرجال السوريين، كما هي في متاجرهم أيضاً، إذ توافرت بقصّات كثيرة ومختلفة عن بعضها، وبأطوال تصل إلى الكعب وبأخرى لنصف الساق تراعي المتديّنين والمتأثّرين بالتنظيمات الإسلاميّة، بعدما كانت بقصّة واحدة ويندر وجودها في اللباس الفلسطيني باستثناء عائلات من غوير أبو شوشة وطيطبا، لكن بفعل والوقت والاندماج باتت حاضرةً في اللباس الفلسطيني، وخاصةً لدى الرجال فوق الأربعين سنة. مقابل ذلك، اعتاد شبان سوريون من أبناء الجيل الجديد لبس البناطيل شائعة الاستخدام لدى الشباب الفلسطيني، وهي ذات بناطيل ضيقة ذات جيوب كثيرة و«مزمومة» عند القدم تصنع من الكتّان أو الجينز، وسرعان ما طغى حضورها على رفوف المحلّات السورية بدلاً من بناطيل القماش التي باتت تنحسر موضتها حتى داخل سورية. كما جرّبت النساء السوريات تغطية رؤوسهنّ بالغطفة الفلسطينية، وهي حجابٌ يغطي الرأس حتى منتصف الجسم مع تبيان الوجه، في حين اعتادت النساء الفلسطينيات، وخاصةً كبيرات السن على لبس الإيشارب العادي، وهو حجاب يغطي الرأس والرقبة مع تبيان الوجه، لشعورهن براحة أكثر لدى ارتدائه مقارنةً بالغطفة.
ما لم يتشاركه السوريون والفلسطينيون هي أحاديث السياسة، خاصةً أنهم في بداية الأمر كانوا ينظرون -واللبنانيون مثلهم- إلى أي سوري على أنه رجل مخابرات، وخاصةً أبو جبال كونه كان يبيع الكعك وهذه «كانت سمة رجال المخابرات السورية في لبنان». مقابل ذلك كان السوريون ينهون أي حديثٍ يتعلق بالسياسة، وهذا يعود للخوف المشترك معهم من المخابرات. يقول أبو عادل، وهو سوريٌّ يملك محلاً لبيع الأحذية في المخيّم: «لم تحمل جدران المخيم صورةً لحافظ الأسد أو لابنه بشار في أي يومٍ من الأيام. كان هنالك كرهٌ غير معلن أمامنا للنظام السوري، مقابل ذلك كنا نستغرب ذلك، خاصةً أننا «كنا نعتقد أن الفلسطينيين قد حصلوا على حماية النظام السوري في لبنان، وعلى معاملة جيدة وحقوق مصانة خلال إقامتهم في سورية. عرفنا بعد قيام الثورة السورية أن معظم الأنظمة العربي، وفي مقدمتها النظام السوري، كان يتاجر بقضيتهم وبدمائنا ودمائهم، وما اختلف وقتها أننا صرنا نتشارك هذا الكره والرغبة بالانتقام في أحاديثنا العلنية».
رحالٌ جديدةٌ تحط في عين الحلوة
في عام 2011 قامت الثورة في سورية، وأدت الحرب التي تلتها إلى لجوء مئات آلاف العائلات السورية إلى لبنان خلال السنوات متلاحقة، وكان لعين الحلوة نصيبه ممن لجؤوا من فلسطينيي سورية ومن السوريين أنفسهم. شكّل هذا التوافد تضخّماً غير مسبوق في أعداد السوريين، إذ تشير تقديرات اللجنة الشعبية في المخيم إلى وجود ما يقارب 25 ألف لاجئ سوري و30 ألف آخرين من فلسطينيي سورية.
مثّل عين الحلوة ملاذاً لسوريين بالآلاف كانت قد وصلتهم أنباء المعاملة الجيدة لمن سبقهم، وسط ما لاقاه السوريون من بعض الدعوات العنصرية اللبنانيّة على المستويين الشعبي والرسمي، طالبت وما زالت، بإخراجهم من لبنان إلى أي مكانٍ في الدنيا. ليس هذا فقط، تقول أم أيمن اللاجئة السورية في المخيم منذ 2013: «إن إيجارات المنازل في المخيم تتراوح بين 30 و60 دولار أميركي، ولا تقارن بالإيجارات خارجه، حيث تبلغ ثلاثة أضعافٍ على أقل تقدير. كما أن الأونروا تدفع عن الجميع فواتير الكهرباء والماء دون أن تفرّق بين قاطني المخيم بحسب جنسيتهم، والأهم من ذلك رخص المعيشة المتمثل بانخفاض أسعار المواد الغذائية مقارنةً بمدينة صيدا، علاوةً على أجور الطبابة والخدمات الصحيّة والأدوية والألبسة والأحذية».
توسعت حلقة النشاط الاقتصادي للسوريين في المخيم، فيخبرنا من تحدّثنا معهم أن المخيم بدا كأيّ مكانٍ من سوريا التي افتقدوها، فلا كفالات أو إجازات عمل تفرض على العاملين، ولا وجود لأجهزة الرقابة التي تغلق المحلات والورش الصغيرة «للحفاظ على الاقتصاد اللبناني المتهالك». لذلك شهد السوق افتتاحاً لمحلّاتٍ تبيع الأدوات المنزلية وأخرى لخياطين وورش صغيرة لصناعة الستائر والأقمشة ومحلات لبيع الفروج واللحوم والمواد الغذائية، بينما وجد آخرون في أماكن خارج السوق أرضيةً مناسبةً لفتح مشاريع صغيرة لا تسمح بها وزارة العمل اللبنانية لمن كان سوريّاً، وبتنا نشهد محلات حدادة وموبيليا وألمنيوم وبيع وتصليح أدوات كهربائية وأجهزة خليوية ومطعماً للوجبات سريعة وآخر للفلافل والفول السوري المتميز بحبته العريضة.
يقول أحمد خليل، وهو صاحب ورشة حدادة في المخيّم، إنه تعثّر بالعمل في إحدى المدن الصناعية خارج المخيّم: «ليكون لديك ورشة في الخارج يجب أن تكون أوراق إقامتك نظامية، وهذا ما يفتقده غالبية السوريين في لبنان، وأن تحصل كذلك على شريكٍ لبناني تُسجّل المؤسسة باسمه كون هذا ممنوعٌ على السوري، وهو ما يعني أن تطير نصف أرباحك، فضلاً عن ارتفاع تكلفة استخراج الرخصة، إذ قد تصل إلى خمسة آلاف دولار، كما تحتاج إلى رشاوى وواسطات. أما هنا في المخيم فليس عليك إلّا أن تجد محلاً لتباشر فيه عملك».
فلسطين تشبه سورية
إلى جانب ذلك، هناك أمورٌ وجد فيها السوريون في هذه المدينة الصغيرة ما يشبههم أو يتّفق مع نمط حياتهم. يقول أبو مالك، وهو من حي صلاح الدين في حلب ومقيمٌ في المخيّم، إنه أثناء إقامته في صيدا «لطالما أبدى جيرانه انزعاجهم نتيجة سهر عائلته لساعاتٍ متأخرة، وهذا كان سمةً لدى شريحة من الحلبيين، على عكس اللبنانيين الذين يحبون النوم باكراً. مقابل ذلك، يبدو من المعتاد، خاصة في رمضان والصيف، امتلاء شوارع عين الحلوة بالناس حتى ساعات متأخرة، والسهر أيضاً، فضلاً عن لَعِب الأطفال في الزواريب بحرية دون أن ينزعج منهم أحد. يصيف أبو مالك: «هنا لا شرطة بلدية تمنعك الخروج بعد الساعة السادسة مساءً، ولا أحد يتأفّف منك، وطبيعة المنازل والتصاقها ببعضها البعض وارتفاع الكثافة السكانية جعل الناس متأقلمين على سماع الضجة، وبات الهدوء سمةً لا يعرفها المخيّم، وتُنسى بعد أول خطوةٍ من الحاجز».
«في القرى الواقعة شرق صيدا يحتاج شراء كيلو تفاح للمشي بضعة كيلو مترات، أما هنا فتمشي أمتاراً قليلةً لتحصل عليه. كل شي حدّك»، يقول محمد أيوب، وهو لاجئٌ سوري كان مقيماً في قرية اسمها الصالحية وانتقل إلى عين الحلوة في 2018. يخبرنا أيوب أن أكثر ما أعجبه هنا أنه كان يأخذ صحناً (زبدية) ويضعه في ميزان صاحب الدكان ليملأه باللبن، أو آخر يعطيه للفوّال ليملأه بالفول أو الفتة بحمص، وهذا طقسٌ يكرّره يوم الجمعة بعد الصلاة. يفرج محمد عن ابتسامةٍ عريضةٍ ليقول: «كأنك في معرّة النعمان».
«يللي بيعيش في عين الحلوة وبيشرب من ميتها ما بيقدر يعيش برّا»، عباراتٌ دائماً ما كانت تُسمع من أبناء المخيم وخاصةً كبار السن، تردّدتْ لاحقاً على ألسنة السوريين. يقر بذلك جلال، اللاجئ السوري الذي خبر تجربة الخروج من المخيم نتيجة حادثٍ أمني ثم عاد إليه من جديد. يقول إن حركتهم كانت محدودة ولا يسمح لهم بالتنقل في كل الأوقات، فضلاً عن حرمان أطفالهم من اللعب خارجاً. يطلب جلال أن ننقل ما حدث معه على سبيل الطرفة، إذ إنه ذات مرة دعا أحد جيرانه اللبنانيين لشرب فنجان قهوة، وما إن أتى حتى بدأ يسأله: «جار ليه ما بتفلّوا على بلدكم، تقريباً الحرب خلصت». يقول جلال: «في اليوم التالي سمعت كلامه، صحيح ما قدرت أرجع لبلدي، لكن رجعت لعين الحلوة. على الأقل في المخيم ما حدا بيطلب مني غادر وهوي بيشرب من قهوتي». يؤكد جلال أنه منذ عام 2017 لم تجرِ معارك داخل المخيّم، وما حدث بعدها لا يتعدّى إشكالاتٍ فردية.
لا تُفرض قيودٌ على تملّك السوريين للمنازل في عين الحلوة، فجميع منازل المخيم غير مسجلةٍ في دائرة التسجيل العقاري، إلا أنها صارت ملكاً لأصحابها بعد عشرات السنين. يقول أبو عادل الذي اشترى منزلاً له وآخر لابنه بعد أن تزوج: «إنّ لجنة العقارات والمساحة داخل المخيّم هي التي تنظّم وتوثّق عمليات نقل الملكية تحت إشراف الأونروا».
على صعيد التعليم، سُمح للسوريين القدامى أن يعلّموا أبناءهم في مدارس الأونروا، إلا أنه مع تزايد أعدادهم بعد 2011 لم تستطع مدارس الأونروا استيعابهم، خاصةً أن المفوضيّة قد تكفّلت بتعليمهم في المدارس اللبنانية بنظام دوامٍ صباحي ومسائي. تقول منى، وهي سيدةٌ سوريةٌ تعيش في المخيّم، إن لديها طفلان يتعلمان في روضة السنابل الخاصّة داخل عين الحلوة، وتؤكد أن السوريين هنا يبدون صرامة وإصراراً شديداً لتعليم أبنائهم، وهذا ما لمسوه أو بالأحرى تعلموه من الأهالي الفلسطينيين، إذ بات العلم وحصد الشهادات المخرج الوحيد لهؤلاء الشبان الذين حرموا من ممارسة أكثر من سبعين وظيفة في لبنان، ولذا يبحثون عنها في دول الخليج وبلدان الاتحاد الأوروبي.
ما عرضناه سابقا ليس دعوة للعيش في مخيم عين الحلوة، فلم يبقَ مترٌ مربعٌ واحدٌ دون أن يُبنى ويسكن. الكل هنا لاجئ، حتى أبو وليد الذي لطالما حاول نزع هذه الصفة عنه ورفض التسجيل في المفوضية قائلاً: «أنا هون قبل ما يولدوا موظفين المفوضيّة»، صار لاجئاً. أما الفلسطيني السوري، فصار يطلق عليه في سياق التندّر صفة «دوبل لاجئ»، ولديه حلمان بالعودة. ما أردنا أن نقوله هو إن الفلسطينيين كانوا ينتقمون من حالة العنصرية التي عاشوها منذ أيام المكتب الثاني للمخابرات اللبنانية أو الدرك اللبناني، إذ كان يمنع على أكثر من شخصين السير معاً، ولا يسمح لهم بالسهر بعد التاسعة ليلاً، إذ يأتي الدركي ويصرخ بالقرب من الشباك: «طفوا الضو وناموا» بحسب شهادة السينمائي الفلسطيني نصري حجاج في مقالٍ بعنوان «أن تكون فلسطينيّاً في لبنان»، لذلك كان غياب العنصرية وتشارك مصير اللجوء وتداعياته وحلم العودة سمةً مشتركة، وأصبح الاحتفاظ بمفتاح المنزل تقليداً حاضراً لدى السوريين في حكايةِ تطل على مأساةِ كبرى تدعى سورية، ومن قبلها ومعها فلسطين.