بدا الموقف الرسمي للأنظمة في المنطقة العربية، وتحديداً دول الخليج، من الغزو الروسي لأوكرانيا متردداً حتى مع تصاعد الإدانات الدولية والغربية للحرب الروسية على جارتها الأصغر، ومع تتابع إعلان الإجراءات العقابية على الصعد الاقتصادية والسياسية لبوتين وموسكو على خلفية تلك الأحداث.

وفي حين يمكن وضع مواقف دول تمتلك تحالفات عسكرية ودبلوماسية قديمة مع موسكو، مثل الجزائر، في سياق تاريخي؛ فإنّ موقف الدول الخليجية الذي اقترب من الصمت والحياد أغلب الوقت، مبتعدين بذلك عن مواقف حلفائها في واشنطن، كان مبعثاً للتساؤل، وحتى الإحباط، عند دبلوماسيين غربيين لاحظوا هذا التردد وأشاروا إليه، خاصةً الموقف الإماراتي بالامتناع عن التصويت خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت في الخامس والعشرين من شباط (فبراير)، والتي انتهت بفشل مشروع القرار بسبب الفيتو الروسي.

وقد برر أحد الدبلوماسيين الغربيين في تصريح لوكالة فرانس برس الموقف الإماراتي بعد الجلسة بنوع من المبادلة «غير النظيفة» مع روسيا لقرار ضد الحوثيين. لم تخفِ الدول الغربية شعورها بالإهانة من الموقف المتردد الذي اتخذته الإمارات وقتها، وهي ردّة فعل قد تكون أحد دوافع الإمارات إلى تغيير موقفها لاحقاً في الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتصويتها مع مشروع قرار إدانة روسيا.

كان الموقف الأقرب للوضوح بين مواقف الدول الخليجية هو الصادر عن الخارجية القطرية، والتي مع ذلك لم تُدِن روسيا أو الغزو، واكتفت بإدانة أعمال العنف والتأكيد على اعتراف الدوحة بسيادة أوكرانيا على أراضيها.

لكن، بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال جلستها الطارئة على مشروع القرار الخاص بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، يمكن الحديث عن تغيير في الموقف. فبعد امتناع الإمارات عن التصويت في مجلس الأمن على قرار إدانة موسكو، عادت وصوتت لصالح القرار الدولي في الجمعية العامة، وبالمثل قامت كل دول الخليج العربي بدعم القرار والتصويت لصالحه خلال جلسة الجمعية العامة. كما شاركت قطر والكويت في طرح مشروع القرار، ما يبدو عودة منهم إلى مقاعد التحالف مع الولايات المتحدة، التي رفعت من حدة التصعيد السياسي مع موسكو إلى مستويات عالية للغاية، لم نشهد لها مثيلاً منذ نهاية الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن الماضي.

بدورها، أصدرت مصر بياناً شديد الحياد حيال ما يحصل في أوكرانيا عند بداية الغزو الروسي، ثم عادت وأيدت القرار الأممي مع تحفظ البيان الصادر عن مندوبها في الأمم المتحدة على بعض الإجراءات المتخذة ضد روسيا، مثل العقوبات الاقتصادية التي اعتبرها البيان تؤدي فقط إلى الإضرار بالمدنيين والمواطنين العاديين. لبنان وليبيا أيضاً صوّتا لصالح القرار. وكانت ثلاث دول عربية قد امتنعت عن التصويت على القرار في الجمعية العامة، وهي الجزائر والسودان والعراق، فيما تغيّب المغرب عن الجلسة ولم يصوت. 

خلال الأسبوع الماضي اعتمدت التحليلات على عامل أو إثنين في تفسير الموقف الخليجي المتردد مما يجري من حرب في أوروبا وعدم مجاراتهم للموقف الغربي الذي صعّد في إدانة موسكو وفرض العقوبات عليها نتيجة العمليات العسكرية.

اعتمدت بعض التحليلات على مسألة المقايضة بين الإمارات وروسيا حول قرارات في مجلس الأمن، من خلال عدم عرقلة موسكو قراراً يدين الحوثيين في اليمن مقابل امتناع أبو ظبي عن التصويت فيما يخص قرار الإدانة المدعوم غربياً. لكنّ هذا السبب قد لا يفسر الموقف القطري أو الكويتي على سبيل المثال، وبالطبع لا يفسر الموقف المصري المتردد من اتخاذ موقف واضح حول ما يجري في أوكرانيا.

كما أُخذت بعين الاعتبار مسألة أهمية التحالفات في أوبك+، وهو تحالف يشمل الدول الأعضاء في منظمة أوبك (منظمة الدول المصدرة للنفط) مضافاً إليها عدد من الدول الأخرى على رأسها روسيا، وأهمية هذا التحالف بالنسبة للسعودية من أجل الحفاظ على استقرار أسواق النفط.

في الحقيقة، هنالك عدّة مستويات من التأثير، لعبت أدواراً مختلفة الأهمية بالنسبة لدول المنطقة بما يتعلق باتخاذ موقف واضح من عدمه بخصوص الغزو الروسي لأوكرانيا، قد تقترب من التحليلات السابقة وقد تبتعد عنها. ففي الموقف القطري، الحذر إلى حدٍّ ما، على الأقل في البداية، أرادت الدوحة الحفاظ على خط مع موسكو، أكبر الشركاء في نادي الدول المصدرة للغاز الطبيعي حول العالم، وما يعنيه ذلك بالنسبة للدوحة، التي يعتمد اقتصادها على تصدير الغاز الطبيعي المسال، من أهمية كبيرة.

في المقابل فإنّ طموح الدوحة في زيادة نفوذها ضمن السوق العالمية للغاز يصطدم بالدور الروسي، ما يضعها في موقفٍ متعارض مع موسكو على المدى البعيد ضمن هذا الإطار.

أما بالنسبة للإمارات والسعودية فإنّ الرغبة باستقرار أسعار النفط ليس السبب الوحيد لتردّدهما في اتخاذ موقف معادي لموسكو. هناك العديد من الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد بأنّ الرياض تريد بقاء أسعار النفط المرتفعة على وضعها الحالي. وكانت السعودية قد رفضت رفع حجم إنتاجها من النفط رغم ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية منذ ما قبل الغزو الروسي، عندما تأثرت أسواق الطاقة العالمية بزيادة الطلب بسبب ارتفاع مستويات التصنيع والنمو العالمية، وبسبب التوتر الذي سبق الغزو الروسي. لذا تجد السعودية نفسها في مثل هذه الظروف بحاجة ماسة إلى المداخيل الإضافية التي يوفرها ارتفاع الأسعار حالياً، خاصةً بعد انخفاض الأسعار خلال جائحة كوفيد-19 في الأعوام الماضية إلى مستويات قياسية، وانخفاض معدلات النمو العامة في السعودية والإمارات نتيجة آثار الجائحة والتوترات في الخليج مع إيران، بالإضافة إلى تكاليف حرب اليمن التي أنهكت الاقتصاد السعودي على مدى سنوات. ستكون السعودية بحاجة إلى مثل تلك الزيادات وغير راغبة بالتخلي عنها في سبيل مواقف أكثر تشدداً لصالح الولايات المتحدة ضد موسكو المستفيدة من ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، وسيكون لتخفيض أسعار النفط آثار اقتصادية كبيرة عليها خاصةً في ظل العقوبات وظروف الحرب الحالية.

كما قد يكون هذا الموقف رسالة خليجية، وسعودية بالأساس، إلى واشنطن نتيجة عدم اتخاذ الأخيرة مواقف متشددة من التعديات الإيرانية والحوثية، ومن الضربات التي تستهدف عمق الأراضي السعودية والإماراتية.

في المقابل، تمتلك الجيوش في الجمهوريات العربية شمال إفريقيا، تحديداً في مصر والجزائر وليبيا، علاقات تاريخية مع موسكو. ونتيجة سيطرة الجيش على الحكم، بشكل تام في مصر وكبير في الجزائر، فإنّ هذا التحالف التاريخي بين الطرفين وتوجس الجيش المصري من تراجع مبيعات السلاح الغربية إليه وحاجته إلى مصدر بديل للسلاح دفع لتلكؤ القاهرة في اتخاذ مواقف متشددة من موسكو. وعدا عن تصويته في الجمعية العامة لصالح القرار الذي يدين الغزو الروسي، لا يبدو أن النظام المصري سيقوم بردّات فعل كبيرة تثير استياء موسكو.

من جانبها، امتنعت الجزائر عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول القرار الذي يدين روسيا. تحتفظ الجزائر بعلاقات عسكرية هي الأقوى في المنطقة مع روسيا، حيث يعتمد الجيش الجزائري على السلاح الروسي بشكل كبير، كما أنّ علاقاته الأوروبية باتت أكثر تردياً بعد اتخاذ عدد من الدول الأوروبية المتوسطية مواقفاً داعمة للمغرب في الخلافات بين الطرفين، ما يعني مزيداً من ابتعاد الجزائر عن المواقف الغربية التي تتوجس منها قيادات الجيش الجزائري تقليدياً. هذا يضاف إلى أنّ قدرات الجزائر على رفع مستويات إنتاجها من الغاز الذي تصدره إلى أوروبا محدودة للغاية، حسبما صرح مسؤولون جزائريون، ما يعني عدم وجود أي منافع اقتصادية من اتخاذ مواقف مناهضة لروسيا في ظل عدم قدرتهم على الحلول محلها كمصدر رئيسي للغاز إلى أوروبا.

هناك عامل رئيسي قد يكون غير محسوس بالنسبة للمحللين الذين يبنون نماذجهم على الوقائع الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية وأنماط العلاقات التاريخية. في الحقيقة، تميل أنظمة هذه المنطقة إلى أن تكون شديدة الرجعية وشديدة التردد باتخاذ مواقف دبلوماسية واضحة حيال ما يجري في العالم، ويسيطر عليها دائماً الخوف من دفع أثمان، مهما صغرت، من مصالحها السياسية والاقتصادية الخاصة.

ويجب أن لا ننسى هوس هذه الأنظمة بمظاهر القوة والعظمة المصطنعة وإعجابها بها، إذ ليس من المصادفة أن يثابر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على افتعال مشاهد دخول إلى المؤتمرات والاجتماعات الرسمية مطابقة لما اعتاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقديهما، عندما تصوره الكاميرا يمشي وحيداً في ممرات طويلة مظهرةً إياه امبراطوراً وحيداً. هوسٌ نجد له شبيهاً في منطقتنا، وإعجابٌ لا يخجل بذلك النوع من الشخصيات التي تعبد مظاهر الفحولة والسيطرة، وهو ما شاهدنا أمثلةً عليه في علاقة قادة بعض دول الخليج ومصر مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

تريد أنظمة المنطقة مناكفة الولايات المتحدة، ومعاتبتها على تقصيرها فيما يرونه واجباتها تجاههم. قد تصطدم بواقع عدم قدرتها على التمادي كثيراً في هذه المناكفة، لكنّها تحتفظ بذلك الإعجاب السري أو العلني بصورة الدكتاتور الذي يغزو بلداً آخر متحدياً القوى العظمى. إنهم، بطريقة أو بأخرى، يشجعون صدامهم الجديد مستمعين ربما إلى أغاني تمجد ذاك الذي مضى.