بعد أحد عشر عاماً من تجارب مروعة لا يمكن وصفها، بما في ذلك فقدان خمسة من إخوتي بين القتل والإخفاء القسري، كان قد وصل بي الظن إلى أنه لم يعد هناك شيء يمكن أن يصدمني مرة أخرى، أو يمكن أن يفتح جروحي التي أخذت وقتاً طويلاً حتى بدأت تندمل. ولكن بينما أكتب اليوم، أدركتُ أن الجروح التي أحملها بعيدة كل البعد عن الشفاء، وأن إجرام نظام الأسد ما زال بإمكانه أن يَجرّني إلى أقسى اللحظات، اللحظات التي خسرت فيها إخوتي.

‎منذ سنة تقريباً، وفي محاولة مني للتأقلم مع الخسارات، بنيتُ جداراً بيني وبين ذكرياتي، لأبتعد بنفسي عن أي شيء قد يوقظ الصدمة في داخلي، حتى جاء التحقيق عن المذبحة التي راح ضحيتها واحد وأربعون شخصاً، على يد المخابرات السورية، في حي التضامن بدمشق عام 2013. بدأت قراءة النص بمجرد أن شاركه معي أحد الأصدقاء. أعادتني كل جملة وكل تفصيلة فيه إلى اللحظات المشابهة التي شهدتُها في الماضي. أتوقف قليلاً، أستنشق بعض الهواء، ثم أعود لمواصلة القراءة، إلى أن وصلت إلى جملة معينة هدمت الحائط وسمحت للذكريات بالتدفق: عندما قال المجرم أمجد بأنه يقتل انتقاماً لأخيه.

‎كيف يستطيع أحدٌ أن يقتل واحداً وأربعين شخصاً بحجة الانتقام لأخيه الذي قُتل سابقاً؟

لقد خسرت خمسة من إخوتي ولم أسعَ يوماً للانتقام، ولم أوجّه اللوم على مقتلهم سوى للنظام وأجهزته الأمنية. لم أستطع مشاهدة الفيديو الكامل الذي يظهر فيه تنفيذُ الإعدامات بدم بارد.

فكرتُ فوراً في كل العائلات التي ظهرت صور أبنائها في الفيديوهات المسربة. بالتأكيد كانوا يبحثون عنهم منذ اختفائهم. تواصلَ معي أحد الأصدقاء، وأكَّدَ لي أنه أعاد مشاهدة الفيديو أكثر من مرة باحثاً عن ابن خاله بين الضحايا، ولكن الوجوه لم تكن واضحة بالنسبة له.

الجريمة بشعة وقاسية، لكن الأبشع والأقسى أن تضطر للبحث بين صور الشهداء على قريب لك لتعرفَ مصيره.

عشتُ تفاصيل هذه القسوة كلها حين عثرتُ على صورة أخي عقبة بين صور قيصر المُسرَّبة، وذلك بعد انتظار دام ثلاث سنوات منذ اعتقاله. ذاك الانتظار الذي كلفنا ثلاثة آخرين من إخوتي، ربما لم أكن لأفجع بخسارتهم لو أني عرفتُ مصير عقبة منذ البداية.

كان يمكن أن نرحل عن البلد، ولكننا بقينا بانتظاره.

هذا الانتظار نفسه مرّت به، ولا تزال تعيشه اليوم، عائلات المعتقلين والمغيبين قسراً في سوريا. آلاف العائلات مثل عائلتي أُجبِرَت على هذه التجربة القاسية، أن يبحثوا عن أحبابهم بين صور قيصر. فكرتُ فيهم جميعاً أثناء قراءتي للتحقيق عن مجزرة التضامن.

تذكرتُ أخي بشار الذي خطفه تنظيم داعش في دير الزور منذ سنوات، و لم أعرف شيئاً عن مصيره حتى اليوم.

أعادني توثيق جريمة التضامن إلى لحظة توثيق استشهاد أخي زهير، عندما وصلنا مقطع مُصوَّر تظهر فيه لحظة إطلاق النار عليه، من جانب عناصر الأمن السوري، أثناء مشاركته في مظاهرة في دير الزور.

عندما رأيت صورة عقبة بين صور قيصر، قرّرتُ أنه لم يعد هناك شيء أخشى عليه، وبدأت نضالي نحو العدالة حتى يأتي يوم نستطيع فيه تشييع عقبة مثلما شيّعنا زهير.

بينما كنتُ أتابع القراءة، تذكرتُ لحظة اغتيال أخي عبيدة على يد قنّاص أثناء عمله في إسعاف الجرحى في دير الزور. تذكرت أخي تشرين، الذي قتل أيضاً برصاص قناص في منزله بعد عشرة أيام فقط من استشهاد عبيدة.

إجرام النظام ليس جديداً علينا، ولن يتوقف. لكن هذا التحقيق دفعنا إلى استرجاع ذاكرتنا، وجعلنا نعيش مجدداً الألم نفسه الذي خبرناه سابقاً.

الآن، يجب أن نتسلح بهذه الأدلة والبراهين لمحاكمة المسؤولين على جرائم الحرب، علّنا نستطيع يوماً محاسبة كل مجرم ومُنتهِك. كذلك، يُشكّلُ هذا التحقيق رسالة واضحة إلى الدول التي بدأت بالتطبيع مع النظام المجرم، رسالة تقول إن أيديهم أيضاً ملوثة بدماء السوريين والسوريات.

اليوم، لم نعد مجرد ضحايا ولا ناجين/ات فقط، بل نحن أيضاً قادةٌ في مسارات التغيير.

‎نحن أصحاب القضية، والنضالُ نضالنا، ويتوجب على المجتمع الدولي مشاركتنا في كل خطوة نحو العدالة: الخطوات التي نمشيها نحو الكشف عن مصير أحبتنا، وإطلاق سراح الأحياء منهم، ومحاسبة المنتهكين، وجبر الضرر عمّا وقع علينا من انتهاكات.