في شارة مسلسل وثيقة شرف – فكتوريا، الذي عُرض منذ مدة على منصة وياك، نسمع موسيقى مسلسل Game of Thrones، وتظهر بطلة العمل، سوزان نجم الدين، على هيئة شخصية كاليسي التي أدّتها إميليا كلارك في المسلسل ذاته؛ لتوحي هذه المقدمة أننا سنشاهد نسخة سورية من الملحمة الفانتازية الدرامية التي حققت أكثر نسبة مشاهدات عالمياً في السنوات العشر الأخيرة. إلا أن هذه الإشارات تفقد دلالاتها في سياق الدراما السورية، التي كثيراً ما تعتمد على استخدام الألحان العالمية لتحولها إلى موسيقى تصويرية أو تدرجها في الشارات دون أن يكون لذلك أي دلالة؛ فمسلسل بورتريه مثلاً، الذي أخرجه العام قبل الماضي المخرج ذاته، باسم السلكا، تمت فيه صياغة الموسيقى التصويرية من لحن أغنية Hotel California لفرقة Eagles، وكذلك استخدم صُنّاع مسلسل على صفيح ساخن لحن أغنية Je pense a toi للمغنية الفرنسية Hoshi، بالإضافة لعشرات الألحان التي أعاد المخرجون استخدامها في مسلسلاتهم منذ التسعينات، دون أن يحمل ذلك أي دلالة. لكن الأمر الذي يجعل هذه الإشارات أكثر عبثية هو شخصية نجمة العمل، سوزان نجم الدين، المثيرة للجدل، التي تتقمص في كل فترة شخصية نجمة عالمية؛ فخلال الأعوام السابقة تقمصت هيئة مارلين مونرو، وادّعت ذات مرة أنها تعرضت أثناء زيارتها إلى أميركا لمضايقات من الجمهور الذين ظنوا أنها مارلين مونرو، بسبب الشبه الكبير بينهما!

بذور الصلة بين Game of Thrones  ووثيقة شرف – فكتوريا تنقطع تماماً عندما تنتهي الشارة وتبدأ مشاهد المسلسل، التي يُشار فيها بشكل واضح إلى أن أحداث العمل تجري في دمشق بالزمن المعاصر، وتظهر فيها باقي الشخصيات جميعاً بالهيئة ذاتها التي اعتدنا عليها في المسلسلات السورية التي تُصنَّف في خانة المسلسلات الواقعية الاجتماعية. قد تبدو مناقشتنا للعلاقة بين المسلسل السوري الذي أنتجته شركة قبنّض والمسلسل العالمي الذي أنتجته HBO مناقشة عقيمة، لا تخرج من خانة الهزل، لكنها فعلياً تقودنا إلى سؤال أكثر أهمية من خلال مواجهة الواقعي بالفانتازي المتخيل، ويصبح السؤال أكثر إلحاحاً أثناء متابعة وثيقة شرف – فكتوريا، الذي تدور أحداثه – التي لا يمكن تصديق إمكانية حدوثها في أي واقع موازٍ –  في إطار واقعي شكلياً! فما نوع الخيال الذي نستخدمه في الدراما التلفزيونية التي ننتجها؟ وما شكل الواقع الذي ترسمه الدراما؟

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الماضية بوسترات مسلسل البوابات السبع للمخرج محمد عبد العزيز، الذي وُصِفَ بأنه أول مسلسل خيال علمي سوري. هذا التوصيف ليس دقيقاً، إذ شهدت الدراما السورية بعض اللوحات القصيرة التي تنتمي لنمط الخيال العلمي في مسلسلات مرايا وبقعة ضوء وعالمكشوف، وشهدت الدراما السورية في التسعينات بعض الأعمال الموجهة للأطفال التي يمكن أن نضعها في هذا التصنيف، مثل الرجل الآلي. إلا أن هذه الإنتاجات كانت بدائية ومحدودة للغاية، إلى درجة يغدو فيها الحديث عن مسلسلات سورية تنتمي لنمط الخيال العلمي أشبه بالنكتة. بالمقابل، فإن الدراما السورية قدمت عدداً لا بأس به من مسلسلات الفانتازيا التاريخية في التسعينات، لكن هذه الموجة انحسرت مع مطلع الألفية لحساب مسلسلات البيئة الشامية التي ترسم تاريخاً متخيلاً موازياً لمدينة دمشق، تدور فيه حكايات مُستمَدَّة بغالبها من القصص الشعبية التي حُفظت وتغيرت مع الزمن بتأثير التواتر الشفوي.  

هذه الأنماط الدرامية، اكتسبت مع الزمن هوية بصرية واضحة حيث يمكن تتبع تطور مسار السينوغرافيا في الدراما السورية من خلالها. الأمر ذاته ينطبق على المسلسلات التاريخية أيضاً، التي تَضاءلَ عددها وتراجع الاهتمام بها في العقد الأخير. عدا ذلك، فإن الميزة الرئيسية لباقي المسلسلات السورية أنها لا تملك هوية بصرية فنية خاصة بها، فهي تعتمد بشكل مفرط على أداء الحكايات الدرامية ضمن فضاءات مدينة دمشق الجاهزة، وتتمسك بحجة «نقل الواقع كما هو» للتغطية على تواضع الإنتاج، الذي يمكن تتبّع مدى فقره من خلال أزياء الممثلين، الذين يرتدون القمصان ذاتها في العديد من المسلسلات. ذلك يساهم ربما في إزالة الفوارق بين الممثلين والشخصيات التي يؤدونها، حين أنهم يجعلونها ترتدي من ثيابهم التي يستخدمونها في الحياة اليومية، لكنه لا يجعل من سمة الواقعية تنطبق على هذه المسلسلات، التي تستخدم لغة منمقة ومنعزلة بشكل كامل عن الظروف السياسية لأماكن تصويرها؛ لا سيما أن معظم الحكايات في هذه المسلسلات تبدو غريبة عن الواقع الذي يحتويها، فهي نُسجت من خيالات محدودة يمكن الحديث عنها بشكل تفصيلي.

ربما يجدر بنا أن نشير هنا، قبل الحديث عن الخيالات المحدودة في الدراما السورية، إلى وجود كتّاب نجحوا في صياغة مسلسلات تنطبق عليها سمة الواقعية إلى حد بعيد؛ أبرزهم حسن سامي يوسف، الذي تمكَّنَ من استثمار حكايات عائلته، ليعكس مرةً تلو الأخرى جانباً من الواقع السوري؛ ظلَّ محصوراً في منطقة واحدة وطبقة واحدة، هي تلك التي ينتمي إليها بالطبع؛ لكن تجربته الدرامية تعتبر الأنضج في مسار الواقعية السورية، بالإضافة إلى بعض المسلسلات لريم حنا ويم مشهدي، مثل أحلام كبيرة وتخت شرقي. هذه الاستثناءات، تقابلها عشرات المسلسلات السورية الخيالية المحسوبة على الواقعية، التي يمكن أن نقسمها إلى فئتين أساسيتين لتسهيل الحديث عنها، رغم التداخلات الكبيرة بينهما؛ هما: الخيالات الوطنية والقومية، والخيالات الذكورية والأبوية.

الخيالات الذكورية والأبوية

لا يتنافى تسليط الضوء على المفاهيم الذكورية والأبوية في مجتمعنا مع معايير الواقعية في الدراما بكل تأكيد، ونحن لا نقصد بمصطلح الخيالات الذكورية والأبوية المشاهد الدرامية التي تصور الواقع الذكوري كما هو رغم رداءتها، والتي يمكن إدانتها أخلاقياً لاكتفائها بنقل الواقع دون محاكمته وكأنه لا عيب فيه؛ بل نقصد بهذا المصطلح المسلسلات التي تبني واقعاً موازياً ضمن مدينة دمشق غالباً، لتعكس من خلاله الرغبات والتخيلات الذكورية التي تُعلي من شأن الرجل وتحقر من شأن المرأة.

هذا النوع من الخيال نراه منعكساً في كل تلك المسلسلات السورية التي نجد فيها النساء تعترف بأفضلية الذكور وتفوقهم البيولوجي عليهن، وفي كل الحوارات التي تتوافق مع مقولة «المرأة ضلع قاصر» لتبين حتمية التبعية للذكور وللأعراف الأبوية البطريركية. ويتجسد هذا الخيال أيضاً في كل الحوارات والمشاهد التي تميز بين النساء والرجال، لتدعي أن الرجل يفكر بعقلانية ومنطقية وأن المرأة كائن عاطفي لا يُعوَّل على أحكامه، ويتجلى أيضاً في المعاناة الكلاسيكية التي يعيشها الرجال في العلاقات الزوجية والعاطفية، التي تصور المرأة على أنها كائن نكدي، وأن الرجل ضحية للمكائد النسائية وللخلافات التافهة بين الزوجات والحموات.

هذا النوع من الخيال ليس حكراً على تلك الأعمال التي تدعي الواقعية، فهو موجود بالمسلسلات التاريخية والفانتازيا التاريخية ومسلسلات البيئة الشامية وحتى في مشاهد الخيال العلمي، وهو اللبنة الأساسية في معظم الأعمال الكوميدية. لكنه يبرز بشكل أسوأ في المسلسلات التي تُصنف بأنها واقعية اجتماعية، لكونها تساهم بالترويج لهذه الأفكار على أنها لا تتنافى مع الصورة الحضارية للمجتمع السوري المعاصر؛ خصوصاً عندما يتم تصوير الرجال القوامين على النساء بطريقة مثالية، تجتمع فيهم كل الخصال الحميدة: مثقفون وحضاريون وخلوقون، لكنهم أيضاً قوامون على النساء ولهم كلمة مسموعة؛ وتزداد المعادلة ابتذالاً عندما يتم تصوير الأمر على أنه رومانسي، وأن هذه الخصلة من السمات الرجولية الحميدة التي تجذب النساء.

الخيالات الوطنية والقومية

إذا كانت دراما الخيال العلمي تبني حبكاتها على افتراض تحقق إحدى النظريات العلمية في المستقبل القريب أو البعيد، فإن دراما الخيال الوطني السورية تبني حبكتها على افتراض تحقق الشعارات والمتخيلات «الوطنية» التي تنتصر فيها إيديولوجيا النظام؛ لتغدو كل تلك الشعارات الإجبارية، وكل التحليلات التي تتمخضُ عنها قريحةُ المحللين السياسيين الذين يظهرون على الشاشات الوطنية، حقائقَ مثبتة أثرها واضحٌ في الماضي أو الحاضر وسينعكس على المستقبل. هذه المقولات والنظريات السياسية، تساهم في رسم الواقع الموازي الذي نشاهده على الشاشة في مدينة دمشق، ولها دور كبير في جعل المدينة والأحداث التي تدور فيها لا تشبه الواقع أبداً.

فعلى سبيل المثال، هناك فرضية ظهرت في بداية الثورة، تدعي بوجود معلومات سرية من شأنها أن تقلب موازين القوى العالمية، ويحتفظ النظام السوري بهذه المعلومات على «فلاشة»، اشتهرت باسم «فلاشة الشعيبي» نسبةً للمحلل السياسي الذي أعلن عن النظرية. هذه الفرضية تبنتها العديد من المسلسلات السورية، لتبني عليها واقعاً موازياً لا يشبه واقعنا أبداً؛ منها مسلسل وثيقة شرف- فكتوريا الذي عُرض مؤخراً، والذي يدور فيه صراع محموم بين قوى مجهولة تسعى للحصول على النسخة الوحيدة من الرواية، التي إذا ما نشرت، لن يبقى الحال على ما هو عليه أبداً. والفرضية ذاتها نجدها كامنة في المسلسل السوري – الإماراتي المنصّة، الذي عرض على ثلاثة أجزاء، وتمحور حول صراع بين قوى دولية على منصة معلومات يديرها شاب سوري، ويفترض المسلسل أن من يمتلك المنصة سيكسب الحرب ويتحكم بالعالم؛ لكن المسلسل يغلق بابه دون أن نعرف نوع هذه المعلومات أو أي شيء منها؛ تماماً كما حدث لفلاشة الشعيبي. 

ومن الفرضيات «الوطنية» التي كان يتم استهلاكها بشكل كبير في الدراما السورية قبل اندلاع الثورة السورية، ولاتزال حاضرة بشكل محدود حتى اليوم: الفرضية القائمة على انتماء سوريا للمعسكر الاشتراكي، الذي لم ينهر في الدراما السورية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين. وفي هذا النوع من المسلسلات، توجد شخصية نمطية دائمة الحضور؛ هي الشخصية التي عاشت لأعوام في أميركا أو فرنسا أو بريطانيا، واكتشفت كل المخططات الإمبريالية وعادت إلى سوريا بعد أن اكتشفت صوابية مواقفها، وكأن المغتربين السوريين يعيشون في البيت الأبيض وباستطاعتهم الاطلاع على كل المخططات الإمبريالية لهذه الدول ببساطة. آخر هذه المسلسلات كان ترجمان الأشواق عام 2019. 

حضور الفرضية السابقة انحسر ما بعد ثورة 2011، لحساب فرضية أخرى متوافقة معها، وهي فرضية المؤامرة الكونية على سوريا التي سيطرت بشكل كامل على البروباغندا الإعلامية السورية؛ فعليها تم بناء عدد كبير من حبكات المسلسلات الدرامية الوطنية التي تدّعي الواقعية، مثل مسلسل امرأة من رماد الذي قدمه نجدة أنزور عام 2013. كما أن الدراما في الفترة ذاتها صنعت فضاءً موازياً في المدن السورية لتثبت المقولة التي كانت رائجة في الإعلام السوري الرسمي: «سوريا بخير».

إلا أن مسلسلات الخيال الوطني الموالية للنظام تتجلى بأكثر صورها فكاهةً في الأعمال التي تحمل تصنيف «دراما حربية»، كما هو الحال في مسلسل لأنها بلادي الذي أخرجه نجدة أنزور العام الماضي؛ لأن هذه المسلسلات تحاول أن تغالي في تصوير تضحيات جنود الجيش السوري وبطولاتهم، فينجم عنها حكايات لا تصلح لأفلام الكرتون؛ مثل حكاية الطيار الحربي العاشق، الذي يطير ليقصف الإرهابيين وعشيقته ترافقه على مبعدة، ليتبادلا نظرات الحب أثناء قيامه بعمله البطولي.

ليست هذه المسلسلات –  بما يشمل ما يدّعي محاكاة الواقع منها – غريبة عن واقعها فحسب، بل تفتقر أيضاً إلى رؤية جمالية على مستوى الجودة الفنية وإلى استجابةٍ موفّقة لأسئلة أخلاقية.