مقدمة فيرونيكا دورمان في ليبراسيون
عملَ مرتزقاً ضمن مجموعة «فاغنر»، مقتنعاً بعمله في خدمة «قضية نبيلة»، قبل أن يدير ظهره لحياته القديمة تلك. يقدم مارات غابيدولين أول شهادة علنية، دون إخفاء هويته، عن المعارك التي خاضها هذا الجيش الروسي السري في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، وكذلك في سوريا.
«ليس مارات غايبدولين ممن يتوبون طلباً للغفران، ولا يتحدث مُحذِّراً نتيجةَ صحوة الضمير، كما لم يقرر فجأة الانقلاب على المنظمة التي كان جزءاً منها كي يتبرأ منها. مارات جندي». هكذا تبدأ مقدمة الكتاب الذي يضم أول شهادة منشورة من نوعها لمقاتل من جيش فلاديمير بوتين السري علناً، دون إخفاء وجهه. صدر عن دار ميشيل لافون كتاب أنا مارات، قائد سابق في فرقة فاغنر، الذي يسرد على لسان مارات نفسه، دون إخفاء للصور أو الوجوه ودون تعديل للصوت. يوثق الكتاب بدقة الأماكن والتواريخ والعمليات المسلّحة. عمد غابيدولين، في الكتاب، إلى اختراع أسماء حربية لرفاقه ورؤسائه، وبذلك تحوَّلَ ديميتري أوتكين مؤسس الشركة العسكرية السرية (إس إم بي) المعروفة باسم فاغنر إلى «بِتهوفن». وأطلق مارات غابيدولين، ذو الرقم إم0346، على نفسه لقب «ديد»، أي الجد بالروسية، لأنه بأعوامه التسعة والأربعين كان من ضمن المرتزقة الأكبر سنّاً في «السرية» كما يسميها.
منذ مراهقته، افتُتن مارات بأفلام الحركة السوفييتية، وكان يستعد للالتحاق بسلاح الجو. ولكنه بعد خدمة دامت عشر سنوات، قرر عام 1994 ترك الجيش الروسي الذي كان يتفكك، وبدأ بالاقتراب من عالم الإجرام، ثم قتل رجلاً، ليقضي بعدها ثلاثة أعوام في السجن. عام 2015، التحق بفرقة فاغنر التي تأسست في العام السابق لدعم الانفصاليين المؤيدين لروسيا في إقليم دونباس الأوكراني. أُرسِل مارات غابيدولين إلى لوهانسك في أوكرانيا ثم إلى سوريا عدة مرات. عام 2019، ترك «السرية» مستاءً من مسارها، وقرَّرَ أن يروي حكايته. نُشرت رواية سيرته الذاتية مطلع العام 2022 في روسيا تحت عنوان مرّتان في النهر نفسه، وهي ليست كتاب اعترافات، وإنما حكاية يرويها مارات غابيدولين باسم رفاقه في السلاح، الذين، على حد علمه، لم يَسِر أي منهم في الطريق الذي أدى به إلى الانسحاب من الارتزاق والنظر بعين نقدية إلى الظاهرة، والأهم: تحديد آلية استخدام الكرملين للفرقة في حروبه الهجينة.
*****
لماذا قرّرتَ الحديثَ علناً وباسمك الصريح عن منظمة تعتبر سرّية في الغرب؟
بصراحة، لدي انطباع بأن الناس في الغرب يعرفون عن فاغنر أكثر مما يعرف عنها المواطنون الروس أنفسهم. أما عن العلنية فقد وجدت هذه الصيغة أكثر إقناعاً. سيصدقني الناس إذا لم أختبئ. كل تلك الفيديوهات المنتشرة عن فاغنر التي تُخفى فيها الوجوه وتُعدَّل الأصوات، تخلق الشكّ برأيي. أردتُ إسقاط الأقنعة وتقديم نفسي كما أنا، بعيوبي ونقاط ضعفي، كشخص حقيقي.
متى خطرت لك فكرة هذا الكتاب، ومن الجمهور الذي تتوجه إليه؟
منذ العام 2016، خلال فترة النقاهة.
كنتُ قد أُصِبتُ في تدمر في انفجار قنبلة يدوية. بعد استيقاظي من الغيبوبة، أمضيتُ شهراً طويلاً في النقاهة، فكّرتُ خلاله في تسليط الضوء على نشاط موظفي الشركات العسكرية السرّية. ولكنني، في المقام الأول، أردتُ أن أكشف حقيقة الحرب في سوريا. رأيتُ ما كانت وسائل إعلامنا تنشره وتبثه حول هذا الموضوع. لاحقاً، فهمتُ أن شأن إس إم بي (SMP) [فاغنر نفسها] مهم جداً لروسيا. نتظاهر في روسيا بأن المرتزقة غير موجودين، ونتصرف كأن هذه الظاهرة حكرٌ على الغرب وناجمة عن انحلاله، وكأنها الرأسمالية تكشر عن أنيابها. ولكن واقع الحال أننا نفعل ما يفعله الغرب، بل نفعل ما هو أسوأ.
فلنعُد سريعاً إلى تاريخ إس إم بي في روسيا.
كان أول المرتزقة في المرحلة التالية لسقوط الاتحاد السوفييتي هم الاختصاصيون العسكريون الذين حُشِدوا في مرتفعات قره باغ (كرباخ) أوائل تسعينيات القرن الماضي. لم يكن لدى جيشَي أرمينيا وأذربيجان عناصر قادرون على استخدام الأسلحة الحديثة. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، تفكّك الجيش، وتُرَِكت وحداتٌ وفرقٌ كاملة وحدها تواجه مصيرها. بعدها ظهرت شركات مثل مجموعة مورغان الأمنية ومجموعة آر إس بي، اللتان تخصصتا في مرافقة وحماية الشحنات التجارية. كان ذلك مقدمةً لظهور إس إم بي. إلا أن الخطوة الأهم كانت تأسيس القوة السلافية عام 2013، التي مثّلت أول ظهور للمرتزقة الروس في سوريا. وضمّت هذه المجموعة مقاتلين مرتزقة بشكل كامل دون أي تَدخُّلٍ من الدولة الروسية في حينه. أنشأ المجموعةَ رجلٌ جمع المقاتلين المرتزقة ووضعهم في خدمة أحد المتنفّذين السوريين. وهو ديمتري أوتكين قائد إحدى سرِيّتَي القوة السلافية. لدى عودة المقاتلين إلى روسيا، أُوقِفوا في المطار وحُكِم على المسؤولين عن تنظيم العملية بالسجن أربع سنوات، لأن فِرَقَ المرتزقة ممنوعة في روسيا.
ثم بدأ النزاع مع أوكرانيا عام 2014.
لم يكن الهدف من تأسيس مجموعة «فاغنر» القتال في أوكرانيا، بل حدث العكس. قال الكرملين: «فلنجمَع المقاتلين المتطوعين جميعاً وننظمهم ونرسلهم لمساعدة الانفصاليين في دونباس، الذين لن يتمكنوا وحدهم من تحقيق هدفهم». لم يكن الانفصاليون يتقنون شيئاً من الحرب إلا عرض الأسلحة في دونيتسك ولوهانسك ورفع الأعلام الروسية. ولكنهم كانوا يفتقدون تماماً لمهارات الحرب والقتال. مع مرور الوقت، بدأ المرتزقة الروس، الذين ذهبوا بشكل مُرتجَل وفوضوي، بتنظيم أنفسهم. وبدأت «السرية» تأخذ شكلاً واضح المعالم. ولكن، حتى تلك التشكيلات لم تكن مؤهلة لإنقاذ المنطقتين اللتين أعلنتا عن انفصالهما في جمهوريتين جديدتين، فقد كان الجيش الأوكراني في طريقه إلى الانتصار. لولا تدخل القوات المسلحة الروسية مباشرةً لما استمر النزاع، ولانتهى الأمر سريعاً.
ما هو الدور الذي أداه مرتزقة فاغنر عام 2014 في أوكرانيا؟
أُرسِل معظمهم إلى منطقة لوهانسك، حيث نفذوا مداهمات وكمائن وهجمات خاطفة دعماً للانفصاليين. وشاركوا في عملية «ديبالستيف» إلى جانب الجيش الروسي النظامي. كما تولوا مهمة نزع سلاح لواء «أوديسا» وتصفيته بعد تحوله إلى مجموعة من قُطّاع الطرق. كان اللواء يضمّ الموالين لروسيا في مدينة أوديسا ممن نجوا من الحريق الكارثي في مقر اتحاد النقابات [الذي أضرمه نشطاء قوميون متعصبون عام 2014، في حادثة يكررها بوتين باستمرار لتبرير حملته الرامية إلى «تطهير أوكرانيا من النازية» – المحرّر]. هؤلاء الذي كانوا ضحايا وأبطالاً تحولوا سريعاً إلى مجرمين.
عندما التحقتَ بمجموعة فاغنر، هل كنتَ تدرك أنكَ تشارك في منظمة غير قانونية؟
كنتُ أمر بظروف صعبة حينها. كنتُ تائهاً وعاطلاً عن العمل. عام 2015، حدّثني صديق مقرّب عن هذه الشركة التي يمكن أن تمنحني فرصة لبداية جديدة في عمل أتقنه جيداً، أي الحرب. أما ما يتعلق بأنها غير قانونية، فهذه مسألة نسبية في روسيا. لستُ مغفلاً، وحين انضممتُ إلى الفرقة، ذهبتُ إلى معسكر تدريب عسكري، وتلقيتُ سلاحاً، وتدرب الجميع هناك على القتال. أدركتُ أن وجود ذلك كله غير ممكن لولا رعاية السلطة. وكانت وزارة الدفاع الروسية هي من يزودنا بالسلاح والمعدات القتالية، بما في ذلك البدلات العسكرية والسترات الواقية من الرصاص. كانت وظيفة جيدة براتب جيد بالمعايير الروسية. بلغ راتبي الشهري 80 ألف روبل (980 يورو) في المعسكر، ثم 120 ألفاً (1500 يورو) مع انطلاق عمليتي الأولى. خلال مهمتي في سوريا، وصل راتبي إلى 180 ألف روبل (2200 يورو). وعدا عن هذا، كانت تلك طريقتنا في خدمة وطننا.
ما هي الوظائف التي أدّيتَها في مجموعة فاغنر؟
بدأتُ كجندي عادي، ثم أصبحتُ قائد مجموعة لفترة من الزمن، وبعدها عملتُ قائد فرقة استطلاع. بعد إصابتي، عُيّنتُ نائب قائد مجموعة هجومية. نظرياً، كانت مهمتنا الاقتراب من خطوط العدو، ومراقبة توزّع مقاتليه وتحديد الأهداف المحتملة. ولكننا في الواقع كنّا نهجم قبل الوحدات العسكرية ونتلقى النيران في الصفوف الأمامية.
طيلة العام 2018، كنتُ المستشار الأول للواء «صيادو داعش» الذي شكّله مقاتلون سوريون. عندها أيضاً، اضطررتُ إلى التواجد في أماكن لم يكن عليّ الذهاب إليها، تحت نيران العدو، وذلك لأنني رأيتُ أن القائد السوري لم يكن مستعداً لتنظيم هجوم، ما اضطرني إلى البقاء بجانبه.
أخذتكَ مهمّتك الأولى إلى لوهانسك؟
كان ذلك في حزيران-يونيو 2015. بعد شهرين، شعرتُ بأن هؤلاء الناس جميعاً [السكان المحليون] رهائن تحتجزهم ثلة من قطاع الطرق. أقنعتنا البروباغاندا الروسية بأن علينا الدفاع عن «العالم الروسي» المُهدَّد. ولكن، على الأرض، لم أجد للخطر شكلاً واضحاً، فقد كان المدافعون عن الجمهوريتين الانفصاليتين في لوهانسك ودونيتسك عاجزين عن شرح ما ارتكبته أوكرانيا بحقهم بوضوح. وبعدها رأيتُ بنفسي من خطوط التماس أن الأوكرانيين كانوا يتلقون نيراننا طوال الوقت. شخصياً، لم أتعرّض قطّ للنيران الأوكرانية.
بعد هذه المهمة الأولى، هل تغيّرت نظرتك للمقاتلين المرتزقة؟
نعم، بدأت الشكوك تتسلل إلى نفسي. لم أجد في أوكرانيا ما خضتُ هذه المغامرة من أجله. فأوكرانيا هي أيضاً بلادي، ولم أرَ أية إشارة على أن الأوكرانيين يريدون لنا السوء. ولكن، في ذلك الوقت، بدأت المهمات في سوريا. قالوا لنا: «ستذهبون لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية». هذه قضية حقيقية تستحق القتال من أجلها. وعدا عن ذلك، كانت المعركة في بلاد لا أعرفها، يسكنها شعب آخر، يسكنها عَرَب لم أبالِ بهم كثيراً. لم أكن ذاهباً لحرب أبناء وطني. كان العدو واضحاً جداً.
متى أدركتَ أنّك خُدِعتَ في سوريا أيضاً كما في أوكرانيا؟
منذ العام 2016. اكتشفتُ أولاً كذبة أن بشار الأسد شخص خيّر يقود جيشاً بطلاً يحارب غازياً أجنبياً. لا ريب في أن قتال تنظيم الدولة الإسلامية كان واجباً، ولكن بعد انتهاء تلك المهمة عام 2018، بدأت مرحلة جديدة. وكانت تلك المرحلة خطوة جديدة في إدراكي للحقيقة أيضاً. عندما يكون المقاتل مرتزقاً ويحارب من أجل قضية عادلة، فهذا أمر جيد. ولكن واقع الحال أن المقاتل المرتزق لا يختار معركته أبداً، ويُجبَر عاجلاً أو آجلاً على ارتكاب ما هو ضد قناعاته ومبادئه. فعلى سبيل المثال، كانت عملية دخول وتمشيط الغوطة مشاركةً في حرب أهلية لم يكن لها أية صلة بتنظيم الدولة الإسلامية. كان علينا نحن المرتزقة ضمان تقدم الجيش السوري النظامي، الذي كان عاجزاً عن إحراز نصر حاسم، ويهدد باستمرار بالتراجع، رغم دعم المدفعية والطيران الروسيين له. وكان علينا احتواء تقهقر الجيش وإعادته إلى موقع القوة. في تدمر، لم نواجه إلّا تنظيم الدولة الإسلامية. أما في الغوطة، فرغم أننا واجهنا مقاتلين من جبهة النصرة وتنظيم القاعدة، كان هناك أيضاً مقاتلون من الجيش السوري الحر، الذين كانوا من المعارضة لا من الجهاديين. أدركتُ حينها أننا نساعد مجموعة من الحمقى والجَهَلة على تدمير أفضل ما في بلادهم، أولئك السوريين العاديين، الذين دافعوا عن أنفسهم ببسالة، والذين افتقدناهم بشدة في حربنا ضد داعش.
في 7 شباط (فبراير) كنتَ في دير الزور، وتعرضتَ للضربة الجوية الأميركية الشهيرة ضد القوات الموالية للنظام. فقدتَ يومها الكثير من رجالك. ما الذي جرى في ذلك اليوم؟
كانت الخطة تقضي بأخذ حقل كونيكو للغاز، الذي تسيطر عليه القوات الكردية، بفرقتين و400 من المقاتلين المرتزقة. كانت مهمتي قيادة فرقة من السوريين المعروفين باسم «صيادو داعش». ولكن الهجوم لم يكن قد بدأ بعد عندما انفتحت أبواب الجحيم. سقطت علينا القذائف من كل مكان. بدأ الهجوم بالصواريخ، ثم فتحت المروحيات نيرانها. سقط قتلى في المؤخرة، واحترقت الذخائر والمقرات وكل شيء. كنتُ محظوظاً، ولم أُصَب إلا بجروح طفيفة، ولكن كان عليّ أن أقاتل للانسحاب عبر ساحة الموت تلك، عبر الفوضى. فقدنا يومها مئة رجل على الأقل.
في البداية نفت روسيا سقوط قتلى روس في ذلك اليوم نفياً قاطعاً، ثم اعترفت بمقتل خمسة من مواطنيها. ألم تكن القيادة الروسية على علم بالهجوم الذي كنتم على وشك شنّه؟
رسمياً، وواقعياً، لم يُقتَل أي جندي في الجيش الروسي. أما نحن المرتزقة، فبالنسبة لروسيا لم نكن موجودين ببساطة. لطالما نفت روسيا مشاركتنا، بل أنكرت وجودنا. لا ريب في أن القيادة الروسية كانت تعلم بالهجوم، ولكنها أنكرتنا.
لماذا تستخدم روسيا المرتزقة في حروبها الحديثة؟
تختلف وظيفة المرتزقة حسب الظرف. في سوريا، كان الهدف من وجودهم إخفاء الكلفة الحقيقة للنصر عن الشعب الروسي، وخلق الوهم بأننا حققناه بعدد قليل من القتلى، ولكن ليست تلك هي الحقيقة. أما في أماكن أخرى، مثل أوكرانيا، فالأمر أبسط بكثير، حيث تعمد روسيا إلى المرتزقة في هذه الحالة لأن إرسالهم سهل، قانونياً ولوجستياً، وهم مقاتلون مُدرَّبون مستعدون للقتال منذ اللحظة التي تطأ فيها أقدامهم الأرض التي يُرسَلون إليها.
ما كان رد فعلك حين قرَّرت روسيا الهجوم على أوكرانيا؟
راعني هذا القرار كثيراً. كيف يمكن أن أشعر بغير ذلك؟ هذا الغزو خطأ جسيم وجريمة.
ماذا تعرف عن مقاتلي مجموعة فاغنر الذين شاركوا في هذه الحرب؟
مقاتلو فاغنر موجودون على الجبهات كافة، وبصيغة شبيهة بما كان عليه الأمر في سوريا، أي أنهم يشكلون وحدات هجوم خاطف وسريع. جدير بالذكر أن النهج المفضّل للجنرال ألكساندر دفورنيكوف، الذي كُلِّف بقيادة «معركة دونباس»، هو الاعتماد على المرتزقة. فعل ذلك في تدمر عام 2016، فقد أرسلَنا لتحرير هضبة احتلّها تنظيم الدولة الإسلامية وعجز الجيش السوري عن استعادتها.
في الفترة الأخيرة، حيث يوجد مقاتلو فاغنر، تكثر الانتهاكات…
لا أريد الدفاع عنهم أو تجميل صورتهم، ولكن لم تَرِد تقارير بانتهاكات من الأماكن التي أُرسِل فيها المرتزقة لخوض الحرب، ومنها ليبيا مثلاً. تبدأ المشكلات والانتهاكات عندما يُطلَب من المرتزقة القيام بعمل الشرطة أو ما يشبهه، فهم معتادون على حرب عدو مُسلّح، وليست لديهم المعرفة القانونية أو المؤهلات النفسية لممارسة عمل آخر.
بعبارة أخرى، عندما لا تكون مهمتهم عسكرية صرفة، يرتكبون الفظائع والجرائم؟
أتمسّك بالأمل بأن مرتزقة فاغنر ليسوا المسؤولين عن هذه الفظائع. لم أشهد بعيني جريمة حرب. على العكس، رأيتُ سلوكاً إنسانياً جداً من بعض المقاتلين، كَدفن قتيل من الأعداء مثلاً. لم يكن مقاتلو فاغنر يقبلون ما يفعله الجنود السوريون من تمثيل بجثث أعدائهم.
ماذا عن الفيديو الذي انتشر، ويظهر فيه رجال يُعذِّبون سُوريّاً ثم يقطعون رأسه؟
نعم، تشير الدلائل جميعاً إلى أنهم كانوا من مقاتلي فاغنر، ولكنني لا أعرفهم. تشكلت هذه المجموعات على عَجَل، من دون فَرز حقيقي ومن دون إعداد وتحضير. عموماً، بعد العام 2017، بدأ تدهور القيم والأعراف الداخلية التي كانت تنظُم عمل السَرية. ولا ريب في أن ذلك يعود إلى قرار قيادة فاغنر بتحويلها إلى منظمة مستعدة لتحقيق أي شيء يُطلَب منها، والمشاركة في مختلف المهمات، من دون أن تعبأ بالأعراف الأخلاقية.
كيف تُقيّمُ ما آلت إليه مجموعة فاغنر اليوم؟
تحولت فاغنر إلى جهة قويّة ومفيدة جداً للدفاع عن المصالح الروسية في المناطق غير المستقرة التي تهزها المواجهات والانقلابات العسكرية وعمليات التطهير العرقي. ولكن تشكيلاً عسكرياً من حجم فاغنر لا بد من أن يكون له وجود قانوني يمنحه صلاحيات، ولكنه في الوقت نفسه يفرض عليه واجبات والتزامات أمام القانون الدولي. وما دام الكرملين ينفي وجود إس إم بي، ستبقى السرية خارج القانون. وبذلك، لا تتحمل الدولة الروسية مسؤولية سلوك مواطنيها ولا مصائرهم. وفي الوقت نفسه، يناسب هذا الوضع قيادة فاغنر، فهو يتيح لهم الحفاظ على احتكارهم الكامل لمجال المرتزقة. لا منافسة ولا محاسبة من أي نوع.
هل تعرف ديمتري أوتكين شخصياً؟
نعم، كنتُ قائد فرقة استطلاع تحت قيادته. إنه قائد عسكري حقيقي، يتواجد دائماً على الأرض ويشارك في المعارك. في عامَي 2015 و2016، كان دائماً في الخطوط الأولى. في البداية، كان مثالاً عن القيادة بالنسبة لي، وكنتُ أكنّ له الكثير من الاحترام. ولكن مع تطور وعيي، تغيرت نظرتي له أيضاً.
هل ساهمت شخصيته وأسلوبه في القيادة في تدهور قيم السرية؟
بالطبع، فهو من يحدد التوجهات. ما آلت إليه السرية نتيجةٌ لرؤيته، ولم يعد هناك من يحدّ من اندفاعه. وهو رجل عنيد وليس لديه أي حدود أخلاقية، كما أنه لا يقيم أي اعتبار لحياة البشر، إذ لم يَعُدَّ يوماً الضحايا.
وماذا عن يفغيني بريغوجين، «طباخ بوتين»، الذي يُعَدّ الراعي الأساسي لمجموعة فاغنر، هل تعرفه؟
لا أريد الحديث عن الأفراد. أُفضّلُ مناقشة الظواهر. لو لم يكن هو من يرعى فاغنر، لرعاها غيره. أن نقول غيرَ هذا يشبه أن نقول إنه لو قاد الاتحاد السوفييتي رجل غير ستالين في تلك الفترة، لكان الحال أفضل. ولكن هذا ليس صحيحاً. لو حدث ذلك، لكان القائد طاغيةً شبيهاً باسم مختلف.