حمل نيسانُ أخبار الرحيل. هل يكفّر نيسان يوماً عن ذنبه ويحمل أخبار العودة، فيسامحه القلب؟

تعرفت إلى إنصاف نصر من خلال مقطع مصور نُشر لها على مواقع التواصل الاجتماعي، كانت تتحدث فيه عن زوجها فؤاد أحمد المحمد، المختطف منذ ثمان سنوات على يد تنظيم داعش في سوريا.

لم يحتج الأمر أكثر من ثوان لأعرف أن إنصاف ابنة مدينتي، السويداء. شغلني ما قالته إنصاف عن زوجها المختطف، وشغلني أكثر ما لم تقُله وبان في ملامحها. كتبتُ لإنصاف وأخبرتها أنني أرغب بالحديث إليها. وافقت وأجرينا اتصالاً. أنا من كندا وهي من تركيا، أميال مادية ومعنوية تفصلنا عن بيوتنا الأولى التي هجرناها باكراً، ليس بفعل الحرب الأخيرة والتي يعلم عنها وبها أهل الأرض، فقط، وإنما بفعل حروب قديمة كانت دائماً مشتعلة حولنا وبنا، ولا أحداً يعيشها أو يعلم عنها سوانا . فهمت ابنة بيئتي فضولي ورغبتي بمعرفة المزيد. كيف تجرأتِ وأحببتِ شاباً من مذهب مختلف؟ كيف تزوجتما؟ هل باركت عائلتك الزواج؟ كيف نجوتِ؟ حدثيني عن فؤاد.

باكراً، وجدت إنصاف نفسها في مواجهة مع «لا». لا الحاضرة في حياتنا، صغيرات وكبيرات، أكثر من فروض العبادة، والمألوفة أكثر من حجارة مدينتنا السوداء، فعائلتها -كأغلب عائلات المنطقة- متمسكة بالعادات والتقاليد السارية على الجميع باسم المذهب. أول «لا» واجهتها كانت في سبعينيات القرن الماضي، عندما عبّرت عن رغبتها بإكمال دراستها الإعدادية، لتتوالى بعدها اللاءات.

كل هذا كان اعتيادياً ومألوفاً لدى معظم الشابات، إلا أن غير الاعتيادي هو رفض إنصاف الانصياع للأوامر. استقبلت بجسدها ضريبة تمردها، عُنّفت وعُوقبت، لكنها نجحت أخيراً بالانتقال إلى دمشق لدراسة علم الاجتماع. خلال فترة دراستها تعرفت إلى فؤاد، شاب من محافظة دير الزور، أُغرم أحدهما بالآخر لسنوات، حتى وصلت علاقتهما إلى مفترق طرق: كيف سيتزاوج مذهبان مختلفان؟ فالمثلية الدينية\ المذهبية ليست محمودة ومحببة فقط، بل هي فرض. 

نساء كثر من مدينتي يُغرمن بشباب من مذاهب مختلفة خلال سنوات الدراسة الجامعية خارج حدود المحافظة، إلا أن غالبية هذه العلاقات تنتهي مع انتهاء مرحلة الدراسة لتعود الفتاة إلى مدينتها، وتلتقي بالشاب الموافق منبَتاً ومِلّة، والمقدَر لها تكوين عائلة معه، ويتزوجان، ويكونان عائلة جديدة ويرفدان الطائفة بمنتمين جدد، وتتابع الحياة دورتها «الطبيعية». أما إنصاف فكسرت الحلقة ووضعت عصا في دولاب المعتاد. في لحظة الاستحقاق، غلبت كفة الحب على كفة الخوف، قالت نعم للزواج من فؤاد. فؤاد الشاعر والكاتب والثائر الذي تشاركت معه أحلامها، وشاركها شغفها في القراءة والنشاط السياسي -المحرّم هو الآخر- والتقت معه برفيقات ورفاق أصبحوا عائلتها المختارة. تزوجا في مطلع التسعينات وبات حي مخيم اليرموك -القريب من مركز دمشق- مستقر العائلة الصغيرة وسكانه أهلاً وجيران.

توقفنا قليلاً عن الكلام، وسألتها، ممنّية نفسي بأن الزمن كان كفيلاً بإذابة جليد القلوب، هل عَلم أهلك بزواجك؟ هل تصالحتِ معهم؟ هل تعرفوا على فؤاد والأولاد؟

لم أرَ أمي وأبي منذ ذلك الحين، علم أحد أخوتي بزواجي ونصحني بنسيان العائلة تماماً، جرّبت الاتصال بأختي في بداية الثورة ولم ترحب باتصالي وطلبت مني البقاء بعيدة. قال لي أخي مرة إنهم أوهموا أمي وأبي بأني سافرت في الثمانينات إلى روسيا لإجراء عملية جراحية وبقيت هناك وانقطعت أخباري. حتى لو كانا يعرفان بقرارة نفسيهما أني تزوجت «خطيفة»، لن يجرآ على الإقرار بعلمهما، سيفضلان التظاهر بتصديق الكذبة.


في دمشق، كونت إنصاف مع فؤاد عائلة من ولدين وبنت. شارك كلاهما في الثورة السورية منذ أيامها الأولى، وفي شهر حزيران من العام 2012، ومع تدهور الوضع في دير الزور، قرر فؤاد ترك دمشق والعودة إلى مدينته للمشاركة مع أهلها في الثورة على النظام، لم تحاول إنصاف منعه لأنها تعرف معنى أن تَحول بين الشخص وخياراته. انخرط فؤاد بالنشاطات المدنية السلمية مع أهالي مدينته، وفي مطلع عام 2014 حط تنظيم داعش الإرهابي رحاله في دير الزور، وفي شهر نيسان من العام ذاته، أي بعد حوالي شهر واحد فقط من دخول التنظيم للمدينة، تلقّت إنصاف اتصالاً من أخ فؤاد يخبرها بأن فؤاد تعرض للاختطاف على يد عناصر داعش. وبعد أن تعثرت كل محاولاتها للوصول إلى خبر عن رفيقها، قررت إنصاف الانتقال مع أولادها إلى تركيا. ثمان سنوات مضت ولم تتوقف مطالباتها بالكشف عن مصيره.

حاولت إنصاف أن تروي لي القصة بأقل انفعال ممكن، كأنها لا تريد أن يكون وقع التفاصيل قاسياً عليّ كشخص لم يعش تجربة مشابهة. احتفَظت بظل ابتسامة على شفتيها كي تخفف من قتامة الحكاية، وبخفّة نجحت بتلوين السواد بمشاركتي ذكريات عن أيامٍ كان فؤاد فيها حاضراً. روت لي كيف أنها، بعد سنوات قليلة من زواجها، غامرت لأول مرة بكسر حالة التخفّي التي تعيشها، لحضور أمسية لمحمود درويش في مدينة الجلاء الرياضية بدمشق، لم تستطع مقاومة الذهاب وفكرت بأن أحداً لن يلحظها وسط الحشود. وفي حضرة صمت الحضور المنصت لقصائد درويش، التقت عينا إنصاف بعيني صديقة قديمة لها. حدّقتا ببعضهما طويلاً، رأت إنصاف في عيون الصديقة مزيجاً من لماذا، وكيف، ومن، وعلامات الاستفهام تمر كالسهام فوق رؤوس المنصتين. لم تمتلك إنصاف أمام هذا كله إلا الإشاحة بنظرها بعيداً:

 

الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتِفَيَّ، وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ، وَالطَّيْرُ حَطَّتْ على

راحتيَّ. فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي؟ وَلِمَاذَا أنَا؟
– محمود درويش، جدارية

 

وضعت إنصاف حياتها على المحكّ في سبيل اختياراتها، وقفت بمفردها أمام ثلاث أنظمة قمعية حاربتها في عمق تفاصيل حياتها، أولها نظام العائلة والطائفة التي تلغي وجود من يخالف قوانينها، ثم نظام الأسد الذي رعى تسلط الدين والمجتمع على النساء، ثم جاء داعش وامتحنها بالشخص الذي اختارته بعقلها وقلبها و«حاربت الدنيا من أجله».
تعيد إنصاف نصر، المسلّحة بقناعاتها والمدافعة عن الحرية بكافة أشكالها، شحن طاقتها كلما اقتربت من النفاذ، مستذكرة أن القضية التي اختار فؤاد الدفاع عنها هي قضيتها أيضاً وقضية أولادهما الثلاثة. قبل ثلاثين عاماً اختار فؤاد وإنصاف أن يكونا مع بعضهما رغم الثمن الذي دفعته إنصاف وشاركها فؤاد مرارته على حياتهما، وعندما انحازا لصف الثورة منذ لحظتها الأولى لم يحاولا المهادنة خوفاً من العواقب.

اليوم، لا توفر إنصاف فرصة للتذكير بفؤاد وبقية المغيبات والمغيبين في سوريا سواء على يد داعش، أو النظام، أو باقي قوى الاستبداد المستشرية في جسم هذا البلد. مرة تُحدث العالم عن فؤاد الحبيب والصديق، مرة تصف لهم ثوريته وإيمانه بالحرية، مرة تشعل له شمعة، وحين تسألها هل ما زال لديكِ أمل بعودته؟ تقول: بالنسبة لي وللأولاد كل الاحتمالات واردة ولدينا أسباباً كافية لنيأس، لكننا اخترنا الأمل ونحن عائلة تتبع اختياراتها وتؤمن بها.