1. عندما قالت زميلتي لوالدها إنها شاركت في إحدى المظاهرات عام 2011، قطَّب الأب حاجبيه وقال لها: «يلعن أبوكي يا بنت الكلب». كانت هذه طريقته للفخر بها، لكنّ حتى تلك الذكرى لم يعد لها مكان للحديث بعد كل ما جرى، تماماً مثل كثير من الأحداث الأخرى التي انطفأت أهميتها بعد كل ما كان.

اليوم، أكتب ذلك وأنا أتحدث مع زملائي في العمل عن أمور ليس لها علاقة بما ذُكر أعلاه، هي أمورٌ ليس لها علاقة حتى بالغلاء المعيشي، بل أدنى بكثير من ذلك. مثلاً عن آخر قطعة ثياب اقتنيناها في التنزيلات، عن غداء الأمس وعن أركيلة الغد، وعن المقهى الذي فتح خلف شارع الملعب. وعن «القراقيع»، أي الذين عمرهم بين 14 و18 عاماً، الذين يحتفلون في شارع الملعب بفوز نادي الوثبة. نتحدث عن أسخف السفاسف التي قد تخطر في البال، نمسح رؤوس الأحاديث السخيفة ونتبارك بها كي نحظى ببركة الابتعاد عن الجوهر، ليلتفّ كل شخص فينا نحو قوقعته التي التصق بها عموده الفقري كما تلتصق صدفة السلحفاة بجسدها. لكن ثمة حدثاً جديداً هذه المرة هو أوكرانيا. نخاف من الحديث بهذا الشأن أمام بعضنا بعضاً؛ يقول زميلنا: «علقوا ببعض» قاصداً روسيا وأوكرانيا، ويقول الآخر بابتسامة صفراء: «لأ… ما منقدر نحكي على روسيا أو نلومها، روسيا صديقة إلنا». تكفي هذه الجملة لنسكت جميعاً، ليس نحن كزملاء فقط، بل نحن الأناس العاديون أمام بعضنا بعضاً، ليس لأننا لا نهتم، على العكس، نحن نراقب بقلب الذي ذاق الأسى، ونهتم كما لو كان الأمر يخصّنا، وهو كذلك في جزء منه، لكننا لا نجرؤ أن نصرّح بما يجول في صدورنا سوى لمن نثق بهم من الأقارب أو الأهل. أما غير ذلك، ننكر ما يحدث، نتجاهله، وندّعي عدم الاهتمام به، وإن تصادف واضطررنا للحديث عنه فالأمر مجرد «يتقاتلون مع بعضهم»، حيث بهذا المعنى لا يوجد معتدٍ ومعتدى عليه، وكأن الأمر آت من السماء ولا يد لبشري فيه.

كل هذا مفهوم أمام اللحظة التي يفاجئنا بها رجل من مفرزة الأمن السياسي، بالكاد يبلغ العشرين عاماً، ويسألنا نحن الخمسة الذين مجموع أعمارنا يتجاوز مئة وستين عاماً، عن ماذا نفعل، وما هو هدف اجتماعنا،  ولماذا نحن موجودون في هذا المكان بالضبط. أقسم إنّ أسئلته لوهلة تكاد تبدو فلسفية أكثر منها أمنية، حتى أن بعضنا لم يفكر مسبقاً بما هو الهدف من اجتماعنا، وما هو الهدف من وجودنا هنا. وكاستكشاف لأجوبة الأسئلة كنا نتشاور فيما بيننا لنعطي إجابة واضحة، وهنا كانت الصدمة حين تفاجأنا أن أهداف اجتماعنا أسخف مما يمكن وصفه، فنحن مجتمعون من أجل «التحديات» التي نواجهها في العمل، ونحن متواجدون لـ «دراسة» الخطوة القادمة في عملنا، ودراسة مدى تحقيق «الجدوى» من العمل الذي نقوم به، الذي لا نطيقه بأي حال. يقول أحدنا للآخر: «إنّ هذه الأسئلة ضرورية فعلاً من أجل تنظيم أمورنا»، أمورنا التي في جلّها تعتمد على الكلام والثرثرة وغرس الطعنات في ظهور بعضنا بعضاً. يساعد أحدنا رجل الأمن في كتابة تقريره، نفتح عيوننا دهشة لأننا لاحظنا مهارة زميلنا في «كتابة التقرير» وتنميقه لغوياً ونحويّاً. نحن نخشى بعضنا على جميع الأحوال، لا سيما أننا ننتمي لديانات مختلفة، لكن ما إن يتواجد عدة أشخاص منّا من  ديانة واحدة، ومن عائلات تعرف بعضها بعضاً، حتى تنهار أقنعتنا سريعاً، وتبدأ الأسئلة الأكثر فجاجة، والإجابات الأكثر تلغيزاً. لكننا نفهم على بعضنا، ذلك الفهم المقنّع الذي سيأتي يومٌ يصبح فيه شرساً واضحاً  أمام الجميع بلا ألغاز ولا ترميز.

في طريق عودتنا من العمل، نصعد مع السائق الذي نعطيه مبلغاً شهرياً هائلاً ليوصلنا بسيارته إلى نقطة قريبة من بيوتنا، حينها نكون منهكين من أحاديث اليوم (لم أقل من عمل اليوم)، وكل شخص منا لديه ذوقه الخاص في الأغاني، من كاظم الساهر إلى راغب علامة إلى جورج وسوف إلى غيرهم. تفوز ذائقة من يجلس إلى جانب السائق، السائق الذي يشتغل مع ثلاث جهات ويقبض أضعافاً عنا. تحاول إحدى الموظفات الأرامل أن تتوسل السائق لكي يجلب لها 20 لتر مازوت بسعر مناسب، لكن السائق يخبرها بأن العشرين لتراً وصل سعرها إلى خمس وثمانين ألفاً، والدولار اقترب من الأربعة آلاف، كل ذلك «بسبب حرب أوكرانيا»، تلك الحرب التي لم ننج من تبعاتها، لأننا، كما يؤكد، «نستورد المحروقات من روسيا»، لأننا «نعيش على المساعدات التي تبعثها روسيا»، لأننا «نأكل الخبز من القمح الذي تبعثه أوكرانيا وروسيا»، والآن «انقطعنا» من كل ذلك بسبب «الحرب بينهما». مع ذلك، يمجّ سيكارته ويُطمئن زميلتنا الأرملة بأنه سيدبّر لها العشرين لتراً بحوالي سبعين ألف ليرة من حي المزرعة إذا استطاع، حيث المازوت هناك نظيف ومضمون. ساكنو حيّ المزرعة من مؤيدي حزب الله، وحتى نوعية المازوت تختلف من حيّ إلى آخر ومن طائفة إلى أخرى بحسب جودته وسعره، يضاف إلى ذلك طبعاً ذمّة من يبيعه من أي فئة كان.

نصل أخيراً إلى بيوتنا، نحاول أن نرمي أعباء العمل وننطلق إلى أعباء البيت، نطالع الرزنامة ونكتشف بأنّ رمضان بات على الأبواب، نقرر أنه يجب أن نتموّن بما نستطيع استباقاً لمجيء الشهر الفضيل حيث سترتفع الأسعار فوق ارتفاعها. نشتري زيت الزيتون والتمر والرز وما شابه ذلك من المواد التي لا تفسد من هنا إلى رمضان، كلّ ذلك ونحن نتلمس جيوبنا ونهاية الشهر. في خضمّ كل ما سبق يقف زميلٌ لنا في العمل، وهو رجل خمسيني، على سجادة الصلاة ليصلي العشاء، لكنه يشعر أن دقات قلبه تتغيّر، تسرع تارة وتبطئ تارة، ثم يشعر بشيء يضغط صدره. يقرأ آيات ٍمن سورة ياسين من دون أن يتفكر في كلماتها، تنتهي الصلاة ويزول وجعه بالتدريج، يخشى أن يفصح عما حلّ به، يخشى الأطباء ويخشى الشوارع التي تؤدي إليهم، يخشى المرض والغرباء والموتورات والسيارات «المفيمة» وخطوات آخر الليل وطَرق الباب، ويخشى أيضاً الخوض في أحاديث لا يستطيع التحكم في نهاياتها. علّمَ نفسه منذ سنوات أنّ الألم الذي يصمت عنه يزول من تلقاء نفسه، هو الرجل الأكثر صمتاً بيننا، والأكثر هموماً: فقدَ ابناً في بداية الثورة والبقية أصبحوا لاجئين ولم يرهم منذ سنوات. هذه المرة لم ينقذه الصمت من الألم، إذ فقد النظر في عينه فجأة اليمنى ليكتشف أنه تعرض لجلطة فيها.

المأكل والمشرب والصحة، والأمن من رجال الأمن، هم خلاصة حياتنا رغم عبثية ذلك، لكنّ أي شيء يمسّها هو علامة تهلهل عالمنا الهش أصلاً.

في المساء نجلس بجانب المدفأة، على ضوء «اللدّات»، وعيوننا تراقب بصبر وتوسل نقاط المازوت المتساقطة من طاسة المدفأة. عيوننا تتوسلها أن تبطئ المسير، وأن تطيل البقاء، وعندما تطلّ علينا الكهرباء، نهرع لنطفئ مدفأة المازوت ونتسابق للجلوس بجانب المدفأة الكهربائية، وعيوننا على التلفاز، على ما تفعله روسيا، على ما تعانيه أوكرانيا. لكن أين الصور؟ أين الفيديوهات؟ أين الأشلاء؟ أين لهاث المصور وهو يكبّر ويناشد العرب والعجم المساعدة؟ أين صورة الشهيد الطفل وعيونه ما زالت مفتوحة؟ أين..؟ أين..؟ أين…؟ نغيّر القناة، هذا يكفي، نكأنا الجرح بما يكفي، فلننتقل الآن إلى شيء أخفَّ على القلب وعلى الروح.

ينزل المطر، ينزل على أوقات متقطعة، تبتل الأرض وتنتعش وتنطلق رائحة التراب بعد المطر، تمتلئ الشوارع بالحُفَر الطينية، وتصبح بعض الطرقات زلقة. نحاول أن نُرمنس نزول المطر فلا نستطيع، نعجز حتى عن إعطائه ذلك الطابع، لا سيما حين يختلط مع انقطاع الكهرباء وانقطاع الدفء وانقطاع الأمل. الوقت ظُهر والأذان من جامع خالد بن الوليد يردّ الروح، زميلنا في العمل الذي اكتشف جلطة في عينه كان قد امتنع عن زيارة الجوامع منذ سنوات، لكنه اليوم يحسم أمره ويستغل كونه متوضئاً وقريباً من جامع خالد بن الوليد ويقرر الصلاة فيه. هذه أول مرة يدخله منذ سنوات، الرافعات ما زالت حول الجامع تزيل الأنقاض وتُعمّر ما دُمِّرَ منه، الحجر الأسود الذي صُنع منه الجامع ليس موجوداً داخل حرم الجامع مثل السابق، بل  أصبح يوجد داخله كثيرٌ من الحجر الأبيض الخراساني الذي يسيء للعين وللذاكرة. أمام الجامع وحوله ما زال الخراب. يلمح امرأة «سفور» (أي بلا حجاب) تقف على باب الجامع تنتظر الدخول، ترتدي بنطالاً ضيقاً وشعرها أشقر مسترسل. يتذكر المرأة الوحيدة التي غازلته يوماً حيث أمسكته من ذراعه في طريق فرعي ضيق وقالت له «بتمشي معي؟»، كان ذلك منذ عشرات السنين حين لم تكن هناك شعرة بيضاء في رأسه ولم يكن قد فقد ابناً أو أصبح وحيداً مع زوجته التي تنتظره كئيبة في البيت. يتفاجأ الناس الذين يعرفونه بأنه ما زال متمسكاً بالبقاء هنا رغم كل الأحداث، هو أيضاً لم يغادر سوريا يوماً ولم ير أجانب سوى في التلفاز، باستثناء الجنود والموظفين الروس الذي يراهم أحياناً يمشون في الطرقات ويسألون الباعة بالإشارات عن ثمن اللبن والجبن والحلويات. يخمّنُ أنّ المرأة الشقراء التي أمامه ربّما تكون موظفة روسية مهمة، لا سيما أنّ بجانبها بعض المرافقين. يعطيها حارس الجامع عباءة سوداء، تلفها حوالي جسدها اللين وتغطي بالكاد شعرها.

ينادي المنادي للصلاة بينما هو ما يزال مشغولاً بمراقبتها. يتناهى إلى سمعه صوتها وهي تتكلم بلغة ما للمرافقين، ربما الانكليزية؟ لا يدري! يترك مراقبتها ويتوجه للصلاة، يقف في صف المصلين، يطالعه صوت الشيخ: الله أكبر… الله أكبر. ها هو يتنهد كمداً ويبدأ الصلاة.