كان أهل القرية التي عشتُ طفولتي فيها يقولون عن واحدنا: هذا طالع لأبيه، أو طالع لخاله. وأغلب الظنّ أنّ قرى كثيرة، بل مدناً كثيرة، في منطقتنا، تستعين بالعبارة هذه. وهناك بالطبع آباء وأخوال كثيرون يجدون في أنفسهم نُسَخاً جديرة بأن تُكرَّر أو مثالاتٍ تستحق أن تُقلَّد.
لكنّ الطالعَ لأبيه أو لخاله لا يرث عنهما شكليهما فحسب، ولا طريقتيهما في الحركة أو التحدّث فقط. إنّه يرث عنهما، أو هذا ما يقصده القائلون، أفكاراً وقناعات يُفترض أنّها، تعريفاً، لا تقبل التوريث. ففي هذا «الطلوع» للأب أو للخال، يدمج الشكل وطريقة التعبير والتأشير باليدين، بالأفكار والقناعات، في كلٍّ واحدٍ لا تمييز بين عناصره، بحيث تغدو الأفكار امتداداً للجينات نفسها، تُورَّث مثلما يُورَّث لون العين وطول الذراع.
هذا، كما يُقال، هو الطبيعة والطبيعيّ، خلافُه خلافٌ لهما وعدوان على قوانينهما. فما دمتَ «طالعاً لأبيك» أو «طالعاً لخالك»، صار من المُستهجَن، إن لم يكن من المُعيب، أن لا تكون مثلهما في كلّ شيء تقريباً.
وقد يجمع بيننا كلِّنا أنّنا نطلع لآبائنا أو لأخوالنا، أو يُراد لنا ذلك، فنستمدّ قناعاتنا الأولى من حيث نأتي، من عائلة أو طائفة أو منطقة أو حزب له لون العائلة والطائفة والمنطقة. لكنْ ربّما جمع بيننا كذلك أنّ هذا الذي تُحمِّلنا إيّاه بيئتنا، مثلما تحمّلنا الشكل واللهجة واللون، ليس قناعة ولا فكرة. إنّه قناعةُ غيرنا الذين ورّثونا إيّاها، وقد يكونون هم أنفسهم قد ورثوها عن أسلاف لهم صالحين. هكذا نتسلّم منهم ما نسلّمه لمن يَلينا، محافظين على النقاء البلّوريّ لبيئتنا المقدّسة.
ولمّا كان الطفل وحده مَن يصحّ فيه الوصف بأنّه ابن بيئته، يمتلىء بها ويتّخذها ديانة تُعدِم تجربته الخاصّة، بدا تطفيلُنا شرطاً ضروريّاً لـ «تفكيرنا» هذا ولـ «القناعات» التي تصدر عنه.
ولربّما كان مفهوماً أن تتشبّث الشعوب المنكوبة جيلاً بعد جيل بمشاعر موروثة صاغها الأقدمون وتناقلوها، أو أن تستعين أقلّيّات ترى أنها مغبونة تاريخياً، بقوالبِ وعيٍ جاهز ومُكتفٍ بذاته. لكنْ حتى في حالات كهذه لا يعوزها الحقّ ولا الشرعية، تتحوّل المظلومية حجّة على المظلوم تصدّه عن العالم وقد تجعله، هو نفسه، ظالماً، كما قد تبقيه طفلاً إلى ما شاء الله.
والحال أنّ القرابة، مصغّرةً كانت أم موسّعة، أشبه بآلة تكبس البشر كبساً فيخرجون منها نسخةً واحدة، آلةٍ يرتهن اشتغالُها بأن نبقى أطفالاً يطيعون الآباء أو يقلّدون الأخوال من غير أن يجترحوا لنفوسهم نفوساً خاصّة، تنفصل بهم عن تلك النطفة الأولى.
وفي هذا كنّا نستشير الخرافات بكثرة، لكنّنا، للأسف، لا نستشير الأساطير. وربّما لو فعلنا أدركنا أنّ الحضارة لم تنشأ إلاّ بعد أن قتل قايين أخاه هابيل، وأنّ المدينة لم تُبنَ إلاّ بعد أن أقدم رومولوس على قتل أخيه ريموس.
صحيح أنّ قناعاتنا المزعومة ما عادت تأتي من الله، كما في أديان التوحيد، إلاّ أنّها استعارت طرق الدين نفسَها وعلمَنَتْها. فالقرابة تقول لنا أيضاً ما يقوله الدين: هنا الطريق. هنا الحقّ. هنا الصراط المستقيم. هنا نقف معاً ومعاً نسقط. وهي لا تجد في الدين ما يعترض ذلك، بل تلقى فيه الحضن الدافىء الذي يَعِظُنا بأن نقبّل أيدي آبائنا وأمّهاتنا في الصباح قبل أن نسير على بركات الله. ولربّما كان أكثرُ ما استعارتْه القرابة من الدين أنّ الأهل والبيئة يغدوان مصنعاً حصريّاً للقناعة، مصنعاً يدور فيه الدم على نفسه ويبقى يدور إلى أن يلوّثه السمّ الذي انتشر فيه. ولأنّ الجماعات ذات دم مغلق يراد له أن ينتقل من جيل إلى جيل، فإنّ الآخر لا بدّ أن ينطوي على درجة من الشيطانيّة قد تكون صغيرة تستدعي الحذر منه، وقد تكون كبيرة تستدعي الحرب عليه.
وأنا شكَّلَ الشعرُ والحماسة، في تلك المرحلة الوراثيّة من حياتي، عالمي الصغير، حتّى أنّني ظننت أنّهما أمر واحد، أو أنّ ما من شعر خارج الحماسة التي هي وحدها مفتاح معرفة الكون.
فالقصائد تلك، قصائد رشيد سليم الخوري وسليمان العيسى مثلاً، تشدّ إزر الجماعة وتقول لها إنّها على صواب فيما غيرها على خطأ، فحين تضاف إليها مقالة لميشال عفلق أو خطبة لجمال عبد الناصر يتّسع ذاك العالم القليل لأسماء ووجوه بعضها ملائكة وبعضها شياطين، كالعائلة المنافسة في القرية أو كنوري السعيد وكميل شمعون، وبالطبع إذاعة البي بي سي من لندن ومن ورائها إسرائيل.
لقد كان الشعر الحماسيّ مادّة عيش، لا مادّة تأمّل أو تمثيل. فالدم والشهداء ملاحم راهنة تُعاش في الجزائر وفلسطين وبور سعيد، وقد تعاش في أيّة أرض عربيّة أخرى، بما لا يترك مكاناً للمجاز أو للتخييل، دع جانباً السخرية.
لكنّني أزعم أنّ السينما الأميركية هي ما كانت مُنقذي المبكر والجزئيّ من ضلال الحماسة العربية وشِعرها. فمن خلال سينما أدونيس في الأشرفيّة، والتي امتلكها عمّي ولم تعمّر طويلاً، كما من خلال سينمات طرابلس التي دمّرتها الحروب اللاحقة، كان ناس الأفلام يتقاتلون ويتحابّون ويفعلون أموراً كثيرة، وكان كلّ شيء، في الحساب الأخير، «تمثيلاً». فالبطل، على عكس حاله في رواية الحماسة الشعرية العربية، بطلٌ لساعتين فقط، ومثله الخائن والشرّير، وقد نراهما في فيلم آخر يتبادلان أدوار البطولة والخيانة. أبعد من هذا أن السينما تُعلّم أنّ الدنيا مفتوحة على الاحتمال، وأنّ البشر أكثر من قاتل وقتيل. أمّا الوهم، الذي أطنبت الأديان والإيديولوجيّات الكبرى في هجائه، فقد يزوّدنا بالحيلة على واقع لا بدّ من الاحتيال عليه بالأوهام، أو بالأمنية التي إن لم تتحقّق لنا فها نحن نراها تتحقّق لأفراد سوانا.
في المقابل، كنّا كائنات مضادّة للسينما، بل مضادّة للرواية والسرد والتفاصيل، نستعجل إصدار الحكم ومعرفة النهاية ومَن الذي انتصر ومَن الذي انهزم، ونستعجل الاصطفاف وتحديد الموقف والموقع في معركة فعليّة. هكذا حين سمعت من أحدهم ذات مرّة أنّ كيرك دوغلاس ويول براينر صهيونيّان، وكانا عندي من أَحَبِّ المُمثّلين، تظاهرت بأنّني لا أسمع كي أُعفي نفسي من الموقف. ومذّاك، ورغم تقلّب أطواري، بقي تعبير «غزو ثقافيّ»، ولاحقاً «مقاطعة ثقافيّة»، تعبيراً كريهاً لا يثير فيّ إلا الشوق لاستقبال غزو كهذا.
والحقّ أنّ السينما لعبت، في تجربتي الشخصيّة، الدور الذي يلعبه التحليل النفسيّ إذ يجعل اللاوعي وعياً. فهي استنطقتْ فيّ، ولو تأخر ظهور نتائج الاستنطاق عقوداً، ما تردع عنه السياسة حين تصنّف الأشياءَ قبل معرفتها، أو من دون تلك المعرفة.
مع هذا كان لعالم القرية والطلوع للأب أو للخال ديكورُه الملازم الذي قد لا يُفهَم من دونه عالم الوراثة وعصبيّتها. فقد كنّا جميعاً ملتصقين بالطبيعة، بل كنّا نقيم في حضنها: الليل كان حالكاً أكثر ممّا هو اليوم، وبرد الشتاء كان أقسى، نحسّه بصورة خاصّة حين نعبر الخلاء الذي يفصل البيت عن بيت الخلاء. كذلك كانت السماء تمطر أكثر ممّا باتت تفعل، مُرسلِةً من الرعد والبرق ما يُشعرنا بأنّ نهاية العالم صارت وشيكة، أمّا الثلج فكان يهطل كلّ عام على تلك القرية معتدلة الارتفاع، فتكسر جدّتي يدها أو رجلها كلّما أتى الثلج.
ولئن كان مألوفاً ذبحُ الخراف والدجاج على مقربة منّا، ورؤيتُها وهي تتحشرج، فسهراتنا حول الموقد لم تفارقها الأخبار عن ضبع شوهد في وادٍ مجاور أو عن ذئب عبر البستان القريب.
وكان للقسوة أشكال أخرى كثيرة، كالسخرية من أشخاص يختلفون في مظهر أو ملبس أو لهجة، والتنمّر على ذوي احتياجات خاصّة، وتعذيب قطط ورفس كلاب أو رميها بالحجارة. وبسبب «ثقافة» الهجرة إلى إفريقيا، والقريةُ نصف أهلها مهاجرون، لازمَنا ذكرُ «العبيد» الذي واكب الكثير من كلامنا.
وإذ امتلأ بيت جدّي، إبّان أحداث الـ 58، بالرصاص والرمّانات اليدويّة المرسلة إلينا من «الجمهورية العربية المتّحدة»، كي نقاتل شمعون و«أذناب الاستعمار»، فقد شكّلت تلك الموادّ القاتلة بعض ألعابنا الأولى، نتراشق بما وصل إلينا منها أو نطمره في الحديقة الملاصقة للبيت. فنحن كنّا ننتمي إلى الطبيعة بمعنى سياسيّ أيضاً، إذ لم نكن من لبنان الذي نرفضه، بل لم نكن من مكان محدّد صنعه البشر، مكتفين بعروبة هائمة على وجهها، عروبةٍ لا تكاد تحطّ في سوريّا أو مصر حتّى تُسجن في فلسطين أو تُهان في الجزائر. فالبلاد الفعليّة صورة غائمة يمكن دائماً الاستغناء عنها لصالح ذاك الطيف الذي نُحمّله الوضوح القاطع والحسم المبين.
لكنْ بعد سنوات قليلة، في عهد اليفاعة وإحساس اليافع بعنفوانه وعزّة نفسه، لا يعود مقنعاً أن يطلع واحدنا لأبيه أو لخاله. ما يصير مطلوباً هو أن يخترع ذاته، أو أقلّه أن يشارك بنفسه في اختراعها. وفي عالم المدينة التي تنأى به عن وحشة القرى، وحيث «الجمهور» أو «الجماهير» كائن مرئيّ، تصلنا العقيدة معلّبةً في كتب. فمن خلال ساطع الحصري وأنطون سعادة وعصمت سيف الدولة، ومن بعدهما ماركس ولينين وماو، نتوهّم أنّنا كففنا عن وراثة الأب والخال وصرنا من يصنع نفسه بنفسه. لكنّ ما لا يُنتبَه غالباً إليه أنّنا، محلَّ الطلوعِ لآبائنا وأخوالنا، نصير نطلع لآباء وأخوال أقوى وأشرس، تتصلّب بهم مبادىء الأبوّة والخؤولة، فيما نكون نُشهر حاجتنا الدائمة إلى إطار خانق نؤطّر أنفسنا فيه. فبدل «قتل الأب»، يحلّ تمجيد الأبوّة بوصفها الهدف الذي يضيع الأبناء من دونه ويسيرون على غير هدى.
أدهى من ذلك أنّ الآباء الجدد لا يُسرّحون الآباء الأوائل، بل يجالسونهم ويحدّثونهم مضيفين الإيديولوجيّ إلى البيولوجيّ. فالقوميّة القديمة، البسيطة والموروثة، تغدو قوميّة المضطهَدين المناهضة للإمبرياليّة، وفي محلّ عبد الناصر كمحرّر لفلسطين، يحلّ في هذا المقعد الشاغر تشي غيفارا وهو شي منه ثمّ آية الله الخمينيّ. أمّا الانشغال بالتراث بوصفه مجيداً فيُستبدل بانشغال آخر به، يفرز ما هو «رجعيّ» عن جسده الطاهر.
هكذا نغدو أطفالاً كباراً، نزعم الإلمام بوجهة التاريخ ومآل المستقبل. وإذا كانت الوراثة الكسولة مصدرنا لمعرفة العالم في الطور الأوّل، صار التذاكي النشيط مصدرها في الطور الثاني. فنحن نساوي ما نقرأه وما نكشفه من مستور غامض، معرّفين «الشعب» تعريفاً «علميّاً» بمصالحه التي سها عنها، وصارخين به من دون توقف: إنّ معركة المصير وراء الباب فتأهّبْ.
لكنّ جيلي كان حظّه قليلاً، علماً بأنّه لم يكن دائماً بريئاً من تقليل حظّه.
ففي 1967 بدت الناصريّة التي صاغت عالمنا ومثالاتنا مثل بيت مهجور. فهناك من قال: تخلّينا عن الله فتخلّى الله عنّا، ومن قال: علينا بالبروليتاريا وحزبها الطليعيّ الذي يُنزل الهزائم بالإمبرياليّة في كوبا وجنوب شرق آسيا. واليوم، وعلى ضوء ما آلت إليه الأمور، تبدو نقاشات ذاك الزمن شبيهة بالخلاف حول اختيار المقبرة التي ينبغي دفن الميّت فيها.
وبالفعل فإنّ المَدافع التي دكّت تلك الأفكار كانت كثيرة وعديدة المصادر. ذاك أنّ تيار التحلُّل لم يرأف بنا، فكأنّه أراد، بإصرار وعناد، أن ينتقم من توكيدنا المضجر على الأخوّة والوحدة ومن طلوعنا لهذا الأب أو ذاك. ففي 1975 قالت لنا الحرب اللبنانيّة، بين ما قالته، إنّنا طوائف، وفي 1980 أبلغتنا الحرب العراقيّة على إيران أنّنا سنّة وشيعة، ومع غزو الكويت في 1990 أُنبِئنا بأنّنا مشرق وخليج متعاديان، ثمّ بعدما قُمع الربيع العربيّ أشهرَ التفسّخ نفسه طوائف ومناطق وإثنيّات.
وفي هذه الغضون، لم يكن قد بقي جدار في العالم نسند ظهورنا إليه، أو نتوهّم ذلك. فالاتّحاد السوفياتيّ وكتلته الجبّارة ما لبثا أن انهارا انهيار جبل من كرتون، وطلّقت الصين ثورتها «الثقافيّة البروليتاريّة العظمى» لتوغل في رأسماليّة مُعزَّزة بيد غليظة. وبعد أن كانت فيتنام موضع افتخارنا بوصفها خير ما أنتجته الثورات، لفّها نسياننا المتعمّد كما لو أنّ الأرض ابتلعتها. وبفعل الثورة التقنيّة وروبوتاتها، وعملاً بتفريع الإنتاج في البلدان الصناعيّة، فضلاً عن ضمور النقابات، لم تعد الطبقة العاملة، التي قد تهبّ لنجدتنا، خير طبقة أُخرجت للناس.
وسط هذه المتغيّرات الهائلة التي يُستغرَب معها أن لا نتغيّر على نحو مهول، وجد الولاء للآباء تسمية جديدة هي «الثوابت». وفي «الثوابت» هذه أقام شيء كثير من مناكفة العقل والتجربة. فبدل التواضع والانكباب على توحيد شارعين متنازعين في مدينة من مدننا المفتّتة، أو طائفتين متكارهتين في بلد من بلداننا، اندفعنا تصعيداً من «الأمّة العربية» إلى «الأمّة العربية والإسلامية»، وراحت تتكاثر الدراسات والأعمال التي تقنعنا بأنّ الطائفيّة والإثنيّة اختراع مُستشرِقين أو مجرّد ولعٍ بالمبالغات. وقد بقي بيننا من يرفع المنجل والمطرقة عَلَماً، فيما لم يعد هناك فلاّحون يستخدمون المناجل ولا عمّال يستخدمون المطارق.
قبلذاك كان النظام العسكريّ – الأمنيّ، قد باشر منذ هزيمة 67 ثمّ وفاة عبد الناصر، يتراجع إلى مجرّد نظام رثّ، يده طويلة إنّما صوته مبحوح وصِيتُه عاطل. لكنْ ظهر فجأة من يقول لنا: فلنبدأ من جديد مرّة أخرى، إنّا إليه راجعون. ذاك أنّ الثورة الإيرانيّة، التي لم يكن ممكناً لثورة أن تحمل أفكاراً أسوأ، قامت، واستقطبت من الجماهير والعواطف ما لا تستقطبه أيّة فكرة فاضلة. وهي نفخت الروح في الموت الجاثم فوقنا، فكانت لمعجزتها هذه، وهي حقّاً معجزة، أن أحيت الموتى واستنهضتهم من قبورهم. وبسبب حرب العراق، هديّة صدّام حسين لتلك الثورة، أعطي ذاك العَود على بدء نكهةً طائفيّة حادّة، كما أعطاه الاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان نكهة القضايا الخالدة التي تُميت كثيرين ولا تموت.
وفي ما يعنيني، كانت تتراكم في النفس، أقلّه منذ حرب 1975، ملاحظات صامتة لم تتبلور ولم تجد فرصتها للتعبير إلاّ بعد ستّة أعوام أو سبعة. هنا، وفي موازاة التفاعل مع الحدث الإيرانيّ الذي انحزتُ بقوّة إليه، تداعت صور الماضي تداعياً حرّاً، تماماً كما في فيلم «سينما باراديسو». فبمجرّد أن يُسأل سلفاتوري، العائد إلى قريته في صقليّة، من يكون ألفريدو الذي مات، تروح تلك الصور تستعرض نفسها تباعاً.
لكنّ الصور، في حالتي، جاءت على شكل مراجعات زاد في قسوتها ذاك الاستقطاب الذي شهده العام 1982. فمن جهة، غزو إسرائيليّ طال، للمرّة الأولى، عاصمة لبنانيّة ورحّلَ مقاتلي منظّمة التحرير إلى تونس، ومن جهة أخرى، صراخ عن الصمود يهبّ علينا من دمشق. فهناك كان قد حلّ أحد أكثر الأنظمة سينيكيّة في التاريخ الحديث، ينطق بالقوميّة والوحدة، ولا يترك ناراً للضغائن بين الشعوب العربيّة، وداخل كلّ شعب منها، إلاّ يوقدها ويتفرّج عليها.
يومذاك، مع الاجتياح الإسرائيليّ، كتّف كلّ الآباء والأخوال، البيولوجيّين منهم والإيديولوجيّين والبين بين، أيديهم أو أشاحوا بأبصارهم بعيداً وتركونا أمام السؤال الحارق: لمن نطلع بعد اليوم؟
وكنت واحداً من لبنانيّين كثيرين قرّروا أن لا يطلعوا لأحد، وأن يفكّروا بوصفهم هم، لا بوصفهم حاملين لأصوات سكنتهم وأقامت فيهم، يُقلقهم ما يقوله عنهم الآخرون الذين لا زالوا مسكونين بتلك الأصوات.
لقد صفّقنا لدجّالين وقتلة، واعتنقنا ديانات ومذاهب، وساهمنا في نحر بلد لم يعاملنا بالخشونة التي عومل بها مُجايلونا في البلدان المجاورة.
فنحن لم نتعرّض لنظام طاغ كالسوريّ والعراقيّ، وكنّا نحن في الغالب مَن ينسف الجسر ومَن يضرب الضابط ومَن يحتلّ المخفر. وحين استعرنا كلام عرب آخرين عن القمع الشرس، بدونا مضحكين وزائفين نحتال على اللغة كما نحتال على أنفسنا.
واليوم، لا تكتمل مراجعة لبنانيّ مثلي إن لم يلازمها اعتذار من لبنان. بهذا وحده نكون قد تصالحنا مع كائن لم ينجبه الأب والخال، بل تداخلت فيه الأصول القريبة والبعيدة متيحةً للحرّيّة رقعة لم تحظ بمثلها في منطقتنا.
فلبنان القديم لم يكن كلّه زمناً رائعاً، ولا هو بالتأكيد ما يُرجى لمستقبل أمثل أن يكونه، لكنّه كان بداية واحتمالاً، فعرف الأحزاب والصحافة والبرلمانات والنقابات، ولم يؤمّم المستقبل على النحو الذي ساد في الزمن اللاحق.
وما يقال في لبنان، يقال في «النظام القديم» الذي عرفه العالم العربيّ قبل أن تدكّه الانقلابات العسكريّة في مصر وسوريّا والعراق، وهو يعود اليوم في شكل عودة قويّة للمكبوت من خلال الكتابات والأفلام والصور، كما تُصاحِبُ هذه العودة مشاعر ذنب صحّية بعد كلّ ما شاهدنا وعرفنا على أيدي الأنظمة الأمنيّة المتجبّرة.
ومع «الربيع العربيّ» تراءى أنّ المنطقة تخوض محاولة الإنقاذ الأخيرة التي ستملّك البشر حياتهم وتاريخهم، وتعيد إلى الشعوب العربية الحرّية والكرامة اللتين سلبتهما تلك الأنظمة. لكنّ ما يتبدّى اليوم أنّ ما خُرِّب على مدى عقود قد يستدعي لإصلاحه عقوداً أخرى، عقوداً لن يتاح للكثيرين منّا، وأنا في عدادهم، أن يشهدوها ويشهدوا عليها.
لكنْ في هذه الغضون هناك دروس تُعلّمنا إيّاها تلك السنوات المُرّة وتقلّباتها الكثيرة، وربّما كان في رأس تلك الدروس أنّ عالم الضرورة، ضرورتنا، هو عالم استلابنا بالموروثات القاتلة، فيما عالم الحرّية، حرّيتنا، هو عالم التحرّر منها ووضع حياتنا كأفراد وكشعوب في المرتبة الأولى. والبشر، بحرّيتهم وإدراكهم مصالحَهم، يطوّرون قناعاتهم التي لا يحتاجون إلى من يلقّنهم إيّاها. وهي مسيرة قد تكون مكلفة وطويلة لكنْ لا مهرب منها لمن شاء أن يغادر طفولته وموروثاتها وأن يكون حرّاً.
فمن أنفسنا تأتي القناعات التي تستحقّ أن تُسمّى أفكاراً، من تجاربنا، من معاناتنا، من ملاحظتنا لما يتغيّر ويستجدّ ولما ينهار ويبطل، من كشفنا المتواصل للأكاذيب والخدع الإيديولوجيّة التي تستولي على عالمنا، من سعينا وراء حرّيتنا وازدهارنا ووراء ما يخدم العدل بيننا بصورة أفضل. إنّها لا تأتي مطلقاً من آباء وأخوال فاضلين.