على شاطئ مدينة بحرية غير محددة في الشمال الفرنسي، فيما يوحي أنه إقليم بريتاني (Brittany)، يقدم الكاتب الفرنسي تانغي فيِل روايته فتاة تحت الطلب (La Fille Que On Appelle) في حبكة درامية تُسائل الواقع السياسي والاجتماعي في فرنسا. صدرت الرواية في شهر أيلول (سبتمبر) 2021 عن دار نشر مينوي (Minuit) باللغة الفرنسية، وكانت من ضمن الروايات المرشحة لجائزة الغونكور الفرنسية في العام نفسه. يحمل العمل ملامح من أدب الرواية السوداء، حيث تحكم المصائر التراجيدية أبطاله وبطلاته، ويتحول سؤال العدالة إلى مواجهة مع منظومة عنيفة ومسألة صراع مصيري. بأسلوب شديد الرقة والحساسية، يرسم الكاتب حادثة اغتصاب تمتد على مدار العمل، لكن هذه الجريمة وطريقة تصويرها لا تشبه ما هو معتاد في الأعمال الأدبية التي عنيت بمواضيع مماثلة. العنف وفعل الاعتداء في هذه الجريمة هو عنف خفي يحتل المكان دون إصدار صوت. جريمة الاغتصاب وسؤال الرضائية يشكلان القضية الرئيسية لهذا العمل، وقد سعى الكاتب للتصدي لهذين المفهومين ببراعة تتحدى تعريفات المنظومة البطريركية لهما.
شخصية الأب ماكس لوكور، وهو نجم سابق في المصارعة، هي أحد المداخل للرواية، عبر وعلاقته مع ابنته لورا لوكور الفتاة بارعة الجمال. بعد تتويجه في 2002 كبطل في المصارعة للوزن الخفيف، نراه وقد ولت أيام نجوميته وهو في الأربعينيات من عمره. بعد طلاق والديها، انتهى المطاف بابنته العشرينية لورا إلى العودة للمدينة التي ولدت فيها، و ذلك للعيش مع والدها الذي يعمل كسائق لدى عمدة البلدة، بعد أن مارست عدداً من الأعمال الصغيرة ومنها العمل كعارضة أزياء للملابس الداخلية. في بحثها عن عمل وسكن، يسعى ماكس بفضل علاقته مع العمدة كونتين لوبارس للتوسط لها عنده. يصبح هذا التفصيل العابر محوراً لعلاقة سامّة، يبسط فيها العمدة سلطته مُخضِعاً الفتاة لعلاقة عبودية جنسية مقابل إيجاد سكن وعمل لها. يُقدّمُ العمدة لصديقه فرانك بيليك، وهو مالك كازينو معروف في المنطقة، مساعدة في تسيير أعماله غير الشرعية. في الكازينو يؤمن العمدة للورا سكناً وعملاً يبتزها من خلالهما جنسياً على مدار الرواية. يتبين من خلال العمل تعقيد علاقة فرانك بيليك بماكس لوكور والد لورا، فهو الوكيل السابق له، والذي ساهم في إطلاقه في مهنة المصارعة. وهو أخ حبيبة ماكس السابقة هيلين الشاهدة على أحداث الصراع، والتي تطال ابنته لورا.
تبدأ الرواية من خلال الراوي، الضمير الحاضر في الأحداث، مع لورا أثناء تقديمها بلاغاً للشرطة بتهمة الاغتصاب ضد عمدة المدينة كونتين لوبارس والمرشح لمنصب وزير في الحكومة. تسرد لورا تفاصيل الحادثة لأفراد الشرطة، الذين يقابلونها بقلة حساسية مفرطة. في لقائهما الأول في مكتب العمدة، وجدت لورا نفسها في مواجهة مع رجل في الخامسة والأربعين من عمره لا يقيم لعلاقته بوالدها أي احترام. منذ اللحظة الأولى عند لقائه بها، وقبل أن يُقدّمَ لها المساعدة لإيجاد سكن، لا يتردد العمدة في كسر الحواجز والجلوس إلى جوار الفتاة بطريقة تكشف عن نواياه الجنسية. تَظهر قلة حنكة لورا وعدم خبرتها بالتعامل مع أمر مماثل منذ البداية، ففارق العمر وفارق الطبقة الاجتماعية والسلطة يمنحان العمدة قدرة على السيطرة على الفتاة والتلاعب بها. يتجنب العمدة استخدام نفوذه لتأمين شقة عن طريق السكن الاجتماعي، الذي يخضع لسلطة الحكومة، مما قد يجعله عرضة للمسائلة القانونية، ويقدم للورا عوضاً عن ذلك سكناً وعملاً في الكازينو الذي يملكه صديقه. منذ نزولها في غرفتها في الكازينو، يقتحم العمدة عليها تلك المساحة التي تصير فيها أسيرة المنظومة الفاسدة التي يديرها العمدة وشريكه. عند دخول العمدة على لورا وجلوسه على قطعة الأثاث الوحيدة فيها وهي السرير، تجد لورا نفسها خاضعة لسطوة عقد غير مكتوب. بحسب لورا، هو عقد تدركه النساء في سرهنَّ عند حصولهنّ على معروف ما، فهن يجدنَ أنفسهن في موضع الأسيرات اللواتي يُفرَض عليهن تقديم خدمات جنسية بالمقابل. يصف الراوي قوة وسلطة هذا العقد، الذي تدرك لورا وجوده وعدم قدرتها على الهرب منه في تلك اللحظة أمام العمدة في غرفة ذات أثاث فقير، إلّا من فراش يضعها في حالة من العجز والضعف. يبدي الكاتب تانغي فيل فطنة عالية في رسم صورة ذلك العقد، والذي يشبه عُرفاً بحسب المنظومة البطريركية. ففي اللحظة التي تستعين فيها إحدى النساء بشخصية ذات نفوذ لتحقيق أبسط الحقوق، ومنها الحصول على سكن، تجد نفسها تحت سيطرة أصحاب السلطة. رغم عدم رغبة لورا منذ البداية بالاستجابة للعمدة، ورغم نفورها منه، تعجز عن مواجهته وتقع فريسة لرغباته الجنسية التي يكرر فرضها عليها بشكل دوري. لا يتردد العمدة بالذهاب إلى الكازينو بالسيارة التي يقودها والد لورا الغافل عمّا يحدث هناك، ما يزيد العنف المُضمَر في المشهد. فخلال استغلاله للورا دون علم الوالد، يستمر العمدة في توجيه الملاحظات له حول عمله، وفي إطلاق الأوامر له لتنظيف السيارة وغيرها من التعليمات بنبرة متسلطة.
ضمن هذا الإطار للأحداث، يُقدّمُ تانغي فيل نقداً اجتماعياً يقارب فيه الواقع. فأحداث العمل تشابه حادثة أثارت الجدل في الأوساط الفرنسية، عندما رفعت صوفي سباتز في 2017 دعوى اغتصاب ضد الوزير جيرالد دارمانين متهمة إياه باستغلال نفوذه، ليُسقِط القضاء التهم عن الوزير، الذي اتُّهمَ مجدداً من قبل سيدة أخرى باستغلال ضعفها وإجبارها على تقديم خدمات جنسية مقابل الحصول على سكن ووظيفة. مرة أخرى أُسقطت التهم عنه لعدم قدرتها على إثبات أنها لم تكن فعلاً راضية عن إقامة علاقة جنسية معه. وبعد تعيين جيرالد دارمانين كوزير الداخلية في سنة 2020، احتجت مئات من النساء رافضات لتعيينه كونه متهم في قضايا اغتصاب. في مقابلة خاصة حول هذه الرواية، وعند سؤاله إن كانت تمثل نقداً اجتماعياً، صرَّحَ الكاتب تانغي فيل أنها وليدة شعوره بالسخط، وأنها وليدة ما يدور حوله من أخبار وأحداث استفزّت لديه الرغبة بالكتابة عنها. والعملُ الأدبي، وفقاً لرؤيته، هو محاولة لخلق شخصيات إنسانية وحالة عاطفية تهز القارئ وتحرك مشاعره.
عنوان الرواية، المأخوذ عن الإنجليزية (call girl)، والذي يشير عادة إلى العاملات الجنسيات ممن يتلقين طلبات تشغيلهن على الهاتف، قد يبدو للوهلة الأولى غير مُعبِّر حرفياً عن سياق الرواية، ولكنه مرتبط على نحو وثيق بصلب القضية التي يناقشها. فحين تتعرض لورا لحملة تشهير يحركها الوزير بنفوذه في وسائل الإعلام، تستخدم الحملة صورها أثناء عملها السابق كعارضة للملابس الداخلية ضدها، بما يتضمنه ذلك من الإيحاء بأنها «رخيصة» في محاولة لزعزعة موقفها. وتُعبّرُ بطلة الرواية عن شعورها خلال هذه التجربة وكأنها «عاهرة»، وأنه حتى وإن كان الأمر كذلك، فإن لها الحق في التعبير رغبتها عن عدم قبول علاقة جنسية بالإكراه.
مع استمرار أحداث الرواية، يعرف والد لورا متأخراً ما حصل مع ابنته، مدركاً كم الاستغلال الذي تعرض له كإنسان وكرياضي تم التلاعب به وبمسيرته، وكأب تعرضت ابنته للاغتصاب. تأتي شخصية والد لورا لتقدم نموذجاً ذكورياً مناقضاً للذكورة السامة المتمثلة في شخصيات العمدة وصديقه من مستغلي السلطة. ويسعى هذا التمايز بين الشخصيات للبحث في معنى الذكورة في هذا العصر، خاصة بعد حراك (Me-Too) الذي فضح حالات استغلَّ فيها رجالٌ سلطتهم للسيطرة على النساء وأجسادهنّ. على الرغم من إصابة ماكس في اللقاء الأخير بينه وبين مصارع شاب يصغره في السن، إلا أنه يغادر المشفى بنية الانتقام ممن استغلّ ابنته. وفي حالة من العجز يصبح جسد الأب سلاحاً وحيداً يواجه به من اعتدى على ابنته وتسبب بأذيتها، وهي العدالة البديلة التي تخيلها الكاتب بعد فشل المسار القانوني، كما يحصل كثيراً في حالات مشابهة. وتدمج الرواية هنا بين مُساءلة قصور الإجراءات القانونية والفهم المُحرَّف لمفهوم الرضائية، فنرى الشرطييَن وهما يسألان لورا عن تفاصيل علاقتها مع العمدة، باحثَين عن أدلة تثبت العنف الجسدي ضدها، عاجزَين في هذه الأثناء عن رؤية العنف المبطن الخفي الذي جعل لورا عاجزة أمام سطوة وسلطة العمدة. لدى وصول الشكوى للشرطي المسؤول، يصنف الدعوى كقضية إتجار بالنفوذ (Trafic d’influence)، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الفرنسي. لكن وبدل التصرّف حيال هذه الشكوى، يحاول الشرطي حماية الوزير وتنبيهه للتحرك بهدف تجنُّبِ الفضيحة.
جاءت لغة العمل الروائي الأدبية مكثفة ومشبعة بالمجازات الشعرية، واستخدم الكاتب صوت الراوي الحاضر للغوص في أفكار الشخصيات بشكل يجنبه إطلاق أحكام عليها. ولكن العمل يترك القارئ متعطشاً لمعرفة المزيد عن ماضي الشخصيات المعقد، والذي ترتبط فيه هيلين بماكس بعلاقة عاطفية تتسبب بطلاقه من والدة لورا. وفيه يظهر فرانك بيليك بوصفه وكيلَ أعمال المصارع الشاب ورجلَ أعمالٍ يستغل نجاحات المواهب الشابة. لكن هذه الاستعادة لا تأخذ حقها في العمل، وتبقى شخصيات هيلين وفرانك بيليك ثانوية، مجردة من العمق والدوافع، بينما يركز العمل على الحدث الرئيسي والمباشر متمثلاً في معاناة لورا في مواجهة العمدة المُتنفّذ. بالمقابل، يرسم الكاتب صورة ساحرة للمدينة البحرية التي تحمل أمواجُها لورا ملقية بها في دوامات فكرية مع كل اعتداء جنسي ونفسي تتعرض له، فتصبح المدينة وأمواجها المتضاربة مجازاً لما تعايشه لورا من ضياع وضعف. ويظل تانغي فيل أميناً لمدن البريتاني البحرية في الشمال الفرنسي كجزء من أسلوبه الذي عُرِفَ به، وخاصة في روايته الشهيرة المادة 353 من قانون العقوبات، التي عالجَ فيها أيضاً علاقة الفرد بالقضاء منشغلاً بسؤال العدالة، خاصة ضمن المساحات التي تُمنَح لحكم القاضي ورأيه الإنساني بالقضايا.
لاقت الرواية استحسان النُقّاد، ومنهم سيلفي تانيت التي أشادت بقدرة العمل على استكشاف مفهوم السيطرة في نص مُحكَم الصنعة ومميز. وكما يأتي رأي ناتالي كروم مشابهاً حول استحسان العمل وقدرته على سبر الهيمنة الذكورية. بينما رأى الناقد فريديريك بيجبدر الكتاب متوقَّعاً وشديد الصوابية السياسية. سعى عدد من الأعمال الأدبية، وخاصة، بعد حراك (Me-Too)، لمعالجة قضية الجسد والسلطة وسؤال الرضائية بطرق أدبية متنوعة. وعلى عكس ما قدمته رواية أشياء إنسانية المكتوبة باللغة الفرنسية لكارين التويل، كمثال عن الانحياز إلى صف المعتدي، فإن عمل فتاة تحت الطلب هو انحيازٌ من الكاتب إلى صف المعتدى عليها. تمنحنا هذه الأعمال مساحة لتأمل علاقات القوى وارتباطها بالجسد ضمن المفاهيم الجديدة، التي سمح حراك (Me-Too) بأخذها حيزاً إعلامياً، وتفكيك سرديات المنظومة الأبوية لمفاهيم مثل الرضائية بهدف استغلال نُسخ مشوهة منها لتبرير الاستمرار باستغلال النساء.