لا تغري تحضيرات الانتخابات الرئاسية الجارية حالياً في فرنسا بمتابعتها، إذ تبدو أغلب القوى السياسية عاجزة عن مواكبة مجتمعها، وعن تقديم برامج وخطب سياسية جذّابة وقادرة على ملاقاة جمهورها. كذلك، تبدو إعادة انتخاب الرئيس الحالي أقرب إلى استمرارية طبيعية في هذه اللحظة التي رجحّت حظوظه بمصائبها المتعاقبة، بل وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليُفقِدَ هذه الانتخابات أغلب ما تبقى من راهنيتها ومن إثارتها.
لم يستفق الحزب الاشتراكي بعد من موته السريري الذي أعلنته الانتخابات السابقة، بعد انسحاب الاشتراكي فرانسوا هولاند من السباق الانتخابي، فمرشحته لهذه الانتخابات آن هيدالجو تبدو غير قادرة على كسر عتبة 2% من الأصوات، ولا على تقديم برنامج يقطع مع تركة سلفها التي أعلنت عن موت كل ما هو يساري في هذا الحزب، وعن تحوله إلى حزب حوكمة نيوليبرالية. مرشحة اليمين الجمهوري فاليري بيكريس لا تبدو أوفر حظاً بكثير، فبعد صعود احتمالاتها في الاستبيانات لفترة وجيزة، لم تتوقف حملتها عن التهاوي بسبب ارتجالية إطلالاتها الإعلامية، وعدم قدرتها على تقديم برنامج صلب ومتمايز عن الخط النيوليبرالي الذي يقوده إيمانويل ماكرون، أو عن «جذرية» اليمين المتطرف، في مواجهة «الخطر الإسلامي» و«أعباء الهجرة» و«غياب الأمن». فكل ما في جعبتها للحاق بركبهم لا يعدو عبارات مسجوعة تزيد من حملتها ركاكةً وابتذالاً.
بدوره، لا يقدم مرشح اليسار الجذري جان لوك ميلونشون جديداً على حملته السابقة، ولكنه يبدو أكثر هدوءاً وثقة، وهو ما تدعمه نتائج الاستطلاعات التي لا تتوقف عن الابتسام له ولو بخجل. يتخفف هذه المرة من منافسة الحزب الاشتراكي له ليبدو الصوت الوحيد «المفيد» في معسكر اليسار، دون أن يعني ذلك ضمان أصوات الشيوعيين الذين لم يتوقفوا عن دعمه في الانتخابات السابقة، والتي يبدو أن مرشح حزبهم فابيان روسيل سيكون قادراً على اجتذابها، وربما اجتذاب غيرها، في هذه الانتخابات. كما يأتي الغزو الروسي لأوكرانيا ليطرح الكثير من الأسئلة عن «الاستقلالية» الجيوسياسية التي يدعو لها ميلونشون، والتي تبدو قليلة الاتساق وأقرب إلى محاباة الديكتاتوريات وخطاب معاداة الإمبريالية الأميركية دون غيرها.
كما لا يتمتع مرشح الخضر يانيك جادو بالكاريزما القادرة على زيادة حظوظه، ليراوح قريباً من حدود 6% التي حصدها بنوا آمون (الذي ترشح باسم الحزب الاشتراكي ويحمل طروحات قريبة من طروحات الخضر) في الانتخابات السابقة، والتي تبدو سقف البرنامج الأوروبي الأخضر في فرنسا. بالمحصلة، يبدو إيمانويل ماكرون الأوفر حظاً في هذه الانتخابات، فالغزو الروسي لأوكرانيا والنهايات السعيدة للكوفيد والاستراتيجية الكينيزية التي اضطر كغيره لاتباعها في ظل الأزمة الصحية، والتي وفّرت لفرنسا انتعاشاً اقتصادياً، عدا عن تواضع مرشحيّ الأحزاب التقليدية الكبرى و«تطرّف» منافسيه، كلّها أمورٌ حوّلت وصوله إلى الدور الثاني ثم فوزه إلى ما يقارب أمراً واقعاً تفرضه طبيعة الحال!
ولكن الأكيد أن الجِدّة الرئيسية لهذه الانتخابات تتمثل في «هيمنة» اليمين المتطرف على المشهد السياسي والإعلامي، وفرض الكثير من إيقاعاته بعد سيطرته على أكثر من 30% من أصوات المشاركين في استطلاعات الرأي، وإعلان الإعلامي إيريك زيمور عن دخوله معترك السياسة من أوسع أبوابها: الانتخابات الرئاسية.
نستعرض بهذه المناسبة تاريخ اليمين المتطرف الفرنسي، ونرتكز على المقاربة التي تعتبره الرابح الأكبر من تلك الدينامية التي يدعوها الأنثروبولوجي غسان الحاج «عولمة الشرط الكولونيالي المتأخر»،للاطلاع على الأطروحة، راجع موقع الجمهورية: عولمة الشرط الكولونيالي المتأخر، غسان الحاج، ترجمة ياسين الحاج صالح. بل وأحد محفّزيها الأساسيين.
جان ماري لوبين: المارد يخرج من العلّية
حين تعرَّفَ جمهور الفرنسيين على جان ماري لوبين، في مطلع الثمانينيات، كان الوجه الذي استطاع لملمة بقايا اليمين المتطرف التي اختفت من المشهد السياسي والإعلامي بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. فقد استطاع توحيد مختلف عُصَب اليمين المتطرف من ملكيين وكاثولوكيين معادين للجمهورية، ما تبقى من أنصار حكومة فيشي المتعاونة مع النازية والمعادين للسامية وناكري الهولوكست وأعداء استقلال الجزائر،كانت «الجبهة الوطنية للمقاتلين» الحزب السياسي الأول الذي أسسه جان ماري لوبين حين كان نائباً عن مقاطعة الجزائر الفرنسية في نهاية الخمسينيات. بل وكان الوجه الأكثر تسامحاً بينهم والأقدر على إثارة اهتمام جمهور الفرنسيين بكلامه، بدلاً من ضحكات الاستخفاف أو علامات القرف التي كانت لترتسم على وجوههم لو تنطّع غيره من رفاقه للحديث. وبتواطؤ من الرئيس اليساري حديث العهد فرانسوا ميتيران،كان فرانسوا ميتيران وراء الضغط على قنوات التلفزة الحكومية لاستضافة جان ماري لوبين، وهو ما يمكن اعتباره بداية مسيرته الإعلامية. كماعمل ميتيران على تطبيق النسبوية في الانتخابات التشريعية، وهو ما سمح للجبهة الوطنية بإرسال 35 نائباً إلى البرلمان الفرنسي لأول مرة في تاريخها. راجع 1972-1995 : Mitterrand et le FN . لوموند ديبلوماتيك. كما أن جان ماري لوبين عندما يتحدث عن ميتيران فإنه لا ينكر «أفضاله» عليه وعلى حركته، راجع Le Pen raconte Mitterrand. مجلة لوبوانت. الراغب في تشظية اليمين الجمهوري وتفخيخه، تمكّن لوبين، وحركته «الجبهة الوطنية»، من تحقيق حضور إعلامي وبرلماني لا يُستخف به.
ترافق صعود لوبين مع انطواء حقبة الثلاثين سنة المجيدة (1945 – 1973) التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت فيها فرنسا نمواً هائلاً على كافة الأصعدة، من الاقتصادية حتى الديموغرافية، والتي تعرَّفَ فيها الفرنسيون على رغد نمط الحياة الاستهلاكي. فما أن انتهت هذه الحقبة مع حرب 73 العربية الإسرائيلية، التي تسببت بارتفاع أسعار النفط والركود الاقتصادي، حتى بدأت معدلات البطالة بالارتفاع لتتحول إلى ظاهرة بنيوية هي الأكثر إقلاقاً لراحة بال الفرنسيين. ترافقَ صعوده أيضاً مع ولادة أجيال جديدة من أبناء المهاجرين المغاربة الرافضين لمنطق آبائهم القائل «يا غريب كُن أديب»، فهم ليسوا غرباء عن هذه الأرض، بل ولدوا فيها ولم يعرفوا غيرها. منهم من رفض أن يُقتَل بدوافع عنصرية فقام بتنظيم مسير ذوي الأصول المغاربية (La marche des beurs)،للمزيد من التفاصيل، راجع فرانس كولتور: (La marche des banlieues et après). الذي استلهم أدبيات حركة الحقوق المدنية وتحوَّلَ إلى حدث هائل لاستنكار العنصرية المتصاعدةخرج المسير من بلدة صغيرة في ضواحي ليون، وجاء بمبادرة من قس كاثوليكي فرنسي وعدد من أبناء المهاجرين، كاعتراض على الاعتداء والظلم القضائي والبوليسي الذي تعرض له أحد ناشطي البلدة، من العاملين في مناهضة العنصرية. كما عرفت السنة نفسها الكثير من حوادث الاعتداء العنصرية التي انتهت بمقتل خمسة مهاجرين حسب تصريحات وزارة الداخلية الفرنسية، وأكثر من 20 حسب تصريحات الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. المرجع السابق. وانتهى بحصول المهاجرين على بطاقات إقامة طويلة الأجل.يستفيد أغلب السوريين، من اللاجئين في فرنسا، من كرت إقامة «دائم»، أي بصلاحية عشر سنوات قابلة للتجديد، وهذا الكرت الذي يقدم للمهاجرين استقراراً إدارياً لا مثيل له في الكثير من بلدان أوروبا كان الثمرة الرئيسية لهذا المسير. ومنهم أيضاً مراهقات مدينة كريCreil ، اللواتي رفضنَ نزع حجابهن في المدرسة ما استدعى فصلهن،للمزيد من التفاصيل، راجع فرانس كولتور: (30 ans de l’affaire du foulard de Creil : le voile de la discorde). ما حوَّلَ هذا الحدث إلى جدل كبير بشأن مفهوم العلمانية وعلاقة الإسلام بها، وانتهى بقانون 2004 الذي يمنع ارتداء العلامات الدينية في المدارس العامة، والمعدّ خصيصاً للقطع مع ظاهرة الحجاب في المدارس.
شيّد لوبين أطروحته الأساسية من روح عصره هذا، فكانت بسيطة ومتماشية مع «الحس السليم» لكثيرٍ من الفرنسيين؛ المهاجرون يسلبون الفرنسيين أعمالهم وهو مايتسبب بكل هذه البطالة!
رغم حذرها الشديد، أثار المتحدث السليط اهتمام وسائط الإعلام بهذه الأطروحة المشروعة، وزاد حجم جمهورها. بل إن لوبين التزمَ بآداب الحوار والمحظورات الجمهورية لفترة غير قصيرة، إلى أن نطق تلك العبارة التي تحوّلت إلى مفصل في تاريخه وتاريخ حركته، عندما اعتبر أن «غرف الغاز ليست إلا تفصيلاً عابراً في تاريخ الحرب العالمية»، الأمر الذي أكّد للوسط الإعلامي أن حذره في محله وأن اليمين المتطرف لا يمكن أن يتخلى عن عدائه للسامية، ولا أن يُطبّعَ أو يتعايش مع المعايير الجمهورية. أصبح لوبين وجهاً غير مرحب به في وسائل الإعلام، ولكنه اكتشف في غمرة الزوبعة التي أثارتها عبارته أن استراتيجية الاستفزاز، التي حرمته من الاستقبال كضيف في البرامج الحوارية، زادت من حضوره في نشرات الأخبار الأكثر متابعة. Aux origines de notre cauchemar politique : l’effet Le Pen en 1984. ولم ينته عقد الثمانينات إلا وكان رصيده في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية قد وصل إلى 15%، كما في انتخابات 1988، بدلاً من ال 0.7% التي حصل عام 1974.
توطين الشرط الكولونيالي المتأخر
استلهم الأنثربولوجي غسان الحاج مقولة عالم الاجتماع البولندي زغمونت بومان: «إذا كان العالم الأول هو ما يُظهِرُ للعالم الثالث صورة مستقبله في الحداثة، فإن العكس هو ما يحدث في ما بعد الحداثة»جميع الاقتباسات في هذه الفقرة تعود لمقالة عولمة الشرط الكولونيالي لغسان الحاج، مرجع سابق.، ليطور أطروحته عن عولمة الشرط الكولونيالي المتأخر. مُقامه في أستراليا، وتغير حالها في العقود الأخيرة، ذَكَّره يوماً بعد يوم ببعض ما عرفه في بلده الآخر لبنان. فخلال دراسته لمسيحيي لبنان وصيروة تحولهم إلى جماعة مُحارِبة، اكتشف في خطابهم شبهاً مع خطاب «البيض في جنوب أفريقيا في سنوات الفصل العنصري»، ومع خطاب صهيونيي إسرائيل. فكل من الجماعات الثلاثة، المحاربة، يعتبر نفسه وكيلاً من وكلاء الحضارة الغربية في العالم الثالث، وأن الغرب قد غرس فيهم رسالته، ولكنه بشكل من الأشكال لم يمضِ في دعمهم إلى النهاية، فوجدوا أنفسهم محاطين بـ «حشودٍ غير متحضرة من الناس، وعليهم أن “يتعاملوا” معهم بأفضل ما يستطيعون، غالباً بأسلوبٍ عنيف و”غير متحضر”. وهم يمارسون ذلك دوماً مع المثابرة على تصوّر أنفسهم مسترشدين بما يعتبرونها القيم المتفوقة لـ”الحضارة الغربية”، وذلك على نحو ما تقتضي النبالة أعمالاً غير نبيلة أحياناً».
هذا «الشرط الكولونيالي المتأخر» يشهد منذ عقود، حسب أطروحة الحاج، شكلاً من أشكال العولمة. الغرب بأكمله بات يشعر نفسه في «وضعٍ دفاعي رغم نمط وجوده التوسعي، ومعرضٌ للخطر رغم قوته وغلبته الماحقتين، ويواجهه، على ما يتصور نفسه، بحرٌ عالمي بدوره من آخرين غير متحضرين، مكونين من إرهابيين وطالبي لجوء».
يمكننا القول، بمفردات مقتبسة من هذه الأطروحة، إن صعود لوبين الأب رافق ما يمكن تسميته بصعود المهاجر/المسلم على مسرح الأحداث الفرنسي، وتحوله تدريجياً إلى ما يسيمه الحاج بـ«الخطر الإسلامي». فقد عنى انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 تحولها إلى نموذج ثوري يفرض الشرعية الإسلامية كشرعية عابرة للحدود، شرعية كونية تتجاوز حدود الدولة التي منحتها الحياة، لتهدد حياة مواطنين غير إيرانيين، كفتوى الخميني بحق الروائي الهندي البريطاني سلمان رشدي؛ شرعيةٌ سمحت للجزائري خالد كلال بتفجير نفسه في قطار الأنفاق الباريسي في 1995 ليكون ذلك فاتحة لعدد من العمليات الإرهابية التي لم تتوقف عن وسم التاريخ الفرنسي المعاصر، شرعية «أسهمت في نبذ “المسلم” خارج مملكة التعددية الثقافية و”آخريها” المُتَسَامَح معهم، فقوانينه في عينها ليست أقلّ من قوانين الله بالذات».
هذا الخطر الإسلامي المتعولم سمح لجان ماري لوبين باستقطاب شرائح متزايدة باتجاه خطاب اليمين المتطرف، خطاب مُجتمعٍ محاربٍ يدعو «مواطنيه لأن يروا أنفسهم في أوضاع يمكن للآخر أن يستغل أي ضعف يعرضونه فيها: بمظهرهم اللطيف، طلاب اللجوء المسلمين [أو المهاجرون من أصول شمال أفريقية] أولئك الذين ينتهكون القانون يستغلون طيبة قلبنا واحترامنا لحكم القانون، المسلمون التسلطيون غير المتسامحين يستغلون تسامحنا وما ننعم به من حرية الكلام، والإرهابيون الديمقراطيون يستغلون ديمقراطيتنا. وعلى هذا النحو يجري حثُّ المواطنين على أن يكونوا قساة، غير متسامحين، غير ديمقراطيين، وأفظاظاً في مواجهة الآخر المسلم. ويمكن لهم أن يقوموا بذلك إلى حد نسيان معنى أن يكون المرء طيب القلب، متسامحاً، وديمقراطياً. مع ذلك، ومثلما رأينا مراراً وتكراراً، يمكن أن يواظبوا على الاعتقاد بأنهم طيبون ومتسامحون وديمقراطيون في الواقع».
رفضت أغلبية الفرنسيين طوال العقود الفائتة لوبين الأب، فتردّي أحوالهم لم يكن قد وصل إلى مستوى يقتضي الاستعانة بهكذا «قذارة» على رأس دولتهم كي يحافظوا على طيبوبة حياتهم، واكتفوا بتعيين ظلال لوبين في مناصب حساسة كوزارة الداخلية.قام جاك شيراك بتعيين شارل باسكا على رأس وزارة الداخلية في حكومات التعايش التي ترأّسها في ظلّ رئاسة ميتيران، وهو المعروف براديكاليته اليمينية وبـ«حزمه» فيما يتعلق بالهجرة والإرهاب. كما قام بتعيين ميشيل بونياتيسكي على رأس الوزارة نفسها بعد فوزه يرئاسة الجمهورية، وهو لا يتختلف كثيراً عن سابقه، بل كان ممن أعربوا عن موافقتهم على تحالف اليمين الجمهوري مع الجبهة الوطنية للفوز ببعض الاستحقاقات الانتخابية. كان رفضهم شكلاً من أشكال رفض التحول إلى مجتمع حربي، فوفق الحاج، أحد الفوارق الرئيسية بين المجتمعات غير المحاربة والمجتمعات المحاربة هو أن المجتمعات الأولى قد تضطر أحياناً للقيام بأفعال قذرة لحماية طيبة حياتها، ولكنها تقوم بذلك بخجل وتعمل على تخبئته، أما في المجتمعات المحاربة فتبدأ هذه الممارسات بالظهور للعلن لتصبح «مقبولة من الثقافة الداخلية، فتؤثر عليها وتلوثها» وتبدأ بمحاولة تفريغ الديمقراطية من محتواها.
مارين لوبين: نزع الشيطنة
كانت حملة انتخابات 2002 فرصة هامة لمارين جان ماري لوبين لتنخرط في عالم السياسة، وتكتشف تلك القدرة الخطابية التي تمتلكها، فدخلت اللعبة وبدأت مسيرتها السياسية بعنوان عريض: نزع الشيطنة التي وسمت أباها وحركته. أرادت أن تقول للفرنسيين إنها وأباها وحركتهم ليسوا إلا تعبيراً آخر من تعبيرات المجتمع الطيب، أقسى قليلاً وأكثر جذرية ونزاهة من محترفي السياسة في ما يسمى اليمين الجمهوري. خاضت معارك طويلة في صفوف حركتها لتنقيتها من العناصر التي اعتادت خطاب الاستفزاز، والتي يمكن أن تشوه خطابها المُهادِن. أعادت صياغة برنامج أكثر جدية قائم على القطيعة مع أوروبا والانكفاء نحو حمائية اقتصادية والاستثمار في البنى التحتية وتحسين حياة الطبقات الشعبية، بالإضافة إلى ما يمكن وراثته من تركة الأب فيما يتعلق بالخطاب المعادي للهجرة ولأي أسلمة في الفضاء العام، ولكن بمفردات أكثر حذراً. بل ويمكن القول إنها كانت أقرب للتطبيع مع التقاليد الجمهورية فيما يتعلق بأسئلة الهوية الجنسية والحق في الإجهاض ومعاداة السامية وغيرها من الثيمات، التي لا تتصل مباشرة بـ«الخطر الإسلامي»، والتي لم يكن والدها ليهادن فيها، وهو ما استدعى الكثير من المعارك التي انتهت بإلغائها مقعده كرئيس فخري لحركة الجبهة الوطنية. رغم الكثير من العثرات، استطاعت بكاريزميتها وعملها الدؤوب السيطرة على الحركة وإعادة ترتيب صفوفها، وتجاوزت في أول انتخابات رئاسية ترشحت لها عام 2012 أعلى رصيد حصل عليه والدها في تاريخه. بل ووصلت في الانتخابات الثانية العام 2017 إلى الدور الثاني، وحصدت ثلث أصوات الناخبين رغم الأداء الكارثي الذي قدمته في مناظرتها مع إيمانويل ماكرون. ومن أجل الانتخابات الحالية، تبدو أقرب من أي وقت مضى من مرشحي اليمين الجمهوري، فغيرت اسم الحركة من الجبهة الوطنية إلى التجمع الوطني، لتعلن قطعها مع استراتيجية الماضي الدفاعية وجهوزيتها للهجوم، كما عملت على تعديل برنامجها بمعية الكثير من الاختصاصيين والمثقفين ليكون أكثر تماسكاً وأقرب لبرامج مرشحي اليمين الجمهوري وأكثر اعترافاً بضرورة الأدوار الحالية التي تشغلها فرنسا في أوروبا والعالم، وأقلّ انحيازاً لمصالح الطبقات الشعبية التي لطالما كانت رافعتها الانتخابية الأساسية.
الكثير من ناخبي مارين لوبين يأتمنونها على أصواتهم لارتباطهم العاطفي بمسيرتها، فهذه المرأة، التي حققت تقدماً مذهلاً في بارومترات الشخصيات السياسية الأكثر شعبية في فرنسا،منذ أقل من سنة، كانت مارين لوبين ثاني أكثر الشخصيات السياسية شعبية في فرنسا حسب باروميتر لوفيغارو. المصدر: BFMTV. تتماهى بشكل من الأشكال مع مسيرة كثيرات من النساء المكافحات، ممن أردن التخفّفَ من تركتهنّ العائلية الثقيلة دون الوقوع في فخ الجحود أو النكران. رغم نشأتها في قلعة والدها، إلا أنها تبدو وكأنها ابنة القاع الفرنسي الأبيض التي تناضل من أجل «كرامتها» رغم كل الضربات القاسية التي تتعرض لها، والتي تقول للمحيط الذي ينكرها إنها مستعدة للتشبه به شرط ألا يعني ذلك إذلالاً كاملاً لتاريخها وتاريخ عائلتها. وإذا عدنا إلى أطروحة الحاج، يمكننا القول إن مارين لوبين تمضي، رغم كل شيء، وعلى مستوى الخطاب، باتجاه دفن تركة أبيها ولملمة الخطاب المحارِب والتصالح مع «المجتمع الطيب» ومع ضرورة حفاظه على صورته هذه في المرآة، وإن عنى ذلك التزود بالكثير من الحزم والقسوة، ولكن دون الوصول إلى القذارة، إلا فيما يتعلق بالخطر الإسلامي. وهي، ضرورة القذارة مع الخطر الإسلامي، ما نجح اليمين المتطرف في تحويله إلى أحد أسس خطاب اليمين الفرنسي عامة، فنيكولا ساركوزي، تمكن من الوصول إلى سدة الرئاسة في انتخابات 2007 عبر الفعالية التي أثبتها في مواجهته لانتفاضات الضواحي كوزير للداخلية في آخر حكومات جاك شيراك، وعبر إدماج بعض ثيمات لوبين الأب في حملته لعام 2007، فيما يتعلق بسؤال الهوية والإسلام وضرورة «الرجل السيء» كرئيس للجمهورية، لا مجرد وزير للداخلية.
إيريك زيمور، عودة المارد بربطة عنق
لم يكن «الخطر الإسلامي» يوماً أكثر كثافة مما عاشته فرنسا في العقد الأخير، من واقعة شارلي إيبدو إلى مقتلة الباتاكلان وصولاً إلى قطع رأس المدرس صامويل باتي، عدا عن ظهور داعش ومئات ألوف اللاجئين السوريين والأفغان الذين حطوا رحالهم في أوروبا. لم يكن يمكن لليمين المتطرف أن يجد فرصة أكبر من هذه للوصول إلى الحكم، ولكن مارين لوبين فشلت في وجه إيمانويل ماكرون. لم تكن مستعدة، لم تكن على قدر المسؤولية!
دفع كل ذلك مارد اليمين المتطرف للنفخ في روح الإعلامي الفرنسي إيريك زيمور. رغم محاولاته الفاشلة في كتابة الرواية، إلا أن هذا الكاتب الصحفي لا يريد أن يختتم تاريخه دون كتابة ملحمة ملهمة وكبيرة. بدأ محاولاته كقلم صحفي معتمداً على استراتيجية الاستفزاز، التي طالما اعتمدها جان ماري لوبين، ولكنه كان أكثر حذقاً وثقافة، ومن منبت اجتماعي مختلف. فمن الصعب اتهام هذا اليهودي، المنحدر من الجزائر، بكرهه لذاته، كيهودي، كابن مهاجر. حبه لفرنسا ووطنيته هما ما يحرّكه، وما يدعوه لنقد فساد السياسيين، جبنهم وقلة اتساقهم. لا يمكن الادعاء أيضاً بأنه ديماغوجي أعمى، فهو عندما وجد مصلحة فرنسا في مشروع فرانسوا ميتيران، اليساري، أعطاه صوته. وكذلك فعل مع مرشح اليسار جان بيير شوفينمه في 2002. ولكن لا شيء يبدو فعالاً لوقف ذلك «الانتحار الفرنسي»، عنوان كتابه الذي حقَّقَ أعلى المبيعات لأسابيع طويلة وكرّسه كواحد من أكثر أصوات اليمين سلاطة.
الراغب في منع الفرنسيين المسلمين من تسمية أبنائهم بأسماء ورثوها من ثقافاتهم، وبمنع المسلمات من ارتداء الحجاب في الفضاء العام، لا يخترع جديداً، أو هكذا يقول. يكفي العودة للتاريخ الفرنسي كي يعرف الفرنسيون كيف حادوا عن العظمة التي خطّها الآباء المؤسسون. فقوانين الجمهورية الثالثة تملي على الفرنسيين قائمة الأسماء التي يمكن أن ينتقوها لأبنائهم، كما تملى على المهاجرين معنى الاندماج، الذي لا يجب أن يعني إلا «التشبّه» بالفرنسيين، بثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
بالنسبة لهذا الوجه التلفزيوني المعروف، لا بد لفرنسا من استعادة نقائها، لا بد لها من الخلاص من الملايين الذين يغزونها. لا يجب أن تعطي الدولة قرشاً واحداً لمساعدة المهاجرين، غير الأوروبيين. يجب إعادتهم من حيث أتوا، ويجب الوصول بالهجرة إلى مرحلة صفرية. الهجرة والجريمة صنوان لا يفترقان، فلا بد من دولة قوية مهيوبة، ومن الخلاص من ترهات ومفاهيم كـ«دولة القانون» ومن الخلاص من القيود الحقوقية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، لا بد من زيادة دعم الشرطة وضمان «حصانتهم» ومحاربة تسيُّب القضاة اليساريين واستقلالية سلطتهم البغيضة، ومن زيادة الإنفاق العسكري.للمزيد حول تفاصيل برنامج المرشح إيريك زيمور، راجع: Le programme d’Eric Zemmour à la présidentielle 2022. بمعنى آخر، لا بد من الخلاص من ليبرالية هذه الديموقراطية ومن تحويلها إلى ديكتاتوريةِ أغلبيةِ الصندوق، تماماً كما يحلم إسلاميو الشرق الأوسط.
فرنسا، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى مجرد بلد آخر، متواضع، بل إلى «لبنان كبير»، لا يمكن أن تستعيد عظمتها إلا بإعادة وصل ما انقطع مع تاريخها الكولونيالي الأبيض. فلا شيء يدعو للخجل. الجنرال بيتان، وكيلُ هتلر في فرنسا الذي يتهمه أكاديميو التاريخ بالعداء للسامية، قد سلَّم اليهود غير الفرنسيين للألمان ولكنه حمى مواطنيه اليهود، وهذا هو الأهم من «ترهات» المؤرخين «المشبعة بالإيديولوجية». فرنسا التي يحتلها المهاجرون المسلمون لا يمكن أن تستسلم لهذا «الاستبدال الكبير»، فهذه النظرية التي يَسِمُها الأكاديميون مرة أخرى بالعنصرية وبالتدليس أكثر من صحيحة، وهي بوصلة طريق. بالمقابل، لا يمكن لفرنسا أن تقبل بأن يحكمها أنصاف الجهلة، من أمثال مارين لوبين، عاشقة القطط وتربيتهم، بل أشخاص كزيمور، من عشّاق الكتب.
لا يمكن لهذا الطرح ألّا يغري قطاعات واسعة من الفرنسيين، وبخاصة الموسرين منهم، الذين يشعرون رغم كل شيء بانحدار موقع أمّتهم وصورتها في العالم. فانسان بولوريه مثلاً، مالك إحدى أكبر الثروات الفرنسية، العامل في مجال النقل واللوجستيات، وإحدى أكبر الشخصيات نفوذاً في مرافئ أفريقيا وقصورها الرئاسية، مالك مجموعة كانال بلس للإعلام والترفيه والتي تشكل أساس امبراطوريته الإعلامية التي لا يتوقف عن توسيع حدودها. فتح هذا الملياردير أبواب قناته الإخبارية C-NEWS للصحفي زيمور وحولها إلى بوق إعلامي لخطابه، ليمنحه زخماً إعلامياً لا سابق له ويعلن عن ولادة فوكس نيوز فرنسية التي لم يجد كثيرون من أقطاب الإعلام التقليدي حتى اليوم طريقة سوى مجاراتها للتكيف مع وجودها.نشرت صحيفة لوموند ورقة طويلة عن علاقة الملياردير فانسان بولوريه بإيريك زيمور بعنوان: كيف يحرك فانسان بولوريه إمبراطوريته الإعلامية لتأكيد حضوره في الانتخابات الرئاسية. بل استطاع زيمور أيضاً أن يغري عدداً وازناً من رموز اليمين المتطرف واليمين الجمهوري على حد سواء، فتكاثرت الانشقاقات في صفوف مارين لوبين لتصل إلى ابنة أختها ماريون لوبين التي ساهمت في تربيتها. كما صرح إيريك سيوتي، الحائز على المركز الثاني في انتخابات اليمين الجمهوري والمنادي بتأسيس غوانتانامو فرنسييعيد هذا التصريح وموقع صاحبه في اليمين الجمهوري تذكيرنا بأطروحة غسان الحاج عن الشبه المتزايد بين المجتمعات الغربية والتشكيلات الكولونيالية المتأخرة. لقراءة تفاصيل التصريح وسياقاته في اللوموند: Congrès Les Républicains : Eric Ciotti souhaite un « Guantanamo à la française » pour lutter contre le terrorisme. بأنه سيأتمن زيمور على صوته في حال وصوله إلى الدور الثاني قُبالة إيمانويل ماكرون.
قد لا يستطيع هذا الإعلامي، متواضع الكاريزما وصاحب التصريحات الكارهة للمرأة، تخطي حاجز الـ 10% من أصوات الفرنسيين، وبخاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وموقفه الاعتذاري لبوتين وغزوه أوكرانيا، بل وقد يكون السبب الرئيسي في ترجيح كفة مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلونشون على حساب مارين لوبين لمجابهة إيمانويل ماكرون في الدور الثاني، وهو ما سيشكّل في حال حصوله هزيمة غير سارة لليمين المتطرف الذي لم تتوقف استطلاعات الرأي عن التأكيد على وصوله إلى الدور الثاني منذ أشهر طويلة. ولكن أهمية هذه الظاهرة تتمثل في الحامل الطبقي لهذا المرشح وخطابه، فزيمور، الوافد من قلب عالم النخبة الفرنسية، مرشح قطاعات ميسورة وبورجوازية لطالما صوتت لليمين الجمهوري خجلاً من التصويت ليمين معادٍ للسامية، كيمين مارين لوبين مرشحة الطبقات الشعبية والعاطلين عن العمل. أي أن قطاعات واسعة من البرجوازية الفرنسية تبدو اليوم وقد وجدت صوتها في خطاب زيمور، «المهووس بمفردات الحرب والموت والفتح والسيطرة»، والذي لا يمل من ترديد كلمة حرب لتشغل موقع الاسم الثالث الأكثر انتشاراً في كتبه.للتوسع في صفات خطاب إيريك زيمور، يمكنكم قراءة استعراض كتاب الباحثة في جامعة ستانفورد سيسيل ألدوي: لغة إيريك زيمور. المصدر: « La Langue de Zemmour », le réquisitoire de la sémiologue Cécile Alduy.
خاتمة
عندما أدلى الفرنسيون بـ 82% من أصواتهم لمرشح اليمين الجمهوري جاك شيراك في انتخابات 2002، أرادوا أن يثبتوا لأنفسهم وللعالم أن وصول مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبين إلى الدور الثاني ليس إلا حدثاً عارضاً في التاريخ الفرنسي، وأن هكذا يمين لا يمكن أن يتجذر في المشهد السياسي الفرنسي، ولكن كل ما جرى بعدها لا يؤكد إلّا عكس ذلك.
فهذه الانتخابات تؤكد أن غياب مرشحي اليمين الجمهوري عن الدور الثاني في انتخابات 2017، وكانت تلك المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، واقتسام أصوات جمهوره بين مرشح اليمين النيوليبرالي ايمانويل ماكرون ومرشحي اليمين المتطرف، قد يتحول إلى تقليد فرنسي. كما أنها تعني أيضاً تحولاً نهائياً لقطاعات واسعة من جمهور اليمين الجمهوري نحو يمين مُحارِب، ورثَ عن يمين جان ماري لوبين المتطرف كل شيء عدا اسمه. بكلمات أخرى، مقتبسة من أطروحة الحاج، فإن هذه الانتصارات الراهنة لليمين المتطرف الفرنسي تمضي بفرنسا قدماً باتجاه «ديموقراطية فالوسية»، مفرغة من كل معانيها، ولا يستدعيها أصحابها إلا للمفاخرة بها، ديمقراطية أولئك الذين يقولون: «نحن لدينا ديمقراطية»، وليست ديمقراطية من يقولون: «إننا نعيش ديمقراطياً». وهي ديمقراطية من يريد أن يُري الآخر: «لدي واحد كبير».غسان الحاج، مرجع سابق. هي أيضاً خطوة أخرى نحو مجتمعات «الفصل العنصري» على الطريقة الإسرائيلية واللبنانية والجنوب إفريقية، حيث يفقد المجتمع جميع الأطر التي توحد أبناءه، وتتحول مدن معينة كروبي وبوبيني وغيرها من الضواحي «المتأسلمة» إلى «أراضٍ فقدتها الجمهورية»، ويفقد التفكير النقدي جدواه في دولة تُكرّس نفسها يوماً بعد يوم كأداة لإدارة أزمة مزمنة، هي أزمات التجمعات المغلوبة، وإبعاد آثارها عن الجماعات الغالبة، دون وجود أي رغبة حقيقية في مقاربتها موضوعياً والعمل على حلّها.