عبر واتساب، التطبيق الذي جمعنا نحن الذين شهدت علينا مدرجاتُ الملاعب يوماً، وفرقتنا المسافات والحدود في المنافي والمهاجر وأماكن النزوح، أرسل لنا صديقنا الذي يعيش بعد نزوحين في مدينة الباب بريف حلب فيديو لمباراة كرة قدم كان يحضرها ضمن الدوري العام، تجمع فريقي الميادين وصقور الفرات. كان الفيديو لافتاً بالنسبة لي، أنا الذي أعيش الآن خارج سوريا واتخذت لنفسي فريقاً مؤقتاً في بلد اللجوء كي أشجعه بديلاً عن فريقي الذي أحببته منذ صغري، مُحاوِلاً الانتماء لشيء ما في مكاني الجديد، ولو كان نادياً رياضياً. هذا أيضاً ما لفتني في الفيديو القادم من مدينة الباب: الانتماء، فلا جمهور لأي مباراة بلا انتماء لأحد فريقيها، وحجم الجمهور المتواجد على المدرجات وحول أرضية الملعب مشجعاً هذين الناديين حديثَي النشأة كان كبيراً لدرجة أن أعداده تفوق أعداد الجماهير في العديد من المباريات المقامة في الدوري الرسمي ضمن مناطق سيطرة النظام، ولفرق كانت قد شكلت تاريخ الكرة السوريّة. سيكون تفسير الأمر سهلاً بقراءة اسمي الناديين فقط؛ الناديين المُشكَلين من اللاعبين النازحين إلى الشمال السوري. كذلك الأمر بالنسبة لمن يشجعونهما، في محاولة واضحة من هذه الجماهير لخلق انتماء يجمعهم خلال نزوحهم ويربطهم بالأماكن التي أتوا منها.
هذا الفيديو القصير وضع أمامي سؤالاً عن معنى نشوء «أندية النازحين» في ظلّ تلك الظروف الصعبة في الشمال السوري، وعن معنى أن تكون هناك أنديةٌ تحمل صبغة الأماكن التي جاؤوا منها؛ أنديةٌ تحمل أسماء مدنهم وبلداتهم، وأحياناً أسماء فرقهم التي كانوا يشجعونها ويحملون هويتها بعد أن تركوها قسراً كما تركوا كل شيء خلفهم عندما أجبرتهم المعارك العنيفة على النزوح أو صعدوا الباصات الخضراء نحو الشمال.
أربعة دوريات في بقعة صغيرة
غاب الاهتمام بالدوري السوري بعد بدء الثورة بفترة قصيرة، ما أجبر اتحاد كرة القدم التابع للنظام على إيقافه في تلك السنة أمام امتداد المظاهرات في عموم سوريا، إضافة لعدم وجود رغبة جماهيرية بالاهتمام بالدوري على مدى سنوات لاحقة أمام كل ما يحصل. لكن الاهتمام بكرة القدم لم يغب، فشهدت جميع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، حتى المحاصرة منها، قبل النزوح نحو الشمال، دوريات صغيرة عبر فرق تشكلت فيها. لاحقاً، بعد سنة من سيطرة فصائل المعارضة على مدينة إدلب، أقيمَ أول دوري تصنيفي في الملاعب الكبيرة جمع الأندية في الشمال السوري، تحت رعاية تنظيمية من الاتحاد السوري الحر والهيئة العامة للرياضة والشباب، وأفرز هذا الدوري التصنيفي تقسيم الأندية على ثلاث درجات، لتشهد سنة 2017 أول دوري لكرة القدم للرجال-درجة أولى في الشمال السوري.
أما في مناطق ريف حلب الشمالي، خصوصاً بعد موجات النزوح الكبيرة من بقية المناطق السوريّة إليها، ومع الاستقرار النسبي فيها بما يسمح بوجود نشاط رياضي، أقيمت بطولات على مستوى الملاعب السداسية بداية الأمر، ثم دوريات تصنيفية رعتها المكاتب الرياضية التابعة للمجالس المحلية تحضيراً لإقامة دوريات على الملاعب الكبيرة، لينطلق بعدها في كل منطقة دَوريٌ عام لكرة القدم، حيث يشهد الشمال حالياً أربع دوريات مختلفة، في كل من إدلب وإعزاز والباب وعفرين. يعكس هذا التعدد في الدوريات الحالة العسكرية التي تشهدها المنطقة وتوزّع السيطرة بين أطراف عديدة. وتضم هذه الدوريات أندية محلية لأهالي مدن وبلدات إدلب وريف حلب: كأُمية وبنّش ومعرة مصرين وقبّاسين وبزاعة، وأندية للنازحين: كالميادين والكرامة والشام وحلب الأهلي والفتوة ودوما.
جاء تشكيل هذه الأندية عبر مبادرات أهلية ليس لديها أي مصادر تمويل، لكونها أندية في طور النشوء، وتعتمد بمعظمها على اللاعبين المتطوعين، مع وجود بعض الدعم خلال السنتين الأخيرتين من المحبين وبعض الرعاة من الشركات الصغيرة الموجودة في الشمال، وهو ما يسمح أحياناً باستقطاب لاعبين من نادٍ لآخر عبر عقود يتم توقيعها لقاء مبالغ بسيطة جداً، إضافة إلى التكفل بمصاريف اللباس والتنقل، الأمر الذي يبيّن صعوبة عمل هذه الأندية لكونها أندية قائمة بجهود المجتمع المحلي؛ أندية هاوية أكثر من كونها أندية ذات طابع احترافي مُنظّم، وبدل أن تخضع لسلطة كروية واحدة تجمعها وتعمل على تأمين احتياجاتها، فهي تتنافس الآن في أربعة دوريات مُقسمة حسب مناطق النفوذ.
كرة القدم صارت أكثر من سوسة
أعترف أنني ما زلت أحمل مشاعر خاصة للنادي الذي ولدت على حبه، في حين لم تعد تربطني الآن به أي صلة، وبأن الفيديو الذي أرسله لنا صديقنا جلب الكثير من المشاعر المتناقضة. لا أعرف هذه الملاعب الجديدة في الشمال، لكنني أعرف بقية الملاعب في كل سوريا؛ من دمشق حتى اللاذقية ودير الزور، وأفهم جيداً ما يفعلونه بإقامة الأندية والدوريات. أفهمه وأتفهّمه، لأن كرة القدم «سوسة» من الصعب التخلص منها، فكيف إذا ارتبطت بأسماء نعرفها جيداً، وحركت ذاكرتنا التي لم تنطفئ بعد. هذا ما دفعني أن أستفسر أكثر وأن أحاول الإجابة عن معنى كل ذلك، لكن من أهله، هؤلاء الذين قرروا أن يستمروا في جلب ذاكرة مناطقهم معهم إلى مكان النزوح الجديد عبر كرة القدم، وكان تأسيس هذه الفرق هي الخطوة الأولى من هذه الخطوات. هذا ما قاله لي محسن برخش الذي هُجّر من دوما ليستقر حالياً في مدينة الباب، والذي بدأ حديثه معي عن رحلته الكرويّة ما قبل الثورة، وكيف تدرّج باللعب في فئات نادي دوما حتى وصل إلى فريق الرجال، ولعب له عدّة مواسم ضمن الدوري السوري-الدرجة الثانية، إلى أن وصل الآن إلى مدينة الباب ليلعب لفريق يحمل اسم ناديه السابق ومدينته التي هُجّر منها. تناقشنا في واقع الدوري الجديد المُقام في الشمال، والصعوبات التي تواجههم. وعند سؤالي له حول اختيار تسمية النادي بهذا الاسم كانت إجابته بعيدةً عن الرياضة وعن كون النادي الجديد مجرد نادي كرة قدم: «اسم دوما بالنسبة لنا هو الأغلى، وهو يمثل الشام وريفها في الشمال. فخرٌ لي أن أٌمثّل دوما».
يمكن الكتابة كثيراً حول معنى أن تعيد إحياء ناديك في مكان نزوحك، وبأنّ ذلك قد يتجاوز الرياضة أحياناً ليصل إلى ما هو أبعد، كأن تمثل شريحة كاملة من الناس وتجمعهم في بوتقة واحدة من خلال نادٍ لكرة القدم. فيصل الشعيبي هو الناطق الإعلامي باسم نادي الميادين، وقد تحدّث للجمهورية.نت عن هذه النقطة وعن أهمية وجود نادٍ يحمل اسم المدينة التي نزحوا منها، وعن إعادة ذكريات ناديهم السابق الذي يحمل الاسم نفسه، على اعتبار أن النادي قديم وموجود منذ العام 1975، وسبقت له المشاركة في الدرجة الأولى من الدوري السوري نهاية التسعينات لعدة مواسم، قبل أن يهبط إلى الدرجة الثانية وينافس فيها.
تأسيس نادي الميادين لم يختلف بدوره عن بقية الأندية التي أسّسها النازحون، فجاء بهوية واضحة مرتبطة بالمكان الذي نزح منه أهله، وليكون محاولةً لخلق نوع من التماسك الاجتماعي بين هؤلاء الأهالي. هذا ما عبر عنه الشعيبي بوضوح: «يُعتبر النادي متنفّساً في ظلّ الحرب والمشاكل وصعوبة الحياة، وهو محاولة لرسم الفرحة على وجوه أهالي الميادين المُهجّرين، خصوصاً أنه يوجد أكثر من 1100 عائلة مُهجرة من الميادين في الشمال. نعتبر النادي أكبر من موضوع رياضة، فهو نادٍ اجتماعي يجمع العالم على المحبة في ظلّ بعدنا عن مدينتنا».
أما كابتن فريق الكرامة في الشمال محمد سلمان، والذي تدرج في الفئات العمرية لأندية حمص، استفاض بالحديث عن تأسيس النادي الذي بدأ بتجمع عدة أندية صغيرة كانت تمارس كرة القدم، سواءً في حصار حمص القديمة أو حصار الوعر أو الريف الشمالي، واختاروا الآن التجمع تحت اسمٍ واحد في مدينة الباب.
وحول أهمية أن يلعب تحت اسم الكرامة، على اسم النادي الذي يشجعه في المدينة التي هُجّر منها، وحول رمزية اختيار الاسم، أكد سلمان أن الاختيار جاء باعتباره يتعلق بمدينة حمص وناديها والذكريات التي عاشوها خلال السنوات السابقة: «لمّا تقول كرامة يعني عم تقول تاريخ مدينة، تاريخ الرياضة السوريّة، عم تحكي عن عشق كرة القدم بحد ذاته يلي ربيت عليه من لما كان عمري كم سنة، ولما تقول نادي الكرامة يعني أنه عم تقول مدينة حمص».
ولم يخلُ حديث سلمان للجمهورية عن جدلية الرياضة والسياسة في سوريا، حيث اعتبر أن الغاية من تأسيس النادي هي «أن يكون بديلاً عن نادي الكرامة المرتبط حالياً بنظام الأسد، فالنادي الموجود حالياً تحت سلطة نظام الأسد لا يمثل أهالي حمص ولا الرياضيين الأحرار، والثورة التي خرجت في سوريا أساساً هي ثورة كرامة، وهو فخر بحد ذاته أن يرتبط أي اسم بالثورة».
النادي بوصفه هويةً ومكاناً
في سوريا -كما في كل مكانٍ من العالم- للأندية الرياضية جذور ترتبط بالموقع الذي نشأت فيه، حتى أنها قد تصبح جزءاً من الهوية المحليّة للمكان وللناس، وقد تختلط أحياناً أخرى ليصبح اسم النادي لصيقاً باسم المدينة التي يمثلها؛ بأن يكون واجهتها، أو بمعنى أخر هويتها الواضحة للجميع، باعتبار أنها قد خلقت صلاتٍ وتحالفاتٍ بين الناس، وهو تحالفٌ ناعمٌ يجمع أهل المدرجات ليمنحهم صفة واحدة ترتبط بالنادي، فتعم الصفة على الجميع، حضر أم لم يحضر؛ فالحلبي هو غالباً أهلاوي، والحمصي كرماوي، والدمشقي وحداوي… وبهذا قد يتعدى الأمر بأن يكون الشخص محباً لهذا الفريق أم ذاك أو محباً للرياضة أم لا.
كل ما سبق كان واضحاً قبل بدء الثورة، ولكن أيضاً حتى خلال أكثر الفترات التي مرت بها الثورة السورية قساوةً لم تغب أحاديث الرياضة عن أحد. ربما كلنّا كنّا نتذكر فرقنا وبعض المباريات التي جرت وحضرناها على المدرجات أو عبر التلفزيون، ونتذكر لاعبي فرقنا ونتابع أخبارهم لنعرف أين حلّوا بعد الذي حدث، لتحل ذاكرتنا بدلاً عن الحدث المفقود. هذه هي الذاكرة الكرويّة التي لا تنتهي بانتهاء المباريات، إنما يستمر تأثيرها إلى ما بعدها، وأحياناً إلى سنوات طويلة جداً. ويبدو أيضاً أن كل العنف الذي مورس على الناس وأُجبر فيه الملايين على النزوح من مدنهم وبلداتهم إلى الشمال، لم يستطع أن يغيّب هذه المشاعر وهذه الذاكرة، فرغم عدم وجود استقرار كامل في المناطق الجديدة، إلا إن كثيرين عملوا على إعادة إحياء فرقهم القديمة بشكل جديد وضمن دوريات جديدة، لكن اللاعبين هذه المرة ليسوا أنفسهم من كنّا نعرفهم سابقاً، إنما معظمهم ممن كانوا جمهوراً يوماً ما، والجمهور الذي يحضر هذه المباريات والدوريات هو ذاته ذلك الجمهور الذي كان يتابع فريقه القديم وهُجّر من مدنه وبلداته وقراه.قد يقول أحدهم إن الحديث عن ارتباط أندية كرة القدم بالمجتمعات والأماكن التي نشأت فيها، باعتبارها هوية واضحة تمثل هذه المجتمعات، ضربٌ من خيال شخص لا يرى في كرة القدم إلا كل شيء، وأن الذي لا يرى إلا ذلك يعطي الموضوع أبعاداً غير موجودة في الواقع، يزنها بميزان لا يحتمل هذا الوزن، والمشجع لأي نادٍ لا يهتم إلا بالفوز، ويشجع كي يفوز فقط، وعند الخسارة يتراجع اهتمامه وانتماؤه. هذا القول لا يتطابق مع ما يحدث في الشمال السوري، فهناك، رغم كل المعوقات، تجد أن هوية النادي بالنسبة للنازحين هي هوية مكانٍ ينتمون إليه، وأشخاص يعرفونهم جيداً، اجتمعوا يوماً على المدرجات وشجعوا سوياً. ربما كانوا سابقاً يهتمون بالفوز فقط، لكنهم الآن يهتمون بما هو أبعد من ذلك، يهتمون بذاكرتهم ويخافون فقدانها، ويحاولون ما استطاعوا الحفاظ عليها ولو عبر الكرة… ولو عبر استعادتهم الخاصة لأنديتهم السابقة، فهي ذاكرتهم الباقية من أماكنهم.