«ماذا يعني أن تكوني امرأة؟»، قد يَسأل رجل.

«حسنٌ، ماذا يعني أن تكون رجلاً؟»، قد تردّ امرأة.

إن أسئلةَ الـ«ماذا يعني أن تكون» هي دوماً أسئلة محيّرة؛ بل ومستحيلة الحل، قد يضيف بعضهم. فإذا كان بوسع امرأة أن تجيب عن سؤال «ماذا يعني أن تكون رجلاً؟» (أو العكس)، فمعنى ذلك أن بوسعها أن تشغل زاوية نظر الرجل ذاتها إزاء العالم. وسيعني ذلك، بالتالي، أن وعيه، أو وجهة نظره الذاتية، يمكن أن تصبح وعيها هي.

لكنْ، كيف لذلك أن يحدث؟! إن «زاوية نظري الذاتية» ليست زاوية نظرٍ بالمعنى الحرفيّ، مثل قمة «مقعد آرثر» مثلاً، بحيث يمكن أن أشغلها، أو أُخليها لأدعكَ تَشغلُها. وليس الوعي سماعةَ رأسِ واقعٍ افتراضيّ يمكن لأي شخص ارتداؤها. فأنا لا أستطيع ببساطة أن أناولك النظارات الواقية لتجربتي وسماعة أذنيها، بحيث تستطيع أن تختبر، على نحو مباشر بِقدري، ماذا يعني أن تكون أنا.

وحتى إن كان وعيي سماعة رأسِ واقعٍ افتراضي تستطيع أن ترتديها ببساطة، ما الذي ستحصل عليه بارتدائها؟ إنك لن تحصل على تجربتي، بل على تجربتكَ عن تجربتي. ومن الجليّ أن ذلك ليس ما كنتَ تسعى إليه عندما سألت: «ماذا يعني أن تكون أنا؟».

لكن، وعلى الرغم من مجرى هذا الاعتراض، فإننا يجب أن نتمسّك بحقيقية مهمة غالباً ما تحجبها الفلسفة. إن وعي الآخرين، أو حيواتهم العقلية، ليست، في بعض الأحيان على الأقل، معروفةً من قبلنا إلا من خلال الملاحظة. لقد اعتبر معظم الفلاسفة، على الأقل منذ زمن ديكارت، أن «خصوصيّة العقليّ» أمرٌ مفروغٌ منه. غير أن الحالات العقلية قد تكون أحياناً عامّة بقدر أيّ شيء آخر. فعندما تضرب إبهامك بالمطرقة، أرى، على نحو مباشر، أنك تتألم. وعندما يخرج وزيرٌ مترنحاً من شارع داونينغ، أرى، على نحو مباشر، أنه مخمور حتى الثمالة. وحين يهين متنمّرُ المدرسةِ التلميذةَ الخجولة أمام الصف كلّه، فإن إحراجها المُتألِّم ليس خاصاً، كما كانت معظم حالاتها العقلية السابقة. إنها، بسبب كونها خجولة، متخصصة في الاختباء؛ لكنّ ذلك تحديداً هو مصدر عذابها وهي تواجه استهزاءات المتنمّر: حالتها العقلية هذه عامة، مرئية للجميع على نحو مباشر. بالنتيجة، في هذه الحالات وكثير غيرها، العقليّ ليس خاصاً على الإطلاق؛ على الأقل ليس إن كان «الخاص» يعني «غير قابلٍ للملاحظة». وعلى الرغم مما يراه ديكارت، عندما نسأل أسئلة الـ«ماذا يعني أن تكون»، ليس بالضرورة أن تكون أسئلتُنا على الدوام غير قابلة للإجابة؛ أو حتى صعبة الإجابة.

أحد المصادر ذائعة الصيت لأسئلة الـ«ماذا يعني أن تكون» هو بحث توماس نيغل الكلاسيكي «ماذا يعني أن تكون خفاشاً؟».المجلد 4/83 من مجلة (Philosophical Review)، تشرين الأول (أكتوبر) 1974، ص 435-450. من البديهي، وفقاً لنيغل، أن هنالك «شيئاً ما» يعني أن تكون خفاشاً؛ ثمة حقائق حول ما يعني أن تكون خفاشاً؛ للخفافيش وعيٌ مثلنا تماماً. إلا أن للخفافيش وللبشر أنواعَ وعي مختلفة أشدّ الاختلاف. على سبيل المثال، يؤدّي تحديد الموقع بالصدى بالنسبة إلى الخفافيش الوظيفةَ ذاتها تقريباً التي يؤديها النظر بالنسبة إلى البشر. لكن، وعلى الرغم من أنهما متماثلان وظيفيّاً، فمن الواضح أنه لا بدّ أن تكون هنالك فوارق بين تجارب الرؤية الذاتية وتجارب تحديد الموقع بالصدى الذاتية. إن اختلاف وعي الخفاش عن وعي البشر هو حقيقة، تماماً كما أنّ اختلاف أجساد الخفافيش عن أجساد البشر اختلافاً كبيراً هو حقيقة. لكنْ، كيف للحقائق المتعلقة بالوعي أن ترتبط بالحقائق المتعلقة بالأجساد؟ يعتقد نيغل أن هذا لغزٌ فلسفيّ عويص: لغزٌ يمكن أن ندعوه «مشكلة الجسد-العقل». فمن ناحية، لا نستطيع أن نفسّر بسهولة كيف يتصل هذان النوعان من الحقائق، إنْ كانا يتصلان قط. ومن ناحية أخرى، لا نستطيع أن ننكر ببساطة وجود أيٍّ من نوعي الحقيقة هذين. إن مشكلة الجسد-العقل تتركنا في حيرة؛ وربما يجب أن تتركنا كذلك.

إلى جانب سؤال «ماذا يعني أن تكون خفاشاً؟»، يمكن لنا بالمثل أن نطرح السؤالين اللذين بدأتُ بهما: «ماذا يعني أن تكون رجلاً؟» و«ماذا يعني أن تكوني امرأة؟». هل ثمة شيء مميّز يجعلك رجلاً أو امرأة، مثلما هنالك شيء مميز يجعلك خفاشاً أو إنساناً (أو كلباً، أو لاما، إلى آخره)؟ وعلى مستوى وعينا، هل هنالك «عالَم رجل» و«عالم امرأة؟» هل هنالك حيّزا وعي منفصلان، ولكلٍّ منهما نكهته الخاصة؟

إن الجنس متمايز عن الجندر (النوع الاجتماعي)؛ سأشرح ذلك خلال دقيقة. بالتالي، يمكن كذلك تقسيم السؤال إلى سؤالين. يمكن لنا أن نسأل فيما إذا كان هنالك شيء مميز يجعلك ذكراً أو أثنى «female/male» (سؤالٌ يخص الجنس). ويمكن لنا كذلك أن نسأل فيما إذا كان هنالك شيء مميز يجعلك ذكورياً أو أنثوياً «feminine/masculine» (سؤال يخصّ الجندر).

أعتقد أن الإجابة عن كلا هذين السؤالين هي «نعم، على نحو واضح». لماذا نعم؟ ولماذا على نحو واضح؟

ثمة شيء مميز يجعلك ذكراً أو أنثى، لأن جانباً أساسياً -وواضحاً وضوحاً شديداً- من ما يعني أن تكون إنساناً هو الجسديّة. إن وعينا بأجسادنا متجذّرٌ في بقية وعينا كلّه تقريباً. (ثمة «تجارب الخروج من الجسد» طبعاً، لكنها استثنائية). إن شكل أجسادنا، وإدراكنا لأجسادنا من «داخلها»، هو شرطٌ أساسٌ لشكل ظاهريّاتنا: ما يعني أن نكون بشراً هو، في جزئه الرئيسي، ما يعني أن يكون لدينا جسدٌ بشري. (لاحظوا كيف أن هذه النقطة يمكن أن تساعدنا في سؤال نيغل الاستهلالي «ماذا يعني أن تكون خفاشاً؟» وفي سؤال نيغل اللاحق: كيف ترتبط حقائق الأجساد بحقائق الوعي؟ لاحظوا أيضاً أنها لا تستطيع أن تساعدنا في هذين السؤالين).

تختلف أجساد الذكور والإناث، وبطرق فارقة. الذكر والأنثى مختلفان بالشكل عادة؛ فهما مختلفان، على سبيل المثال، في الأعضاء التناسلية، في وجود أو عدم وجود ثديين، في توزع دهون وشعر الجسم، في الحجم، وفي التوزيع العضلي. كما إن الذكر والأنثى خاضعان لحساسيّات مختلفة: الإناث أكثر شعوراً بالبرد، الذكور أقلّ قدرة على التعامل مع اضطرابات النوم. وهما كذلك يتأثران بإفرازاتٍ هرمونية مختلفة تحدث وفق جداول زمنية مختلفة، وتترك تأثيرات مختلفة على حالاتهما المزاجية وميولهما. على نحو مبسّط: تختبر الإناث (أو معظمهنّ ضمن فئة عمرية معينة) دورة طمثية، في حين أن الذكور يختبرون (أو معظمهم ضمن فئة عمرية معينة) التستوستيرون. حتى أن أجساد الذكور والإناث لها رائحة مختلفة (أَستنتجُ أن هذا مرتبط بالاختلافات الهرمونية).

في حالة التمييز القائم على الجنس (ذكر/أنثى) ما يهم هو الجسديّ؛ أما في حالة التمييز القائم على الجندر (ذكوري/أنثوي) فما يهم هو السياسيّ. يختلف وعي الذكر عن وعي الأنثى لأن أجساد الذكور والإناث تختلف؛ بينما يختلف الوعيان الذكوري والأنثوي لأن أدوار الذكر والأنثى السياسية اختلفت. بالتالي، ثمة شيء مميز يجعلك ذكورياً أو أنثوياً، لأن جانباً أساسياً -وواضحاً وضوحاً شديداً- من ما يعني أن تكون إنساناً هو الحياة السياسية.

وأعني هذا بالمعنى الواسع لكلمة «سياسيّ». فحيثما يوجد بشر، توجد علاقات قوة. وأحد أسسِ علاقاتِ القوة هذه هو إدارة التوقعات. إن مهمة التنبؤ بسلوك البشر الآخرين (سواء كانوا أفراداً أو مجموعات) هي مهمة جسيمة على نحو مُستعصٍ. ولهذا نختزلُ هذه المهمة إلى اتساقاتٍ قابلة للإدارة من خلال الأعراف والتابوهات، التوقعات والاتكالات، الاتفاقيات والتفاهمات، التقاليد والقواعد. ومن هذه الحقيقة، بمرور الزمن، تنشأ الإيديولوجيا. 

إن محور الكثير من هذه الأعراف، التابوهات…إلى آخره، هو تنميط البشر الآخرين. وإحدى الطرق الواضحة لتنميطهم هي من خلال جنسهم البيولوجي (سواء كان فعليّاً أم محسوساً). ومن هذه الحقيقة، بمرور الزمن، تنشأ إيديولوجيا الجندر: نُراكِمُ قصةً حول نوعِ الدور الاجتماعي، أو الدور الجماعاتيّ، الناتج عن الانتساب إلى أحد الجنسين البيولوجيين. 

إن مفاهيمنا عن «الذكوري» و«الأنثوي» هي، تحديداً، قصصٌ من هذا النوع. ومن الواضح منذ بداية ثقافتنا أن هذا النوع من القصص بوسعه أن، وهو بالفعل، يرمّز ليس لعلاقات قوة وحسب، بل لاضطهادٍ كذلك. ومن الواضح أيضاً أن هذه كانت وظيفة تلك القصص عبر التاريخ.

«لكن، لحظة»، قد يعترض بعض الناس على هذه النقطة: «الوعي مجرد إدراكٍ ذاتي للعالم! ما علاقة السياسة بما إذا كان الوعي مُجندَرَاً؟». وإجابتي هي أن ذلك الاعتراض يعزو نقاء زائفاً -موجَّهاً بالإيديولوجيا- وروحانياً للوعي. إن فلسفة العقل، بالإذن من العديد من مفسّريها المعاصرين، ليست دراسة حيادية أخلاقياً أو بريئة إيديولوجياً. فلسفة العقل هي جزء من «العلوم الإنسانية»؛ السياسة لها كلّ العلاقة بها. لذلك، عندما صكّ كارل ماركس عبارة «الوعي الطبقي» (Klassenbewusstsein)، لم يكن ذلك الاستخدام لكلمة «وعي» مجرد تَمَاثُلٍ صوتيّ. إننا، نحن البشر، كائنات جسدية وسياسية في الآن ذاته: شرطنا السياسي يشكّل إدراكنا للعالم تماماً مثل شرطنا الجسدي.

أتذكر زيارتي لبلغاريا قبل نهاية الشيوعية، وشدة دهشتي باختلاف لغة جسد الناس هناك عن مدى تماسك الناس في إنكلترا: الأكتاف المحنيّة، رفض النظر في عيون واحدهم الآخر، وكيف أنه حتى المشي عبر حشدِ محطة السكك الحديدية له شكلُ مشية جانبية مختلسة، بالإضافة بالطبع إلى التلفّت الدائم المُحترِس من رجال الشرطة الذين كانت لغة جسدهم مختلفة تماماً عن لغة جسد الجميع: كانت لغة جسدٍ مختالة، وقحة، غير مبالية؛ لغة جسدِ المتغطرسِ المتحكم، متنمّرِ المدرسة مرة أخرى. وربما يكون من المبتذل القول إنه عنما تعيش في ظلّ دكتاتوريّة، فأنت في حالة حذرٍ دائم؛ لكنها حقيقةٌ حرفية. إن واقع الرقابة كليّة الوجود يشحن تجربتك كلّها بإحساس بالعطَب، الهتك، والعري.

إن الوعي ليس تجريداً خاملاً: إنه، من بين أشياء أخرى، مشحونٌ سياسياً. كما أن الاضطهاد ليس محضَ تجريد: بالنسبة إلى المُضطَهَدين، يُشكِّلُ الاضطهاد جميع جوانب رؤيتهم لبيئتهم؛ للعقبات والإمكانيات، للتهديدات والفُرَص، التي تعترض طريقهم. وكما يَردُ في تراكتاتوس فيتغنشتاين (6.43): عالمُ الشخصِ المضطَهَد مختلفٌ عن عالم الشخص الحرّ.

خلاصة القول إذاً: الوعي مُجندَر، ومجندرٌ على نحو واضح، لأن الوقائع السياسية لما يعني أن تكون ذكورياً، وما يعني أن تكون أنثوياً، مختلفة على نحو فارق. علاوة على ذلك، الوعي مُجنسَن، ومجنسن على نحو واضح، لأن الوقائع الجسدية لما يعني أن تكون ذكراً، وما يعني أن تكوني أنثى، مختلفة على نحو فارق. وذلك هو السبب في أن الإجابة عن سؤالينا ليست «نعم» وحسب، بل «نعم على نحو واضح».

عند هذا الحدّ، أتوقع أن أواجه اعتراضين: اعتراضٌ (إذا جاز التعبير) من اليمين، وآخرُ من اليسار. سيتمحور اعتراض الجناح اليمينيّ حول ما قلتُه للتو عن التمييز الذكوري/الأنثوي والاضطهاد السياسي. وسيكون الاعتراض على الشكل التالي: «لا تستطيعين أن تناقشي أن الجندر مُضطهِدٌ الآن بالإشارة إلى أنه كان مُضطهِداً في السابق!» أما اعتراض الجناح اليساري فسيكون، على العكس، حول ما قلتُه سابقاً حول تمييز الذكر/الأنثى ومسألة الاختلاف الجسدي، وسيكون على الشكل التالي: «يا للعجب! اختلافاتٌ فطرية بين الذكور والإناث على أساس أجسادهم؟ يا لكِ من متحيزة جنسياً!».

على اعتراض اليمين، إجابتي هي أن الجندر هو إيديولوجيا تضطهِد البشر في مجتمعاتنا. وعلى الرغم من أن الاعتراض محق تماماً من حيث أنه يلفت انتباهنا إلى حقيقة التغيير التاريخي؛ وهي حقيقة وثيقة الصلة دوماً عند التفكير بالسياسة، لكنها عُرضة جداً للتلاشي عند التعاطي مع الفلسفة، حتى عندما تكون تلك الفلسفة هي فلسفة الأخلاق. علاوة على ذلك، إن تلاشي إمكانية التغيير بمرور الزمن يغدو أكثر سهولة عندما نتعاطى فلسفة العقل.

يخفق البشر أحياناً في ملاحظةِ أن علم الأخلاق هو دراسة خاضعة للتاريخ وللسياسة. وحتى عندما يلاحظون ذلك، فإنهم يظلّون (كما قلتُ مسبقاً) ميالين جداً لأن يتبنوا افتراضاً خاطئاً يقول بأن فلسفة العقل، على عكس فلسفة الأخلاق، هي دراسة لا سياسية. إن استفساراتنا حول أسئلة من قبيل «هل الوعي مُجندَر؟» يمكن أن تُقوَّض بسهولة نتيجةَ مثل هذا الخطأ. وما من حقيقة أزلية حول ما يُجيب عن هذا السؤال: الجندر إيديولوجي وسياسي، والإيديولوجيات والسياسات تتغير. بالتالي، حتى إن كان الوعي في الحقيقية مُجندرَاً دائماً، فإن هنالك طرقاً مختلفة لجندرته، وفقاً للإمكانيات السياسية والإيديولوجية المختلفة. وبما أن الإيديولوجيا ليست دائماً سيئة أو مؤذية -بعض الإيديولوجيا بالفعل ليست مؤذية على الإطلاق- يصبح بإمكاننا أن نطرح هذا السؤال: كيف ستبدو إيديولوجيا جندر حميدة؟ وهل ثمة طرق للإبقاء في مجتمعنا على التمييز الذكوري/الأنثوي، أو تمييز ذكوري/أنثوي، على نحو يكون غير مؤذٍ؛ أو حتى مفيداً جداً؟ نعم، أعتقد ذلك. غير أني هنا أكتفي بالإشارة إلى تلك الإمكانية، ولن أحاول استكشافها أبعد من ذلك الحد.

أنتقل الآن إلى اعتراض اليسار. وهو الاعتراض القائل بأنه من التحيّز الجنسي القول، كما فعلتُ أنا، بأن الوعي ليس مُجندراً وحسب، بل مجنسنٌ كذلك لأن هنالك فروقاً جسدية بين الذكور والإناث. وإجابتي هي: مطلقاً، شريطة أن ننتبه إلى أن تمييز ذكر/أنثى ليس المحور الوحيد للاختلاف الجسديّ الذي نلحظه بين أجساد البشر. فبالإضافة إلى تمييز الأجساد البشرية على أنها ذكر/أنثى، يمكن لنا أيضاً أن نميزها على أنها مُسنّة/فتية، معافاة/سقيمة، سمينة/نحيلة، قوية/ضعيفة، متينة البنية/عاجزة، وبطرق أخرى كثيرة. ولو كان سؤالي: «هل يتحدّد الوعي البشري بالصحة/المرض؟»، لكان جوابي على ذلك أيضاً: «نعم، على نحو واضح». ولو كان سؤالي: «هل يتحدد الوعي بالعمر؟»، لكان الجواب ذاته. وينطبق ذلك أيضاً على تمييزات سمين/نحيل، قوي/ضعيف، وكل أنواع التمييزات الجسدية الأخرى التي قد نُعيّنها. 

لا بدّ لي من القول هاهنا، أنني في جميع النواحي التي ناقشتها، أَتّبعُ ببساطة منطق حجتي الخاصة. بدأتُ بالقول إن مُحدِّداً أساسياً للوعي البشري أو الذاتية البشرية هو اختبارنا لجسديتنا: ما يعني أن تكون إنساناً يُحدَّد، في جزئه الرئيسي، بما يعني أن يكون لكَ جسدٌ بشري. لكن، ثمة «أنواعاً» عديدة ومختلفة من الجسد البشري. وبالنسبة إلى الكثير من الأنواع المعينة للبشر التي نميّزها من خلال الإشارة إلى أجسادها، فإن ما يعني أن تكون إنساناً من هذا النوع أو ذاك يتّسم بطبيعة مميزة، تُحدَّد من خلال الإشارة إلى نوع الجسد المعني. وواحد من تمييزات الأجساد البشرية هو، بالطبع، تمييز ذكر/أنثى. لكنه، واحدٌ فحسب. وما يسبّب زعم التحيز الجنسي هو افتراض أنني قلت أن تمييز ذكر/أنثى هو التمييز الوحيد الرئيسي بين الأجساد البشرية. غير أني لم أقل ذلك. لم أقل ذلك قط؛ وما قلتُه للتو هو إنكار صريح.

بالنتيجة، هل الوعي مُجندَر؛ أي يتباين وفق تمييز ذكوري/أنثوي؟ نعم، هو كذلك. والوعي مُجنسَن أيضاً؛ أي أنه يتباين وفق تمييز ذكر/أنثى. لكنه أيضاً يتباين عبرَ كثيرٍ من الطرق الأخرى، ومن خلال الكثير من التمييزات الأخرى. وما نقرّر أن نعتبره أكثر أو أقل أهمية من بين هذه التمييزات لا يُحدَّد بالبيولوجيا، بل بواسطتنا.

كملاحظة ختامية: ثمة تمييز آخر قد تتوقعون مني أن أُعيّنه، على الأقل إن صادف أنكم تعرفون القليل عني شخصياً. وهذا التمييز هو تمييز متوافق/متحول؛ أي التمييز بين من هم متحولوّ الجنس ومن ليسوا كذلك (من يُسمّون متوافقي الجنس). إننا نتساءل فيما إذا كان الوعي مجندراً. لكن ماذا عن سؤال: هل الوعي عابر للجندر؟ بكلمات أخرى، هل هنالك شيء مميز ومُحدَّد يجعلك متحوّل الجنس؟

بوصفي امرأة متحولة الجنس، جوابي هو: «نعم، بالتأكيد». أن تكون متحوّل الجنس يعني أن تكون في حالة ارتباط فارقة بتقسيمَيّ الذكوري/الأنثوي، والذكر/الأنثى. ويعني، كما اختبرتُه أنا، أن أجد نفسي غير متفقةٍ مع كلا التصنيفين. فقصتي هي أنني وجدت نفسي مُصنّفة كذكر وكذكوري، في حين أن ما يبدو صائباً وطبيعياً بالنسبة إلي، وما أريده لنفسي، هو أن أصنَّف على الجانب الآخر من هذين التمييزين؛ كأنثى وكأنثوية. وبالتالي، قصتي هذه هي بالتأكيد عن اكتشافي، من بين أشياء أخرى، أن وعيي له سمة محددة ومميزة، ومن الواضح أنها غير موجودة في وعي الناس الآخرين، إلا عندما يكونون متحوليّ الجنس أيضاً.

بالطبع، هنالك قصصُ متحوليّ جنس أخرى ممكنة. (حتى بالنسبة إلى النساء المتحوِّلات؛ الرجال المتحولون وغير مؤكدي الجندر يتحركون في اتجاهات أخرى من جديد). على سبيل المثال، قد لا تهتم إحداهن سوى بالانتقال من ذكر إلى أنثى، وترفض تمييز ذكوري/أنثوي برمته (أي قد تعتبره إيديولوجيا سيئة يجب إلغاؤها ببساطة). أو قد لا تتهم سوى بالانتقال من ذكوري إلى أنثوي، وترفض تمييز ذكر/أنثى تقريباً برمته (أي قد تعتبره بيولوجيا غير مهمة ولا يجب أن تتصدّر الطريقة التي ننظّم بها المجتمع أو نفكر بها في ذواتنا). لكن، مهما يكن من أمر، ذلك هو الحال بالنسبة إلى بعض النساء المتحولات، بمن فيهنّ أنا. نحن نعتقد -ومن الضروري لوعينا أن نعتقد- بأن تمييزي ذكر/أنثى وذكوري/أنثوي يمكن منحهما تعابير سياسية إيجابية وغير مؤذية. كما نعتقد أننا نحن أنفسنا سنكون أفضل حالاً على الجانب المغاير للجانب الذي بدأنا منه في كلا التمييزين.

بوجه عام، البشر (بمن فيهم متحولو الجنس) مصيبون، على نحو قابل للإثبات، في أحكامهم حول ما هو أفضل بالنسبة إليهم. كما أننا نعيش في مجتمع يُفتَرض أن ينال الجميع فيه حيّزاً واسعاً من حريةِ اختيار ما يعتقدون أنه أفضل بالنسبة إليهم، حتى عندما لا يكونون مصيبين. بالتالي، من الصعب أن نفهم لماذا قد يكافح أي شخص ضد السماح لمتحوليّ الجنس بحق تقرير المصير ذاته الذي يعتبره متوافقو الجنس أمراً مُسلّماً به.