يحتاج الموظف الحكومي في مدينة دمشق إلى التفريط براتبه كاملاً حتى يتمكن من الوصول إلى عمله يومياً. هكذا باتت صعوبات التنقل وتكاليفه العالية، أو عدم توفّر وسائل المواصلات في أحيان كثيرة، هماً يُضاف إلى هموم معيشية كثيرة، فقد صار التنقل داخل مدينة دمشق، وبين دمشق وريفها، هاجساً يومياً يؤرّق سكان العاصمة والمناطق القريبة منها. 

تكاد شوارع العاصمة تخلو من السيارات ووسائط النقل العامة والخاصة حتى في أوقات الذروة، باستثناء السيارات الفارهة التي يعيش أصحابها في عالمٍ آخر منفصلٍ إلى حدٍّ بعيد عن حياة بقية السوريين، بينما ينتشر الناس في الطرقات سيراً أو بانتظار أي وسيلة تقلّهم إلى وجهتهم. ويعود السبب في ذلك إلى شحّ المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها بشكلٍ متواصلٍ ومتقاربٍ بفعل القرارات الصادرة عن حكومات النظام المتعاقبة، والتي تتخبط في قراراتها لتعالج المشاكل بخلق مشاكل أكبر، ما دفع عضو مجلس الشعب التابع للنظام عبد الرحمن الجعفري للقول بحضور رئيس الحكومة الحالية: «الحكومة تعيش بانفصال عن الواقع من خلال الرواتب التي تمنحها للموظفين. هل يعقل رفض استقالة الموظف وإجباره على العمل براتب لا يكفي أجرة المواصلات؟».

أسعار المحروقات في ارتفاع مستمر

تفاقمت أزمة المواصلات في سورية منذ منتصف العام الماضي، لتصل ذروتها في الأيام القليلة الماضية مع توالي الارتفاعات بأسعار مادتي المازوت والبنزين. ولتكون الصورة أوضح فإن عملية بيع المازوت والبنزين للمركبات في سورية تتم على النحو التالي: 

– يُباع البنزين للسيارات العامة والخاصة بثلاث طرق؛ اثنتان عبر البطاقة الذكية، وهو المعروف بالبنزين من نوع أوكتان 90، المدعوم بكمية 25 ليتراً لكل تعبئة مع اختلاف المدة الزمنية بين التعبئة والأخرى بين السيارات العامة والخاصة، وغير المدعوم بكمية 80 ليتراً في الشهر. الطريقة الثالثة خارج البطاقة الذكية، وهو البنزين الحر نوع أوكتان 95، وذلك بدون تحديد الكمية أو المدة الزمنية لكل تعبئة. 

– بينما يباع المازوت، خاصةً للسيارات العامة، عبر البطاقة الذكية بالسعر المدعوم بكمية 30 ليتراً يومياً للسرفيس سعة 14 راكباً، و40 ليتراً للحافلة المعدة لاستيعاب 14 إلى 28 راكباً. بينما تزود حافلات الشركات الخاصة بـ90 ليتراً يومياً. كما يمكن للسرافيس الحصول على 80 ليتراً شهرياً عبر البطاقة الذكية ولكن بسعر غير مدعوم.

بدأ ارتفاع الأسعار منذ تموز (يوليو) العام الماضي، بعد إعلان وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام رفع سعر ليتر المازوت المدعوم من 180 إلى 500 ليرة سورية، وسعر ليتر البنزين المدعوم أوكتان 90 إلى 750 ليرة، ثم 1100 في كانون الأول (ديسمبر) بقرارٍ مماثل، ورفع سعر ليتر البنزين من نوع أوكتان 95 (الحر) إلى 3 آلاف ليرة. قبل أن تصدر وزارة النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي قراراً يقضي بتوزيع مادتي البنزين والمازوت عبر البطاقة الذكية من خارج المخصصات، ولكن بسعر 1700 ليرة سورية لليتر المازوت الواحد و2500 ليرة لليتر البنزين، وبكمية 40 ليتراً دفعةً واحدةً أو على عدة دفعات خلال الشهر، ومن محطة واحدة أو عدة محطات مُخصصة لهذه الغاية، قبل أن ترتفع الكمية إلى 80 ليتراً في الشهر، ولكن 40 ليتراً في التعبئة الواحدة، وبفاصلٍ زمني يبلغ 10 أيام كحد أدنى بين كل تعبئتين، وذلك وفق ما أعلنته الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية (محروقات) في شهر آذار (مارس) الفائت.

وبقيت هذه الأسعار على حالها حتى شهر أيار (مايو) الماضي، عندما رفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك سعر البنزين الحر أوكتان 90 عبر البطاقة الذكية إلى 3500 ليرة سورية، وأوكتان 95 إلى 4000 ليرة سورية. كما رفعت سعر المازوت الصناعي والتجاري إلى 2500 ليرة سورية، في حين أبقت على أسعار البنزين والمازوت «المدعومَين» على حالها. ودائماً ما يكون تبرير حكومة النظام لهذه الارتفاعات بأن الهدف منها «التقليل من الخسائر الهائلة في موازنة النفط وضماناً لعدم انقطاع المادة أو قلة توافرها». إلا أن مدير التشغيل والصيانة في شركة محروقات، عيسى عيسى، وخلال حديثه لجريدة البعث الناطقة باسم السلطة أرجعَ سبب الزيادة الأخيرة إلى وجود عجزٍ كبيرٍ في خزينة الدولة، نتيجة ارتفاع تكاليف إنتاج واستيراد المشتقات النفطية، مبرراً ذلك بارتفاع أسعار النفط عالمياً إلى حوالي 112 دولاراً للبرميل الواحد، وأن تكاليف تأمين المشتقات النفطية في سوريا ارتفعت «لأن ناقلي الوقود طلبوا زيادةً تصل إلى 20 بالمئة من سعر المواد، وذلك بسبب المخاطرة الكبيرة التي تتحملها تلك الناقلات التي تورّد المادة لسوريا»، معتبراً أن النفط قد تحوّل من داعمٍ للخزينة العامة إلى مستنزفٍ لها، حسب قوله.

رفع الدعم عن المحروقات وتقليل المُخصّصات

حدث الانقلاب الكبير في أسعار المحروقات منذ بداية العام الحالي، وتحديداً في الأول من شهر شباط (فبراير)، عندما قرر النظام رفع دعم الوقود عن عدد كبير من السيارات، وصل إلى 47 بالمئة من السيارات الخاصة، ضمن خطةٍ كبيرةٍ انتهجها النظام لرفع الدعم الحكومي للمواد التموينية والمشتقات النفطية عن مئات آلاف العائلات السورية. وزعمت معاونة وزير الاتصالات والتقانة لشؤون التحول الرقمي فاديا سليمان، في حديثٍ لها مع وسائل إعلام محلية، أن اللجنة الاقتصادية في الحكومة درست «بدقةٍ كبيرة» استبعاد فئاتٍ من الدعم، وذلك «بهدف الوصول إلى الشرائح الأكثر هشاشة في المجتمع». وبيّنت سليمان أنّ تحديد الشريحة المستبعدة من الدعم استند إلى «معايير الثروة والملكية ومستوى الدخل». وذهبت الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية (محروقات) لتبرير هذا الإجراء بالقول إنه «سيخفّف من العجز في المشتقات النفطية سنوياً للبطاقات المستبعدة بمبلغ يصل إلى أكثر من ألف مليار ليرة سورية».

لكن ردة الفعل الشعبية على هذا القرار كانت استياءً كبيراً من مؤيدي النظام قبل معارضيه، حيث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من ردود الأفعال المستنكرة والُمعارضة، خاصةً مع حجم الأخطاء الكارثية في عملية الاستبعاد، حتى أن العديد من الشخصيات المعروفة بولائها ودفاعها عن النظام، وبعضها يشغل أو سبق له أن شغل مناصب حكومية، دعت إلى تنظيم مظاهرات احتجاجية في الشوارع «لردع الحكومة عن قرارها التعسفي والباطل» كما وصفوه. وبعد الجدل الكبير سارعت حكومة النظام السوري لعقد اجتماعٍ وصفته بـ«العاجل» لبحث الاعتراضات التي تلقتها. فيما أعلن وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عمرو سالم، أن ما حصل هو «أخطاء تقنية وليس قراراً، وأن وزارة الاتصالات خصّصت موقعاً لتلقي طلبات الاعتراض من قبل المواطنين الذين أُزيل عنهم الدعم بشكلٍ خاطئ».

بطبيعة الحال، خلق هذا القرار بكل ما فيه من أخطاءٍ وإجحاف أزمةً جديدةً دفعت الكثيرين إلى إيقاف سياراتهم الخاصة بسبب عدم قدرتهم على تحمّل تكاليف تعبئة البنزين بالسعر الحر، بل إن بعضهم عرضوا سياراتهم للبيع، وآخرين باعوا سياراتهم بالفعل. يقول أحمد، وهو موظف في وزارة النقل: «يوجد في القرار تلاعبٌ لجهة المواصفات التي حُدّدت بالنسبة للسيارات التي رُفع عنها الدعم، حيث تم استبعاد السيارات السياحية التي سعة محركها فوق 1500cc طراز 2008 وما فوق، رغم أن القرار في بداية دراسته كان للسيارات طراز 2007 وما فوق، غير إنّ تدخّل بعض الأشخاص المتنفّذين، والذين يملكون سيارات ‘جيب عالية’ من طراز هيونداي وكيا وغير ذلك من هذه الأنواع من السيارات، أجبر الوزارة على تبديل العام إلى 2008 حتى لا يشملهم القرار. هل يعقل أن بعض السيارات قيمتها السوقية أقل من ربع هذه السيارات وتعفى من الدعم، في حين تبقى مثل هذه السيارات مشمولةً بالدعم؟»

وفيما كان الحديث لا يزال يتواصل عن الذين استُبعدوا من الدعم والذين لم يستُبعدوا لقرابة شهرين، سارعت الشركة السورية لتخزين وتوزيع المواد البترولية (محروقات) في شهر نيسان(أبريل) لتعلن للمستفيدين من الدعم عن آلية جديدة في توزيع البنزين، وحدّدت مدة استلام الرسالة بـ10 أيام للسيارات الخاصة و6 أيام للسيارات العمومية و10 أيام للدراجات النارية، مع بقاء كميات التعبئة كما هي دون أي تعديل. لكن ما حدث أن مدة الاستلام زادت أكثر من ذلك، حيث وصلت مدة الحصول على رسالة البنزين إلى 15 يوماً بدلاً من 10 أيام. وقال بعض أصحاب السيارات للجمهورية.نت إن رسالتهم تأخرت لنحو 17 يوماً، بكمياتٍ لا تزيد على 50 ليتراً شهرياً لكل سيارة سياحية خاصة.

كما لا يحصل سائقو السيارات العامة على البنزين إلا كل 10 أيام على الأقل، بل إن العديدين اشتكوا خلال حديثنا معهم من شح البنزين والمازوت في محطات الوقود، حيث وصلتهم رسائل لتعبئة مخصصاتهم من الوقود، إلا أنهم لم يتمكنوا من الحصول عليه لعدم توافره في المحطات، وهو ما فاقم من أزمة المواصلات ورفع من أسعار التنقّل. وبعد شهرٍ من هذا القرار، لم ينفِ عضو المكتب التنفيذي لقطاع المحروقات في محافظة دمشق، شادي سكرية، في حديثٍ لصحيفة الوطن الموالية تأخّر رسالة البنزين، خاصةً للسيارات العامة، ما دفع مالكي هذه السيارات لرفع أسعار النقل رغم عدم ارتفاع سعر البنزين المدعوم. وقال سكرية: «هناك مبررات لدى العديد من السائقين مفادها تأخّر وصول رسائل تعبئة البنزين، وعليه رفع مجلس محافظة دمشق توصيةً إلى وزارة النفط والثروة المعدنية من أجل تزويد سيارات الأجرة العامة (التكسي) بكمية عشرة ليترات يومياً من المخصصات الشهرية، وبالتالي لن يعود هناك أي حجة لسيارات الأجرة. نأمل موافقة ‘النفط’ على هذه التوصية».

ولكن في الوقت ذاته، نفى سكرية أيّ تخفيضٍ لمخصصات النقل من مادة المازوت اليومية في محافظة دمشق، مبيناً أن «عدد الطلبات يصل يومياً إلى 14 طلباً (كل طلب يعادل 22 ألف ليتر)، لتصل الكميات التي تُزوّد بها وسائل النقل من سرافيس وباصات إلى نحو 310 ألف ليتر، علماً أن كل كازية مخصصة لعدد معين من السرافيس لا يمكن لها التزوّد من كازية أخرى». وعن عدد وسائل النقل العاملة في دمشق، والتي تؤمن لها شركة محروقات احتياجاتها اليومية يقول سكرية: «يوجد 100 باص نقل داخلي في العاصمة تعمل بكامل طاقتها وتتم متابعة تأمين المازوت لها، إضافةً إلى عمل باصات القطاع الخاص وعددها 120 باص، مع تزويدها بالكميات اللازمة من المحروقات. وهناك أكثر من 6 آلاف آلية تُزوّد يومياً بالمحروقات». 

ويأتي حديث سكرية بعد شهرٍ واحدٍ من قرارٍ حكومي خُفّضت بموجبه مخصصات المحافظات من الوقود بنسبةٍ وصلت إلى 25 بالمئة، وفق ما ذكر مصدر مسؤول في محافظة دمشق لصحيفة الوطن، الأمر الذي «كان له تأثيرٌ واضحٌ على عمل وسائل النقل من سرافيس وميكروباصات في العاصمة» كما قال المصدر. وهو ما أكده ريدان الشيخ، عضو المكتب التنفيذي لقطاع المحروقات في ريف دمشق، في حديثٍ مماثل لصحيفة الوطن، حيث أشار إلى أنه «تمّ تخفيض طلبات المازوت المخصصة للمحافظة إلى 23 طلباً بعدما كانت 33 طلباً، كما تم تخفيض طلبات البنزين إلى 17 طلباً بعدما كانت 19 طلباً». لكن الشيخ نفى في المقابل أن يكون لهذا التخفيض «سواءً في طلبات المازوت أم البنزين أي أثرٍ على قطاع النقل في المحافظة»، مدعياً أنه يوجد حالياً في المحافظة «نحو 340 محطة وقود، إضافةً إلى وجود 68 خزاناً، وجميعها يتم تزويدها بمادة المحروقات».

هذا هو مجمل ما أصدرته حكومة النظام من قراراتٍ تتعلق بمادتي المازوت والبنزين منذ نحو عام وحتى الآن، من رفعٍ للأسعار وتخفيضٍ للكميات واستبعادٍ للبعض من الدعم الحكومي، وهو ما ترك أثره الواضح على واقع النقل والمواصلات في دمشق وريفها وفي بقية المحافظات، وهو ما رصدناه في الشارع بين الناس.

أشكال التنقل الممكنة

أبو علاء موظفٌ في دائرةٍ حكومية بدمشق، ويقطن في مدينة جديدة عرطوز القريبة، يلخص لنا حال الكثيرين ممن يعيشون في ريف العاصمة بالقول: «أسكن في بيتٍ مستأجر بمبلغ 150 ألف شهرياً، وأنا موظف في دائرة حكومية بدمشق منذ أكثر من 15 عاماً. أعاني يومياً، حالي حال معظم الناس، من مشكلة التنقل ذهاباً وعودةً إلى عملي. المؤسسة التي أعمل فيها تقوم بإيصال الموظفين داخل مدينة دمشق فقط، فيما يضطر بقية الموظفين الذين يعيشون في الأرياف القريبة للتنقل على حسابهم الشخصي. أملك سيارةً من طرازٍ قديم ورثتها عن أبي، وأحمد الله أنها من طرازٍ قديم، وإلا كنت سأفقد الدعم الحكومي لتعبئة البنزين كما حصل مع معظم الناس الذين رُفع عنهم الدعم. من المفترض أن تصلني رسالة البنزين بـ25 ليتر كل عشرة أيام بحسب التصريحات الحكومية، لكنها عادةً ما تتأخر يوماً أو يومين، وقد يصل التأخير لخمسة أيام كما هو الحال في الأيام الماضية».

يتابع أبو علاء: «أملأ سيارتي بموجب السعر المدعوم بـ23 ليتراً كحدٍّ أقصى، وذلك نظراً للتلاعب والغش من قبل الكازيات. هذه الليترات تكفيني 5 أيام للانتقال من وإلى العمل، بتكلفة 4000 ليرة يومياً، ولأني موظفٌ حكومي يُطلب مني العمل 5 أيام في الأسبوع، فلا أستطيع التنقل بسيارتي يومياً. وبشكلٍ مؤكد لا يمكن أن أشتري البنزين بالسعر الحر رغم أنه متوفرٌ بكثرة، لأنّ تكلفة اليوم الواحد تصل إلى ما بين 10 آلاف و15 ألف ليرة، لذلك أجد نفسي مضطراً في كثيرٍ من الأحيان للتنقل بالمواصلات العامة، وهذه كارثةٌ أخرى».

ويشرح أبو علاء للجمهورية.نت الخيارات المتوفرة للانتقال بين جديدة عرطوز ودمشق أو باقي مناطق ريف دمشق القريبة: «إذا أردتَ التوجه صباحاً من جديدة عرطوز أو من أي مكان في الريف القريب نحو دمشق، فعليك الانتظار لوقتٍ قد يصل إلى ساعتين حتى تستطيع الركوب في السِرفيس، وهو الأقل تكلفةً (300 ليرة سورية)، لكن في مثل حالتي لا أستطيع الوقوف كل هذا الوقت، وهو حال الكثيرين من الموظفين والعمال والطلاب، فإن الحل البديل هو الـ«ميني ڤان»، وهو عبارة عن سرفيس صغير من 7 مقاعد يعمل على البنزين ويتقاضى أجرة 2000 ليرة عن كل راكب. الحل الثالث هو التكسي سرفيس بسعة 4 ركاب، يدفع الراكب الواحد 4000 ليرة سورية. وهنا أيضاً عليك الانتظار، ولكن داخل التكسي هذه المرة، وذلك حتّى ‘يتجرّأ’ أربعة أشخاص على إكمال العدد المطلوب، وهم حكماً أناسٌ مضطرون على هذا الخيار ولمرةٍ واحدةٍ ربما، لأن هذا الأمر سيتكرّر في طريق العودة، ما يعني 8000 ليرة كل يوم، وهو أمرٌ مستحيلٌ على أي شخص يريد الذهاب والعودة يومياً».

وفي بحثنا عن سبب قلّة السرافيس وطول أوقات الانتظار التي يعانيها الركاب صباحاً، تبيّن لنا أن أي سرفيس في دمشق وريفها مجبرٌ يومياً على الانتظار نحو 5 ساعات للحصول على مخصصاته اليومية، عدا يوم الجمعة، وهي 30 ليتراً تكفيه، على سبيل المثال، للذهاب والعودة إلى جديدة عرطوز 3 مرات فقط في اليوم، وربما مرتين لو كان خط السرفيس يتجه نحو الريف الأبعد، وقد تكون لمرة واحدة. يضاف إلى ذلك أن معظم السرافيس لديها تعاقدات مع مدارس خاصة وعامة ومؤسسات ومعامل رسمية وخاصة بشكل يومي، وهو الأكثر نفعاً مادياً من العمل على الخطوط العامة لنقل الركاب. عدا عن قيام بعض أصحاب السرافيس ببيع المازوت المخصص لهم بسعر حر يصل إلى 6000 ليرة سورية لليتر الواحد، ودون الحاجة إلى العمل. وهذا ما أكدته وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عندما طلبت من مديرياتها في المحافظات «تشديد الرقابة على وسائل النقل (سرفيس، تكسي) المتوقفة عن تأدية خدماتها للمواطنين، والتي تعمل على بيع مخصصاتها من البنزين والمازوت المدعومَين من قبل الدولة في السوق السوداء لتحقيق أرباح غير مشروعة وحرمان المواطنين من خدمة النقل».

الازدحام أمام باص نقل داخلي في دمشق

بالعودة إلى أبو علاء، طلبنا منه أن يشرح لنا كيفية استخدامه للمواصلات وكيفية تأمين تكاليفها، فأجاب: «راتبي الشهري من الوظيفة يتجاوز 100 ألف بقليل، وبحكم أن راتبي لا يكفي حتى لتغطية إيجار بيتي فأنا أعمل محاسباً في شركةٍ خاصة بعد دوامي الحكومي، من الثالثة عصراً وحتى التاسعة ليلاً، ليتكرر أمامي مشهد الازدحام والمعاناة ليلاً في طريق العودة، حيث يحتشد الآلاف في البرامكة بجانب وكالة سانا للحصول على مقعدٍ في سرفيس، وهو أشبه بالمعجزة؛ أو الفان أو التكسي. كما يتكرر مشهد الحيرة مجدداً بين الانتظار طويلاً بحثاً عن السعر الأقل وهو السرفيس، أو المجازفة بدفع مبلغ مالي أكبر في الفان أو التكسي، وهو موضوع بات يصعب على الجميع تحمله نظراً للغلاء الفاحش وتدني الأجور، خاصةً بالنسبة للموظفين والعمال والطلاب».  

بات مشهد ازدحام الناس في معظم شوارع دمشق بانتظار قدوم إحدى وسائل النقل مألوفاً خلال الفترة الماضية، لكن معظم الناس يحاولون تجنب الصعود في تكسي؛ لأن أجرتها باتت مرتفعةً جداً قياساً بالوضع المعيشي، حيث تصل أجرة أقل مسافة ضمن مدينة دمشق إلى 4000 ليرة، وقد تصل إلى 25 ألفاً بالنسبة للمسافات الطويلة. في حين توجّه بعض أصحاب التكاسي للعمل كسرفيس داخل المدينة لنقل 4 ركاب بتكلفة وسطية تبلغ 3000 ليرة عن الراكب الواحد. ورغم ذلك فإن معظم سائقي التكسي يشعرون بأنهم «مظلومون» على حد تعبيرهم. يقول أحمد، وهو سائق تكسي: «الناس يلومون سائق التكسي بسبب ارتفاع الأجرة، لكن لا أحد يقدّر الظروف التي يمر بها هذا السائق. كمية البنزين التي نحصل عليها في أسبوع، وربما أكثر، لا تكفينا للعمل ليومٍ واحد. وعند نفاد البنزين إما أن تتوقف السيارة أو أن نشتري البنزين بالسعر الحر، وقد وصل سعر الليتر الواحد في السوق السوداء إلى 6000 ليرة أو أكثر، ناهيك عن الغلاء الفاحش لتكاليف صيانة السيارة وإصلاحها وتكاليف اهتراء الإطارات وتكلفة غيار الزيت، بالإضافة لرسوم التسجيل السنوية والمخالفات المرورية، عدا عن السير في الشوارع دون فائدة، لا سيما خلال فترات الليل».

الازدحام أمام باص نقل داخلي في دمشق

كلام السائق أحمد عن شراء البنزين الحر أكده لنا أبو هيثم، وهو موظفٌ متقاعد: «راتبي التقاعدي لا يصل إلى مئة ألف ليرة، وعندي سيارة خاصة لا أستخدمها كثيراً بسبب التقاعد وقلة حركتي، لذلك أبيع دوري في البنزين لسائق سيارة تكسي. كانوا يدفعون لي على كل تعبئة 25 ألف ليرة، ثم ارتفع المبلغ إلى 50 ألفاً، وآخر مرة وصل المبلغ إلى 100 ألف عدا عن ثمن البنزين (27.500 ليرة سورية). أنا مضطرٌ لبيع مخصصاتي لأستطيع الوصول إلى نهاية الشهر دون أن أمد يدي للناس».

بات ركوب التكسي خياراً مستبعداً للكثير من الناس، رغم صعوبة وقسوة الخيارات الأخرى وأولها السرفيس، حيث بات انتظار السرفيس في أيٍ من مناطق العاصمة وريفها أشبه بالمأساة حين تشاهد الآلاف من الناس وهم يركضون وراء السرافيس من مكانٍ لآخر. وكثيراً ما تقع حالات السرقة وسط التدافع، خاصةً سرقة الهواتف المحمولة. كما تنشب المشاجرات بين الركاب أنفسهم، أو بين الركاب وسائق السرفيس، الذي يقرر أن يكدس الناس فوق بعضهم بحجة أنه يشفق عليهم من طول الانتظار. شخصياً، في عددٍ من المرات التي استقليتُ فيها السرفيس كنا نحو 20 شخصاً بداخله، رغم أن سعته الفعلية 14 راكباً فقط.

الحل الاخر هو الباصات، بعضها حكوميُّ وبعضها الآخر تعود ملكيته لشركاتٍ خاصة، وأيضاً هذا الخيار لا يقلُّ ازدحاماً عن السرافيس. قبل عقدٍ من اليوم، كانت الباصات تقدم خدمةً جيدةً للسوريين، خاصةً لناحية أجرتها المتدنية مقارنةً بغيرها من وسائط النقل الأخرى. ولكن في السنوات الأخيرة فقدت الباصات الكثير من قدرتها على تخديم الناس، بسبب أعطالها المتكررة وعزوف الكثير من السائقين عن العمل فيها. لذلك حاولت الشركة العامة للنقل الداخلي إقناع بعض السائقين للعمل لديها بطرق مختلفة، منها الحصول على نسبةٍ من البطاقات المباعة، لذلك نجد في كثيرٍ من الأحيان امتلاء الباص بقرابة 100 راكب-ة، رغم أن سعته القصوى لا تتجاوز 70 راكباً. هذا التكدس داخل الباصات يخلق الكثير من المشاكل أيضاً، منها السرقة والتحرّش.  

وعلى وقع هذه المشاكل في وسائط النقل، لجأ البعض إلى حلول مختلفة. بينما كنت أقف في أحد المواقف مع مئات من الأشخاص، توقفت سيارة «سوزوكي» (سيارة صغيرة مكشوفة تستخدم لنقل البضائع)، وبدأ السائق بالنداء على الناس: «كراجات العباسيين 500 ليرة». وبالفعل خلال لحظات كانت السيارة ممتلئةً من الخلف بالركاب. لقد بات هذا المشهد شائعاً بكثرة في شوارع دمشق ومن دون أن يتسبب باستغراب الناس. كما بات مشهد الدراجات النارية وهي تعمل بالأجرة وتنقل الناس بين المناطق مشهداً مألوفاً للجميع. كذلك لجأ البعض إلى ركوب «الباكسي»، وهي عبارة عن دراجة هوائية مزوّدة ببطاريات قابلة للشحن، وتعتمد على ثلاث عجلات مع وجود مظلة ومقعد خلفي يتسع لراكبين. ولاقت الباكسي رواجاً بين الناس لسرعة وسهولة حركتها في شوارع العاصمة، إضافةً إلى أجرتها المتدنية مقارنةً بالتكسي، ما دفع محافظة دمشق للموافقة على عملها. في حين ذهب البعض لركوب الدراجات الهوائية والكهربائية إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم، رغم أن أسعارها في الفترة الماضية باتت بالملايين ولم تعد بمتناول الجميع. ويبقى الحل الأخير، ومن دون تكلفة سوى الوقت والجهد، هو المشي لمن يستطيع وكان بيته قريباً من وجهته التي يريد. 

سوزوكي تنقل الركاب وسط دمشق

بالطبع لا يوجد أي خيارات للتنقّل تراعي أحوال ذوي الاحتياجات الخاصة أو النساء الحوامل أو كبار السن الذين لا يستطيعون تحمّل الازدحام وساعات الانتظار الطويلة، وأقصى ما قد يسهّل عليهم تنقّلهم هو عطف المحيطين بهم ومساعدتهم في الحصول على مقعد.