*****
كما تعلمين، أنا أنتمي للسوريين الجُدد الذين وصلوا إلى كندا في السنوات الست الأخيرة، بينما أنتِ لا يمكن اعتبارك فرداً من تلك الموجة الحديثة، ورغم ذلك يبدو لي أنّك منشغلة بنا أكثر مِنّا. كلّميني عن موقعك بالنسبة لموجات الهجرة السورية، وأثرها على الهوية المركبة. ربما يمكننا أن نستغلّ الإجابة لتُعرّفينا بشكل أكبر عن خلفيتك الدراسية والمهنية أيضاً؟
دعنا نبدأ بتحقيب زمني بسيط. ولدتُ في سوريا في الـ 82. عشتُ طفولتي ومراهقتي في حلب حتى مطلع الألفينات. هذا يعني أنني قضيتُ مرحلة الدراسة المبكرة في المدارس السورية، وأعلمُ كيف يجب أن نضع السيدارة والفولار الطلائعي، وكيف تُرتدى ملابس الفتوّة في مواعيدها المحددة. بعد أن بلغتُ الثامنة عشرة، تابعتُ دراستي الجامعية في كندا، وخلال عقد من الزمن، بين عامي 2000 و2010، كنتُ أعود أربعة أشهر كاملة من كل سنة خلال فترة الصيف إلى سوريا. ومن ثم انقطعت الزيارة بعد اندلاع الأحداث.
كهوية، الأمر محسوم وواضح في داخلي، فأنا سوريّة تماماً، لكنني أستطيع أن أضيف بأنني «حلبية كوزموبوليت»، فأنا أنتمي إلى عائلة عاش نصفها في الخارج منذ زمن بعيد. العديد من أخوالي وخالاتي متزوجون من أجانب، لديهم أولاد كبروا تماماً في الخارج، يقومون بزيارات خاطفة لحلب طمعاً في مطبخها لا أكثر. أما أنا ربيتُ في سوريا؛ تأسيس شخصيتي، طموحاتي، حصتي من الرضوض النفسية، نظرتي للحياة… جميعها سوريّة الصنع. يبدو لكثيرين أن هناك استحالة في تصوّر هوية سورية مُركبّة في الوقت الحالي، هوية كوزموبوليتية، فالنظام الذي ظل أكثر من خمسين عاماً، وحصر السوريين في قوقعتهم المصمتة، جعلَ من الذين يقضون أعواماً في الخارج «منقوصي السوريّة» في نظر الآخرين. دراستك في الخارج تُصبح شبهةً، وإتقانك للغة أخرى يغدو حاجزاً بدلاً من ميّزة. وذلك رغم أنّ حلب تاريخياً مثالٌ عريق عن الاختلاط وإمكانية التعايش الكوزموبوليتاني. يتّضح الأمر لك عندما تراقب البيروتي واتساق شعوره بكونه كوزموبوليت دون الانتقاص من لُبنانيته.
على العموم، عندما أجلس الآن مع السوريين من أصدقائي من المحافظات المختلفة، والذين بمعظمهم ينتمون إلى السوريون القادمين إلى كندا حديثاً، أشعر بأنني أشبههم، فذاكرتنا مشتركة رغم استقراري هنا منذ مدة طويلة. يدعونني مازحين «أميرة حلب»، يحمل اللقب الهزلي إشارة مبطنّة من قبلهم لاتهامي بـ«البرجوازية». أضحكُ في مواجهة تلك التهمة وأتفهَّمُ منابعها كما ذكرتُ لك.
من ناحية الدراسة، درستُ في كلية الإعلام. عملتُ في الصحافة لمدة ليست طويلة، لكنني لم أكن أتقنُ عملي. أدركتُ حينها بأن «الحقيقة» لا تهمّني، أو دعني أُعيدُ صياغة الجملة كي لا أثير غضبك: الأمور كما تراها العين لا تهمني، وجدتُ أن الحقيقة ليست واحدة، وأنني بكتابة الفيكشن أكون أقرب للحقيقة الداخلية التي أشعر بها. أرى أن الواقع يختزل الحقيقة، تثيرني الاحتمالات والإمكانيات، تُثيرني الفرص الضائعة، وكل ما يمكن أن يكون لكنّه لم يكن. سببٌ آخر يبعدني عن الإعلام هو شَلَلُ العواطف المفروض على العمل، كيف أستطيع استبدال شلال العاطفة الكامن في داخلي بشَلَل؟ لا أستطيع بالتأكيد، «أنا بكتب بقلبي».
ومن ثم درستُ المسرح، كتابة مسرحية وإخراج ونقد، ومن بعدها قمتُ بدراسة السينما، ودخلتُ عالم الـ interactive media، وبدأت بالتوجه نحو العمل مع الأطفال، وأخيراً وصلنا إلى دنيا، ومن بعدها سأصنع أشياء أخرى.
شاركتِ في انشاء منظمة «البيت السوري» غير الربحية عام 2013 في مونتريال، في مرحلة مُبكّرة من الصراع السوري. حدّثيني عن دافع تأسيسها. هل استبقَ الاسمُ أزمةَ لجوءٍ لا مفرّ منها؟
صحيح أن اللجوء السوري الكبير إلى الخارج لم يكن قد وصل ذروته حينها، لكن النزوح الداخلي كان قد بلغ حدّاً مأساوياً، وتكاثرَ عدد المدن المُدمَّرة بسرعة رهيبة. الأهمُّ من ذلك أنني كنت خارج بيتي، مُبعدة عنه. كنت أتوق لهذا البيت. أنشأنا «البيت السوري» لأن الثقافة السورية ثقافة بيوت. لا يستطيع السوريّ أن يشعر بأنّه حيٌّ طالما انتُزِعَت منه القدرة على استقبال الزائرين في بيته. عندما فقد السوري بيته وأصبح عرضة للاستقبال يميناً وشمالاً، تهددت إحدى أعمدة هويّته. جاءت فكرة «البيت السوري» لتحاول أن تُرمِّمَ عماد الهوية المتصدع، وتعيد للسوريين الحق في استقبال زوّارهم.
دافعٌ آخر لاختيار التسمية هو تشابه البيت السوري التقليدي من حيث العمران بالشخصية السورية كما أراها. نتّصفُ بالحياء وربما الخجل والتكتم عندما تراقبنا من الخارج، كما الشوارع في الحارات القديمة التي تفصل بين الدور، ملساء كتيمة لا تفضي بما داخلها بسهولة. لحظة عبور الباب الصغير، تنفجر أمامك جنّات صغيرة مليئة بالحميمية، أشجارٌ حُبلى بفاكهة ملوّنة وفسحة يتوسطها بحرة لا تتوقف عن الجريان، تماماً كشخصياتنا عندما تُعاينها عن قرب، عندما تُشمَل في دائرتها الصغيرة، عندما تدخل إلى بيتها.
حدثيني عن نشاطات «البيت السوري»، مَن هم المدعوون للاحتماء في هذا البيت والاحتفاء به؟
أولى نشاطات البيت السوري، والتي قدحت شرارة تأسيس المنظمة، كان المشاركة ضمن فعالية Festival orientalis، التي تقام سنوياً في شهر آب (أغسطس) عند المرفأ القديم في قلب مونتريال. طلب مني أحدُ المنظمين مساعدتهم في إيجاد جهة تستطيع الاهتمام بإنشاء زاوية للجالية السورية. أخذتُ الموضوع على عاتقي وانبثقت فكرة إنشاء مجسّم يحاكي البيت السوري التقليدي، دفعني إلى ذلك حنيني الشخصي الناتج عن فقدان القدرة على العودة إلى بيتي. وبالفعل، استطعنا بمساعدة خبراء ديكور وتقنييّ صوت أن ننشئ محاكاة دافئة لبيت سوري عتيق. استقطب الحدثُ العديد من الزوّار، من عرب وأجانب، وخلقت تلك التجربة المجنونة إحساساً بالحاجة إلى مساحة آمنة ليمارس فيها السوريون حقّهم في الاحتفاء بضيوفهم.
ومنذ النشاط الأول، برزت معضلة انقسام السوريين الحاد، بعضهم يطالب برفع علم الثورة على البيت والآخرون يصرّون على رفع العلم التقليدي المحسوب على النظام. الطرفان يُعيرانني بالخوف. رغم ذلك، رفضتُ رفضاً قاطعاً الانصياع، أعلنتُها بصراحة: «بكسر إيدو يللي برفع أي علم عالبيت»، وتمسّكتُ بأهمية رحابة البيت للجميع، وأعتقد أنني كنتُ على حق. أرى أن تواجدي في الخارج مكَّنني من ملاحظة خطر انقسام السوريين مبكراً، وملاحظة أهمية إنشاء مبادرات لا تستسلم للإقصاء القطعي وشيطنة الآخر. الصراع السوري قائمٌ ولا يَخفى على كائن عاقل، لكنني لا أقبلُ بأن أُشرف على مشروع يُدعى البيت السوري ويستسهل حرمان بعضهم من فرصة الدخول إليه.
ومع ازدياد تدفق اللاجئين السوريين إلى المدينة، تتالت النشاطات والمبادرات. شاركنا في العديد من الفعاليّات للتعريف عن الثقافة والفنون السورية، أقمنا عروضاً موسيقية، استضفنا مختصّين لإعطاء محاضرات تاريخية عن منطقتنا، نظمنا ورشات تعليم تهتم بالمطبخ السوري. أتحنا مساحة للسوريين القدامى والجُدد، القادمين من مناطق وطبقات وأديان متنوعة، كي يعملوا معاً داعين الناس من مختلف التوجهات والاختصاصات لاكتشاف الحضارة السورية بعيداً عن ويلات الحرب.
أصدقاء البيت السوري ومرتادوه هم السبب الأساسي في نجاحه، هم الذين حملوا البيت على أكتافهم ببساطتهم وطيبتهم. من الطريف أننا اعتدنا أن نفتعل عرساً تقليدياً في نهاية كل نشاط ننظمه، إحدى صديقاتي تتقمص وضعية العروس وتضع طرحة على رأسها، وتختار عريسها بتلقائية اعتباطية، وقد يقع الاختيار أحياناً على أحد الأجانب المشاركين في النشاط، وتنطلق بعدها الزغاريد ومحاكاة بسيطة لعَرَاضة، ويتهافت الجميع للاحتفاء بالعروسين المؤقتين اللذين يُحملَان على الأكتاف، وقد يستمر بعدها الرقص لساعات. أصبح العرس العفوي تقليدنا الهزلي الدائم غير المُخطَّط له.
تُعرِّف المنظمة عن نفسها على موقعها بأنها مساحة «رحّالة» للاحتفاء بالثقافات السورية في الماضي والحاضر والمستقبل. اجتذبتني كلمة «رحّالة» في وصف المنظمة، وحرّضتني لأغوص أكثر معكِ في المفهوم السابق، الذي أرى فيه تخفيفاً أنيقاً عن مصطلح «منفيّ» الذي وجد فيه العديد من السوريين أنفسهم وهم يحملون ثقافاتهم على أكتافهم.
أتفق معك بأن وصف «رحّالة» هو اختيار أنيق لوصف المرحلة. وقد وسمتُ كلّاً من «البيت السوري» ودنيا بهذه الصفة. لكنني أشعر بأن علينا واجب الاختيار، اختيار نظرتنا لأنفسنا، هل نحن «رحّالة» أم «منفيّون»؟ إن استطعنا أن نغيّر صورتنا عن ذواتنا سينقلب عبء لجوئنا إلى قوة كامنة لدينا كشعب لفهم العالم. الدرس الذي يقول بأن كل الأشياء مؤقتة، كل الأشياء لحظية، هو درسٌ عميقٌ وصعبُ الهضم. في حالة الشتات السورية تعلّمنا الدرس بالطريقة الصعبة، ويجب أن نستثمر فيه لنبدع ونتحرر. أكره التشبيه الذي يدّعي بأننا أشجارٌ اقتلعت من جذورها، وعليها أن تبحث عن أرض ثانية لتضرب جذورها من جديد، فالجذور تُحيل إلى وهم الثبات، وأنا أؤمن بواقعية الترحال وانتفاء الديمومة.
يُعيدني حديثك عن وهم الجذور إلى قميص صيفي اعتدنا ارتداءه بفخر في أوائل الثورة. القميص صمَّمه صديقنا. يتوسط القميص الأبيض كلمتا «أنا بقيان» بالخط العريض الملوّن، ويعتمد التصميم على تطاول جذور غزيرة من الكلمتين السابقتين. أتساءل: كيف خلعنا القميص والمفهوم، وتحولت الـ«أنا بقيان» إلى «رح أطلع بأقرب فرصة»؟ كيف تقرئين هذا التحول من زاوية قُدرتنا على الالتزام بالقضايا مستقبلاً؟
لا يَخفى على أحد أن سوريا الأسد كانت كالسجن الكبير، ورغبتنا بالخروج منه مفهومة ومتوقعة. عدا أن سياسة النظام على مرّ السنين خلقت شرخاً أصيلاً في شعور الانتماء، في اعتبار أن البلد الذي نسكنه مُلكنا. وأضيفُ خصوصية إضافية لدى مجتمع مسيحيي حلب الذي نأتي منه كلانا، فليس من النادر تَواجدُ بعض الأقارب المستقرين خارج البلد لدى الكثير من تلك العائلات، مما ساهم في تسهيل السفر المبكر هرباً من الدمار. وأَزيدُ بأن جيلكم الذي عاصر الثورة والحرب والخيبة كسبَ نضجاً لا يملكه من تجاوز السبعين. فأنا عموماً غير مؤمنة بالانحلال داخل قضية كبيرة، أقصد فناء الذات في سبيل فكرة أو موقف. الحقيقة تكمن في اللحظة الحالية، شعوب كاملة عالقة داخل الإيمان بقضايا كُبرى لا تترك قيمةً للفرد. أحبُّ أن أذكر مقولة ساخرة لشاعر فرنسي يدعى جورج براسانس يقول فيها: «نموت لأجل أفكار، بالتأكيد، لكن بدون عجلة».Mourons pour des idées, d’accord, mais de mort lente.
دعينا نتكلم قليلاً عن مسلسل دنيا. نرى دنيا في المسلسل تكبر ضمن حي قديم يقع في محيط قلعة حلب، تقطن في بيت عربي تقليدي فسيح، وتزور جدها الذي يعمل في السوق الشعبي. رغم جمالية البيئة المختارة، هل شعرتِ بخطورة تكريس الصورة النمطية عن حلب -والمتداولة في الغرب- التي تختصر المدينة بمحيط القلعة وتضفي حسّاً استشراقياً على العمل؟
أعتقد أن سؤالك مُحقّ، لكننا يجب ألا ننسى خصوصية الأعمال المتعلقة بالرسوم المتحركة للأطفال. دنيا ليس عملاً وثائقياً، دنيا تروي حكاية نفسية، حكايةً داخليةً للشخصيات بالمرتبة الأولى. في حالتنا هذه نُسخِّرُ الرمزيات لتلعب أدواراً جمالية في القصة، وتضفي كاركاتيراً مُميزاً على الشخصيات. على سبيل المثال، لنأخذ شخصية جدو درويش، كهلٌ بشوش يتجاوز الستين من العمر، يعمل في السوق الشعبية قرب القلعة، يهوى الموسيقى والمزاح. إلى حد اللحظة كل ما ذُكر طبيعي وشائع، ولكي أُضيفَ طابعاً فريداً مكملاً لهيكله، ألبسته طربوشاً علماً أنّه من شبه المستحيل أن ترى أحداً ما يزال يرتدي الطربوش في يومنا هذا. دعنا من جدو درويش ولنتحدث عن زوجته تيتا مونة: تطلّ الرمزية انطلاقاً من اختيار اسمها الذي يضفي شعوراً بدروها الفاعل في الاطمئنان بأن جميع أفراد العائلة سيحصلون على غذاء كافٍ، عدا عن شكل جسدها المكوّر الضخم المستند إلى قدمتين هزيلتين، جسدها الذي يحاكي جسد السيدات الحلبيات المُنهكات، ويتجاوزه بمبالغة متعمّدة لتغدو شبه خيمة تلتجأ العائلة في ظلّها أثناء القصف. تلك المبالغات هي جزءٌ من لعبة صناعة الرسوم المتحركة، وتزيد في جماليتها. أعتقد أنني حاولتُ الابتعاد عن الصورة النمطية الغربية قدر الإمكان، ويشهد على ذلك، على سبيل المثال، اختيار ألوان بشرة متنوع للشخصيات لتحاكي طيف بشرة السوريين. ثم انظر للشخصيات بحدّ ذاتها، ترى العربي والكردي، المسلم والمسيحي، المُحجَّبة وغير المحجّبة… نسيج حيّ مماثل لروح المدينة لا يستطيع تجسيده إلا ابن المدينة.
بما أننا ذكرنا إحدى شخصياتي المفضلة جدو درويش. في الحلقة الثالثة يُطمئِنُ الجدّ حفيدتَه دنيا بألّا تحزن لفقدان منزلهم، «فبيتنا هو العالم ومفتاحه هو قلبنا». تبدو تلك الرسالة الدافئة مليئة بالمحبّة. كيف كان وقع مسلسل دنيا على السوريين الذين خسروا بيوتهم بالفعل ولم يتمكنوا من الحصول على بديل؟
نستطيع أن نقول بأننا جميعاً خسرنا بيوتنا بشكل أو بآخر، حتى ولو بقي الحجر سليماً. لكي أكون صريحة، لم أتجرأ على عرض مسلسل دنيا في مخيم للّاجئين، رغم أنني أرى دنيا كفتاة مخيّم بالمرتبة الأولى، والمسلسل صُنع من أجل أطفال المخيم. في القصة نرى دنيا تلجأ إلى كيبيك، وهذا ليس مفاجئاً، فالمشروع خُلق هنا وكُتب هنا وأُنتج هنا، والجمهور الأولي المتوقَّع لتلقيّ العمل كان سكان مقاطعة كيبيك، واعتمدتُ بذلك نوعاً من الحيلة الحكواتية، حيث تبدأ قصتك بما يشبه المتلقيّ وتنتهي بشيء مغاير أو العكس. لكنني أذكرُ الصدامات العديدة التي تعرضّتُ لها خلال صنع الحكاية. أحد المنتجين اشتكى بأننا وصلنا الحلقة الثالثة وما زلنا في حلب: متى ستبدأ رحلة اللجوء؟ يتملكني شعور بالغضب عند استعادة ذلك، كيف أستطيع أن اختزل مدينتي بلقطتين! رفضتُ ذلك بالطبع. يتوّلد لديّ إحساسٌ أحياناً بأننا نُعامَل كفولكلور متحرك أحادي البعد ليس أكثر، نُعامَل كدرجة ثانية رغم إرثنا الحضاري العظيم، وكأننا لسنا جديرين بسرد حكايتنا من منظورنا. أَحدثُ مثال على ذلك هو رهافة تعاطيهم مع اللاجئين الأوكران مقارنة بلاجئي منطقتنا. لذلك، فإن أحد الدوافع الرئيسية لخلق دنيا، هو «استعادة الحقّ برواية القصة على لساننا نحن». وهذا يتطلب زمناً طويلاً لتحقيقه، دنيا تشكلّ خطوة على هذا الطريق. أراها كوردةٍ في حقل من البشاعة.
تَعمدُ دنيا خلال رحلة اللجوء القاسية إلى استعمال «حبّة البركة السحرية» لتذليل عقبات السفر الكثيرة، قد يكون من السذاجة محاولة إحلال رمزية مباشرة مختبئة بصورة حبّة البركة، لكنني شعرتُ بأنها توحي بما يشبه كونه إرثنا الحضاري وتراثنا الذي يساعدنا في إعادة البريق لاغترابنا القسريّ. هل أصبتُ في تأويلي لذلك؟
هي بالضبط كذلك. هنا يجب أن نُركّز على حامل حبّات البركة أيضاً، دنيا الطفلة بطلة القصة هي من تَستخدم حبّات البركة ذات الوقع السحري. دنيا ترمز إلى طفولة شعب كامل، وأقصد بالشعب الكامل ملايين اللاجئين السوريين في البلدان المختلفة، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لتعلّم لغة جديدة والتأقلم مع عادات مغايرة، شعب بأكمله عاد ليكون كالطفل يحتاج إلى تعلّم الكثير، لكنّ قبضته مليئة بحفنة من حبّات البركة التي تُمثّل حضارته وتاريخه اللذين يساعدانه في عبور رحلته النفسية والجسدية. سيحمل الموسم الثاني مزيداً من التفاصيل عن مشقّة التأقلم وحياة ما بعد اللجوء.
تذكرين «حضارتنا وتاريخنا» في إجابتك السابقة، وأستطيع تمييز نبرة صوتك المليئة ثقةً بهذا الماضي، كيف نستطيع تسخير هذا الماضي لامتلاك مستقبل تائه؟ تستوقفني رغبة لاستثارة رأيك في القول التالي: «الحنين شعور غير مُجدٍ».
تلك الجملة قاسية ولا أتفق معها. أرى أنّ الحنين خلّاق، وهو ما يدفعنا لإنجاب الأطفال. ربما لأنني أمتلكُ حنيناً كبيراً لطفولتي، دعني أشتقّ كلمة أخرى وأتحدث عنها؛ الحنان. عند الحديث عن الماضي أمتلئُ حنيناً وحناناً. تحتاج الأولى إلى الثانية للتحرّر من اجترار الماضي نحو الانطلاق إلى مرحلة الفعل. مسلسل دنيا هو عملية حنان. من الشائع القول بأن سوريا هي أمّنا، الوطن الأم، أنا لا أراها كذلك. أرى سوريا كابنتي، الطفلة التي تحتاج أن تُحضَن بحنان.
أعلمُ أن دنيا تَحوّلَ إلى فيلم وسيُعرَض عن قريب، هل سنحصل فيه على مزيد من التفاصيل عن والدَيّ دنيا، الأم التي غيّبها الموت والأب الذي غيّبه السجن؟
بالتأكيد يوجد بعض التفاصيل الإضافية عن والدَيّ دنيا ستعرض في الفيلم. أمّا تغييبهما فكان مقصوداً. نلاحظ أن والدَيّ دنيا ينتميان إلى جيل الشباب، جيلي وجيلك. هذا الجيل الذي أعتقدُ أنّه الأكثر تضرراً جرّاء الحرب، هذا الجيل المحوريّ الذي وقع على عاتقه القيام بالثورة وتحمّل فشلها. جيل قُتل وسُجن وهُجّر. بينما يرمز جيل الجدّين إلى الماضي والتراث، وجيل دنيا إلى المستقبل وإرادة الحياة، يبقى الحاضر المتمثّل بجيل والدَيّ دنيا مُرتبِكاً ضبابياً. لأننا نعيش في داخله ويصعُب بالتالي التكلم عنه.
رغم تغييب هذا الجيل عن عائلة دنيا، ما أزال أراه الجيل الأكثر فاعلية. فصانعة هذا العمل تنتمي لهذا الجيل. أليس صحيحاً؟
معك حق. كما قلتُ لك هذا هو جيلي وجيلك. قد لا نستطيع بعد أن نشمل ذواتنا داخل الحكاية السورية بشكل مباشر، ولكننا بالتأكيد الصوت الأساسي.
أعود لأختم بسؤال يتناول شخصك. خلال مرحلة التقصّي “«الشرعية» التي أجريتُها أثناء التحضير للمقابلة، قابلتُ بعض المنشورات التي شاركتِها على حسابك الشخصي. استوقفني منشورٌ تَصفين فيه حديثاً دار بينك وبين أستاذ اللغة العربية في مرحلة مراهقتك، كان يحدثكم حينها عن امتلاك البشر لأنواع مختلفة من الذكاء التي تتكامل بالتعاون المشترك، وأجابك على تساؤلك عن أي الأنواع تملكين بأنّكِ من الفئة التي يكمن ذكاؤها في قدرتها على أن «تربط النقاط بعضها ببعض». لا بدّ أن للجملة وقعاً جعلك تستذكرينها بعد انقضاء أكثر من عقدين من الزمن، حدّثيني أكثر عن ذلك.
في الحقيقة، أعتقد أن أستاذ اللغة العربية المذكور ترك أثراً عميقاً على شخصيتي بالعموم. إن أصبتُ القول، أستطيعُ أن أعتبره المسؤول عن تلقيحي بحبّ اللغة العربية، من الناحية العميقة، من جوانبها البنيوية والجمالية والموسيقية، من استخداماتها في خدمة الخيال وتركيب الصور. كنتُ محظوظة بأن أحظى برفقته كأستاذ وصديق للعائلة. فهو حكّاءٌ كبير، ويسترسل لساعات عند استشعار فضول شره لطالبة فتيّة. كنت أبلغ حوالي الـ 14 عاماً حين قال لي مجيباً عن تساؤلي بشأن ما يُميّزني: «أنت يللي بتوصلي النقط، أنت يللي بتعملي روابط بين الأمور، مخك بلا عقد». لامسَت تلك الجملةُ المُبهمةُ المراهقةَ الآخذة بتشكيل هويّتها، خبّأتُها في ذاكرتي رغم عدم وضوحها. لاحقاً استطعتُ الربط بين اختياراتي المهنية وتأثير تلك الجملة على مسمعي. كفنانة تُمارس الخلق كصنعة، أدركتُ أن القسم الأكبر من الخلق لا يُستحدَثُ من العدم بل يكمنُ في القدرة على ربط الأمور ببعضها لتغدو شيئاً طازجاً، وتلك القدرة على الربط تستوجب عقلاً متحرراً من العقد، أو دعنا نقول عقلاً لا يخشى زيارة مساحات جديدة في داخله رغم تعقيدها.
لأن الفن هو حالة صراحة كبيرة، أو حالة إرادة جنونية للتواصل مع الآخر، للربط بين العوالم، وبشتى الطرق واللغات، بهدف زيادة الحُبّ. أعتقدُ أن الفنان يعاني من فرط في الحُبّ، فيض من الحُبّ للعالم والبشر، «حالة انبهار دائمة بهاد السعدان يللي أسمو إنسان. اذا ما عم تعاني من هاد الشي، ما بتحرز تعمل فن».
أعود مراراً لجملة أستاذي، وأتساءل كيف استطاعَ أن يرى ذلك في داخلي منذ عمر مبكر جداً!