لا تتوقف التحليلات والنقاشات الجيوسياسية عن تَصدُّر المشهد عند الحديث عن الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يتم التركيز على الأهمية الجيوسياسية الحاسمة لأوكرانيا بالنسبة لروسيا، أو على استفزاز حلف الناتو لبوتين بسعيه للمزيد من التوسع شرقاً ومحاولة ضم أوكرانيا بعد أن ضمَّ كلاً من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا عام 1999، وهو ما يتم اعتباره محاصرة لروسيا وتهديداً «للأمن القومي الروسي». كما يتم الحديث عن رغبة أمريكا ومصلحتها الجيوسياسية بتوريط روسيا في المستنتقع الأوكراني لإضعافها وضعضعتها، في سياق تحقيق الهدف الأكبر بإحكام قوس الحصار الشمالي على الصين. ولا تلبث أن تُردَف تلك التحليلات الجيوسياسية بتحليلات اقتصادية تتبعها مباشرة وتقوم عليها، حيث تأخذ حرب النفط والغاز والقمح وشركات السلاح مكانها في المعادلة، وصولاً إلى نظريات المؤامرة التي تحبك كل ما سبق ذكره معاً ضمن استراتيجيات شيطانية يتم رسمها في الغرف المغلقة التي عادة ما تكون أميركية.

للوهلة الأولى تبدو تلك التحليلات عقلانية وصحيحة ومن الصعب ردّها أو إنكارها، لكن المشكلة الكبرى مع هذا النوع من القراءة، هي فيما تحجبه أثناء ادّعائها اكتشافَ البداهات. فأول ما تقوم به النزعة الجيوسياسية هو تجريد السياسة عن السياسي، ونزع أي إرادة إنسانية أو اختيارٍ عن الأطراف الأساسية التي اختارت الحرب والتي تقع عليها الحرب. هي عملية (Dehumanizing) للفعل السياسي بوصفه فعلاً إنسانياً قابل للقياس والحكم، أي نزع للصفة الإنسانية عنه، كما أنها نزعٌ للسياسة عن فعل هو سياسيٌ بالكامل. والأسوأ، هو أنها عملية إخلاء للمسؤولية عن الفاعلين السياسيين وأصحاب القرار السياسي. 

الأطراف الأساسية للنزاع في الحالة الأوكرانية هم بوتين ونظامه من جهة، والشعب الأوكراني ورئيسه من جهة أخرى. فأولاً، نجد أن بوتين شخصياً لديه إرادة سياسية فاعلة وتعرف ما تريد، ولديه الأهلية الكاملة لاتخاذ قرار الحرب، بعد انتصاراته الخارجية في الشيشان وجورجيا والقرم وسوريا؛ ومؤخراً كازخستان (إن كان عبر سحق أنظمة أو تغييرها أو الحفاظ على أنظمة أخرى موالية له بالقوة العسكرية)، وبعد انتصاراته الداخلية في سحق المعارضة وتسميم أو سجن أهم رموزها، أو النجاح في البقاء على رأس السلطة الفعلية لمدة 22 عاماً، مع ضمان بقاءه حتى عام 2036 عبر تعديل الدستور. بعد كل تلك «الانتصارات» الخارجية والداخلية، من الطبيعي أن يفكر في المضي لتغيير النظام في أوكرانيا حتى لو اضطر لاحتلالها كما يفعل الآن، وبالتالي فهو مسؤول بالكامل سياسياً وأخلاقياً وقانونياً عن هذه الحرب التي يدفع أثمانها الشعبان الروسي والأوكراني معاً وإن بطرق مختلفة. في الواقع، لا شيء يمكن أن يُفهِمنا كيف كان يفكر بوتين عندما أعلن الحرب أكثر من رؤية ما قاله شبيهه و«محبوبه» دونالد ترامب في البداية، عندما أعلن مباشرة أن «بوتين عبقري، فهو يستولي على دولة شاسعة جداً، مقابل عقوبات قيمتها دولاران»، فما يجمع بوتين وترامب هو قناعتهما البارانوئية بعجز الأوروبيين وبايدن شخصياً، دون أن يخلو ذلك الوصف من إيحاءات جنسية تقوم عليها بطريركية الرجلين، كما يجمعهما عدم أخذ الشعب في الاعتبار، وقلّة التقدير للرئيس الأوكراني باعتباره رئيساً مُنتخباً ضعيف الكاريزما وممثلاً كوميدياً سابقاً لا يمثّل رجل الدولة «القوي» في المخيال البطريركي التقليدي.  

الفاعل السياسي الآخر في تلك المعادلة هو الشعب الأوكراني ورئيسه، فالشعب الأوكراني اختار نظاماً ديمقراطياً عبر ثورته عام 2014، ومن الواضح جداً أنه لا يرغب في البقاء تحت جناح الاتحاد الروسي أو أي شكل ديكتاوري للحكم، وهو يبدي اليوم مقاومة صادقة وعظيمة للاحتلال الروسي. وأما الرئيس، فيمكننا المغامرة بالقول إن خياره الشجاع بالمقاومة والبقاء في العاصمة كييف هو ما غيّرَ حسابات الغرب وحسابات بوتين في الوقت ذاته، بل إن موقفه هو من ورّطَ الغرب والناتو بذلك التصعيد غير المسبوق ضد روسيا وليس العكس. فلو أنه استمع للجانب الأميركي وغادر أو استسلم منذ البداية، فلن يكون مستبعداً أن تمضي الأمور كما توقع ترامب بالفعل، أو كما ظنّ بوتين ذاته عند إعلانه الحرب، إذ أثبت الغرب خلال تجارب بوتين السابقة في العقدين الماضيين أنه من السهل أن يتعايش مع الأنظمة التي يضعها بوتين، ومع التغييرات التي يحدثها في الدول التي يضمّها تحت جناحه. كما اعتاد بوتين على ردّات الفعل الغربية الناعمة على أفعاله الهوجاء، والتي تقوم بفرض عقوبات اقتصادية شكلية على روسيا لا تؤثر فعلياً على مصالح الطرفين الغربي أو الروسي، فالمكاسب الاستراتيجية التي كان يحصّلها بوتين لا يمكن مقارنتها بالخسائر الاقتصادية التي لم تكن تطاله لا هو ولا نظامه الأوليغارشي أو دوائره الضيقة والمافيوزية الحاملة للنظام.

ما لا يفهمه أصحاب التحليل الجيوسياسي هو أن الأبعاد الجيوسياسية نتائجُ وليست مقدمات، وهذا فرق كبير يقلب المعادلة رأساً على عقب. وقد عرفنا ذلك الفرق بشكل رهيب خلال السنوات الأولى للثورة السورية، حين تم في البداية إنكار فاعلية الشعب السوري وثورته وإرادته في التغيير لصالح مؤامرات غربية ومصالح جيوسياسية، ولم يلبث أن بات الشعب غير مرئيٍ بالكامل في معادلة صراع القوى والحرب الأهلية والحرب ضد الإرهاب. والأهم، أنه بعد إعلان النظام للحرب المفتوحة ضد السوريين، وافتقار المجتمع الدولي لأي ردّة فعل جديّة ضد المجازر التي قام بارتكابها، باتت جميع تلك التحليلات الجيوسياسية والمؤامرات المرتبطة بها تبدو صحيحة بالكامل، وأصبحت الرؤى الاستشراقية التي لا ترى فينا سوى دُمىً وبيادق لقوى دولية كبرى، وأننا غير مؤهلين لفهم قضيتنا، قابلة للتصديق أيضاً. بل إن سردية النظام حول الحرب على الإرهاب، وسردية القوى الدولية حول الحرب الأهلية، أصبحت هي السائدة مثل نبوءة ذاتية التحقق.

ليس غريباً أن أهم روّاد التحليل الجيوسياسي لم يتمكنوا من إدانة نظام الأسد بشكل صريح، بل إن يسارياً معادياً للإمبريالية مثل الراحل روبيرت فيسك، اشتغل كمراسل حربي مع قوات النظام أثناء وبعد مجزرة داريّا عام 2012، بينما أظهر دبلوماسي وكاتب مثل نيكولاس فاندام تفهماً وتبريراً لحرب النظام ضد السوريين مع إدانة لـ«الذات» الغربية التي «ورّطت» السوريين بحرب أهلية، ولم تتفهم حرب النظام أو تتعامل معه بدبلوماسية. وليس غريباً أيضاً أن نرى كيف أن زملاء هؤلاء اليوم لا يريدون تحميل بوتين مباشرةً مسؤولية الحرب بقدر ما يحمّلون الناتو المسؤولية نتيجة استفزازه لبوتين، ولا يريدون رؤية الشعب الأوكراني ومقاومته أو موقف رئيسه بقدر ما يرونهم مجرّد ضحايا لمؤامرة غربية/أميركية أرادت استخدامهم في حربها ضد بوتين، وبيادق ودمى دون أي إرادة سياسية أو تأثير سياسي فاعل.

ما يجمع الرؤى التي تضع التحليلات الجيوسياسية كمقدمات للفعل السياسي، بدلاً من كونها نتائج، هو أنها بالمجمل تحليلات قديمة وموروثة عن الأزمنة الإمبراطورية التي يريد بوتين وأمثاله إعادتها للحياة، حيث لا قيمة للشعوب أو الرأي العام في قرارات السلطان أو الملك أو الرئيس الوارث للسلطة. وهذه قد تصح إلى حدّ ما في فهم سلوك بوتين أو الأسد أو أي زعيم ديكتاتوري، ولكنها لا تنطبق على حال الأنظمة الديمقراطية بالطريقة ذاتها. وهنا لا بدّ من التذكير بأن الشعبية الهائلة التي ما زال يتمتع بها أوباما حتى اليوم جاءت نتيجة لتناغم قراراته مع الرأي العام الأميركي؛ والغربي عموماً، «المسالم» والمعادي للحروب والتدخلات الخارجية، والذي يضجّ بمشاعر الذنب ما بعد الكولونيالية. كما أن الرئيس الأوكراني لم يكن ليقاوم بهذه القوة والثقة لولا تناغم قراره مع إرادة الأكثرية من شعبه الذي انتخبه ديمقراطياً. وبالمقارنة سيكون من المضحك التفكير في أن بوتين يأخذ مواطنيه بعين الاعتبار إن كان أقرب مقربيه لا يجرؤ على الإفصاح عن رأيه أمامه، فهو يفكر عن «الأمة الروسية»، ولا قيمة أو أهمية لمن يفكر عنهم عندما يتعلق الأمر بتقرير شؤونهم، لأن «شؤونهم» هي ملك الأمّة التي يمثّلها هو وحده. وأما الأسد فقد ابتدأ بوصف المتظاهرين ضده بالجراثيم، ثم أبدى سعادته بتهجير الملايين من بلدهم لأن ذلك يجعل المجتمع أكثر «تجانساً». في الواقع، كلٌّ منهما يحجب سياسة الأبد، ورغبته في احتكار السلطة المؤبد، خلف حديثه عن الأمّة والوطن والعظمة والتاريخ.

القراءة الجيوسياسية تقوم بقياس جميع الدول والأنظمة بالمسطرة ذاتها، وبالإسلوب الكسول ذاته. فعندما يتم الحديث عن «الأمن القومي الروسي» تظن أن روسيا هي ذاتها الإتحاد السوفييتي! لكن السوفييت بنو اتحادهم على ثورة ومشروع عالمي واعد بالعدالة والمساواة، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك المشروع وعن فشله الذاتي والموضوعي، إلا أنه كان مشروعاً موازياً للمشروع الغربي الديمقراطي الليبرالي وقتها، وهو مشروع ألهمَ الملايين من الناس حول العالم حتى داخل الغرب ذاته، بل إن فيلسوفاً مرموقاً وعَلَماً من أعلام التنظير الليبرالي للحرية مثل جان بول سارتر، كان قد برر اعتقال وقتل ستالين للملايين باسم الثورة الشيوعية الواعدة بالعدالة والمساواة وحرية الشعوب. وهنا يجدر السؤال: ما الذي يمكن لروسيا/بوتين تقديمه كمشروع للعالم، أو للداخل الروسي، سوى المثال المافيوزي الديكتاتوري للحكم في الداخل، وحماية الديكتاتوريات أينما وُجدت في الخارج؛ ولا سيما الديكتاتوريات التي تقوم شعوبها ضدها طلباً للحرية منها بالذات! ربما كان من الأصح القول: إنه لا يوجد ما هو أخطر على الأمن القومي الروسي من بوتين ذاته، وهو ما يَصدُق كخطر على العالم أيضاً. 

ما زال كلام تشرشل القديم حول أن «الديمقراطية هي النظام الأسوأ باستثناء جميع الأنظمة الأخرى» صالحاً حتى اليوم، وما زال المشروع الديمقراطي الليبرالي هو المشروع الوحيد القابل للتعديل والإصلاح من الداخل دون الحاجة لقتل الرئيس أو قتل الملايين لإبقائه على رأس السلطة. وربما تكون مناسبة سكوت الغرب عن حطام سوريا الذي انتهى بخيلاء بوتين واليمين الشعبوي حول العالم، ونَقلَ الحرب من الأطراف إلى المركز وإلى عمق الديار الغربية عبر أوكرانيا، هي وسيلة لمراجعة الشعوب الغربية وأنظمتها لأسس النظام الديمقراطي التي استقرت على قواعد تجعل من حدود النضال الديمقراطي تنتهي مع حدود الدولة أو المركز الغربي، وعلى تخيُّلِ أنه يمكن للديمقراطية العيش بلا مخالب، أو أن خيار الغرب العائد لأيام الحرب الباردة في الاستثمار بديكتاتوريات العالم االثالث ما زال خياراً قابلاً للحياة، أو أن مشاكل الشعوب غير الغربية مع أنظمتها المتسلّطة هي مشاكل بعيدة ولا تعني إلا أصحابها؛ مع أنها باتت أقرب إليهم من مشاكلهم ذاتها. وقد تكون تلك المراجعة مهمة للتخلّص من آثار الفكر الهنتغتوني، وهو الفكر الذي أحياه أوباما؛ بقصد أو من دونه، تحت اسم التوقف عن لعب أمريكا لدور الشرطي في العالم، في الوقت الذي انتقل فيه هو ذاته إلى لعب دور «ماما تيريزا» الغرب. 

كان كارل بوبر قد طرح فكرة ملفتة في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه، وذلك في أوج الحرب العالمية الثانية، مفادها أنه «ليس علينا البحث عن سياسة ونظام سياسي يجعل البشر أكثر سعادة، بل لجعلهم أقل معاناة». فالمعاناة هي مسألة يمكن دائماً معاينتها، وهذا ما نراه في أوكرانيا بالعين المجردة، مثلما رأيناه وما زلنا في سوريا أو غيرها، ولكن السعادة هي ذلك الوعد المتعالي والخلاصي للأنظمة الديكتاتورية التي لا تتوقف عن جلب المعاناة لشعوبها والشعوب الأخرى، باسم الوعد بالسعادة والقوة