لا تتيح تقنيات العالم الافتراضي المطوّرة حتى اللحظة تجربةَ العيش في عالمٍ موازٍ تماماً. وعلى الرغم من تسارع الاختراعات وتقدم التقنيات التي تتيح الكثير من الاستخدامات بدءاً من لعب لعبة الفيديو «Half-Life» الشهيرة لدى جيل الثمانينات في عالم ثلاثي الأبعاد، أو حتى إجراء عمليات جراحية عن بعد من قبل جراحين موجودين على بعد آلاف الكيلومترات، إلا أنّ تلك التقنية لم تنجح حتى اللحظة في تحقيق خطوات كبيرة تدفع مستهلكين عاديين إلى العيش خارج حياتهم، في حيوات أخرى وواقع مختلف كليّاً، لا زالت أنصاف الحلول التقنية التي تعتمد على الخيال البشري هي المسيطرة.
بطريقة ما، تدبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمره للعيش بتجربة متكاملة من العالم الموازي الذي يصنع فيه امبراطورية مزيفة، يريد لها أن تكون قوّة عظمى مجدداً. هذا العالم الموازي يمتلك خصائصه المستقلة وموازين القوى المنفصلة عن واقع عالمنا، لكنّه حقيقي في كثير من أوجهه، إذ إنّ المدنيين الذين تقتلهم غارات الطيران الروسي يموتون فعلاً في عالمنا وليس في عالمه الموازي فقط، كما أنّ الخسائر في البنى التحتية والدمار الذي يحلّ على المدن يحدث فعلاً في عالمنا، والصواريخ النووية التي يهدد بها موجودة في عالمنا أيضاً وليس في عالمه فقط.
إلّا أنّ عالم بوتين يستقلّ بخصائص لوحده أيضاً، فهو يرتبط أكثر بالصورة التي يجري تقديمها لروسيا في البروباغندا التي تقدمها وسائل إعلام تابعة لموسكو أو لأحد حلفائها في العالم؛ مثل القنوات والمحطات الإيرانية وتلك التابعة للنظام السوري أو المقربة منه: صورة بوتين الذي يركب الحصان من دون قميص معيداً أمجاد امبراطوريات من القرن الثامن عشر والتاسع عشر، أو صوره في لباس رياضة الجودو ملقياً الغرب الامبريالي وراء ظهر الدب الروسي الذي استفاق من سباتٍ دام لعقود. ذلك شيءٌ ستكون الجملة التي وصف بها بيان بشار الأسد غزو أوكرانيا تعبيراً دقيقاً عنه: «تصحيح لمسار التاريخ»؛ عبارة لا يمكن أن تتوقع قراءتها اليوم إلا خلال قيامك ببحث أكاديمي في التاريخ، لكنّها في عالم بوتين الموازي تقال اليوم، حيث الأزمنة تتماشى بشكلٍ موازٍ.
حتى اليوم الثاني من الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا ذلك العالم الذي صنعه بوتين خلال سنوات حكمه لروسيا الاتحادية -الوريث الأكبر للاتحاد السوفييتي- بدا ذلك العالم الافتراضي ممكناً للكثيرين، إلى درجة أنّ البعض تورط لسنوات في التبشير به، والتبشير بديستوبيا تصبح فيها روسيا يحكمها بوتين قوّةً عظمى من جديد، فيما خشي الكثيرون من تكذيبه أو الصياح بأنّ بوتين عارٍ تماماً (ليس من القميص وحده).
المرحلة الأولى: خطوات حذرة في العالم الجديد
لكن قبل أن نحاول تلمس شكل هذا العالم الذي يصنعه خيال عميل سابق لجهاز الاستخبارات السوفيتي KGB، يجب أن نعرف كيف وصلنا إلى هنا، وما هي الأحداث التي شجعت ديكتاتوراً يحكم دولةً لا يتعدى ناتجها المحلي ناتج دولة أوروبية أصغر في المساحة وعدد السكان وأقل في الموارد الطبيعية، لأن يتخيل نفسه امبراطوراً في القرن الحادي والعشرين؟
بدأ الرجل مسيرته المهنية كرئيس لروسيا بارتكاب جرائم حرب فظيعة في الشيشان التي كانت تنتفض للحصول على استقلالها عن موسكو، وفشل سلفه يلتسن لأعوام في الوصول إلى نهاية لأزمة دولته التي لا تريد إعطاء أية فرصة للجمهوريات الصغيرة بتقرير مصيرها. ذلك العنف الصرف الذي أدّى إلى تدمير شبه كامل لمدينة غروزني الشيشانية وتنصيب جهادي سابق عليها كرئيس دمية، كان نصر بوتين الأول في عالمه الموازي؛ نصرٌ اضطّر عالمنا الحقيقي لدفع أثمانه من أرواح المدنيين ومن جدران منازلهم.
سيتطور مخيال الرجل الذي لم يكن أصبح ستينياًّ بعد لرؤية أي قرارٍ مستقل تتخذه دولة في جوار روسيا من تلك التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي تهديداً لـ«الأمن القومي لروسيا»، ليقوم بتحركات عسكرية محدودة للغاية بالتوازي مع تحريض حركات انفصالية، كما جرى في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الجورجيَّين عام 2008، وتكرّر ذلك بعد الاطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش المقرب من الكرملين عام 2014، ليقوم صاحبنا الذي تعدّى الستين بغزوٍ محدود لشبه جزيرة القرم، التي كانت مقراً تاريخياً للأسطول السوفييتي في البحر الأسود، مستدعياً ميليشيات انفصالية في أقصى شرق أوكرانيا لتقوم بتقديم غطاءٍ سياسي لتلك الاعتداءات.
لم تحظَ الاعتداءات الروسية حتى تلك اللحظة بأي ردود فعلٍ صارمة من أوروبا الغربية والولايات المتحدة التي اكتفت بعقوبات لم تكن لتضعف مكامن قوة الاقتصاد الروسي تماماً، والذي يعتمد على تصدير النفط والغاز. وبعد نجاح بوتين في المرحلة الأولى ضمن لعبته لصناعة إمبراطورية قديمة من جديد، ومن دون أي خسائر كبيرة، كان الانتقال إلى المرحلة الثانية أمراً ممكناً، خاصةً وأنّ هذا الانتقال لم يُواجه بأيّة معارضة جديّة، فانتقل بوتين إلى سوريا. سيغير موازين القوى العسكرية لصالح بشار الأسد مقابل قاعدة على المتوسط، حُلم أسلافه الأباطرة القديم، هو الوحيد من حقّق ذلك سيقول لنفسه.
المرحلة الثانية: بطل جديد في البلدة
لن تنجح قوات روسية صغيرة بتحويل الموقف عسكرياً، فيستدعي بوتين التجربة الشيشانية، لتقصف طائراته بطريقة وحشية كل ما على الأرض، بالتوازي مع استخدام النظام للأسلحة الكيميائية، والقيام بعمليات تهجير واسعة للسكان، وجرائم حرب بالجملة، وقصف مركز يستهدف عن سابق قصدٍ وإصرار مواقع مدنية مثل المشافي والمدارس (كثيرٌ منها شاركت إحداثياتها الأمم المتحدة لتجنيبها القصف الروسي)، فانتصرت القوّة الصرفة لبوتين الذي أصبح متعلقاً أكثر بعالمه الموازي، ولم يرد أن يتراجع الآن، خاصةً وأنّه لم يتحمل أي خسائر تذكر حتّى اللحظة. لقد تغاضى الغرب عنه في سوريا إلى درجة التشجيع، حتى مع ارتكاب قواته كل تلك الجرائم البشعة. إذن الثمن كان صغيراً وقد يرى أنّ الغرب يتراجع تحت ضرباته الآن، ولم يعد أحد يستطيع فرض شيءٍ عليه بعد اللحظة. لقد أباد مدناً وقرى بكاملها ولم يتحرك أحد.
امتلك الطور السوري في العدوان الروسي عدّة تحولات لمشوار بوتين نحو استكمال إمبراطوريته المزيفة، إذ كان على موسكو تقديم رواية تستطيع التماسك لدعم عملياتها العسكرية وقصفها الجوي في سوريا، وهو ما ساهم إلى حد كبير في زيادة العمل وتنشيط أذرع البروباغندا الروسية حول العالم؛ على وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر قنوات مجانية ناطقة بعشرات اللغات حول العالم، ومن خلال شخصيات مشهورة ومغنين معروفين عالمياً. ضخٌّ هائل للمعلومات المضللة وأنصاف الحقائق والأكاذيب بشكل منظم ليعمل على تشويه أي حقيقة يمكن أن يخرج بها المتابع العادي حول العالم حول ما يجري في سوريا.
أصبح لكل حدث كبير رواية مضادة روسية، فجرائم ارتكبت باستخدام السلاح الكيميائي أصبحت فبركات من عمل منظمات مدنية سورية معارضة، ومذابح ومقاطع فيديو توثقها أصبحت إما ملفقة أو من زمان آخر ومكان آخر، وتقارير صادرة عن جهات دولية عالية المصداقية حول انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا أو عن مسؤولية النظام السوري عن استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين تصبح تقارير سياسية أو مسيسة أو متلاعب بها.
لم يقتصر الأمر في الدعاية الروسية على مجرد التشكيك وخلق رواية إعلامية أخرى على دأبِ إعلام النظام السوري بطريقة غير متقنة. بل من خلال عمليات استخباراتية لإرهاب وتخويف الشهود من الناجين، ومن خلال تلفيق أدلة وخلق بلبلة حول كل حادثة؛ مثل تسريب ويكيليكس لمراسلات شخصيات ادعت أنها شاركت في التحقيق حول استخدام السلاح الكيماوي في سوريا تنتقد التقرير النهائي، لنكتشف لاحقاً بأنهم مجرد شخصين لم يشاركوا في أي مراحل مهمة من العملية ولم يستمروا حتى النهاية فيها. هذا مثال من أمثلة كثيرة على عمليات تضليل منظمة واسعة النطاق تستهدف التشكيك بما يجري في سوريا لتصبح جرائم الحرب غير أكيدة وتصبح الحرب على المدنيين واقتلاعهم مجرد نزاع معقد لا يمكن فهمه.
هذا التناغم بين رواية رسمية روسية تدعي محاربة الإرهاب في سوريا، وهو ما يراد به أن تكون موسكو نظيرة للولايات المتحدة خلال الحلقات الأخيرة من حرب واشنطن على الإرهاب، وبين عمليات التضليل المنظمة التي قادتها شبكات موسكو العلنية وغير العلنية، وفر غطاءً جيداً جداً لتلك الجرائم التي كانت موسكو من خلالها تقوم بأمرٍ آخر، وهو استعادة سمعة أسلحتها عالمياً في أسواق العالم الثالث.
أصبحت وزارة الدفاع الروسية تنشر فيديوهات لعمليات القصف التي تنفذها بمختلف الأسلحة لا من أجل تغطية عملياتها المزعومة ضد المنظمات الإرهابية، بل بهدف إظهار مدى دقتها وتطورها. كانت فيديوهات صواريخ اسكندر وهي تستهدف المدنيين في سوريا مجرد مقاطع إعلانية للصناعة العسكرية الروسية، التي أشارت بيانات تصدير الأسلحة بأنّها استفادت بالفعل من تلك العمليات كترويج لها، وإن لا يمكن تحديد مدى تلك الاستفادة بمعزل عن ارتفاع منسوب التوتر في عدة مناطق في العالم، ما يؤدي إلى زيادة مبيعات الأسلحة بمعزل عن العوامل الأخرى.
وفي مقابل كل تلك الانتهاكات، لم يحصل أن واجهت موسكو أو بوتين أي مشاكل حقيقية. في الواقع الذي حصل هو أن الدول الغربية رفعت من وزن الدور الروسي في سوريا على الفور، وتفاعلت معه كأمر واقع مباشرةً، متقبلةً ذلك الحضور، ولم تتوانَ عن التصريح بأنّها لا تريد توجيه أي تهديد حقيقي له في المستقبل القريب أو البعيد. كان بوتين والأوليغارشيون من حوله مثل يفغيني بريغوجين يحصلون على العقود الاقتصادية لاستثمار ما تبقى من موارد في سوريا وتوقيع اتفاقيات طويلة الأمد بين حكومة النظام السوري وروسيا، تثبت وجود قواعد بحرية وجوية روسية في سوريا وتعطيها حقوق استثمار وإدارة الموانئ السورية في المتوسط.
هو تمادٍ غير مسبوق لروسيا خارج أراضيها، لم يكن ممكناً قبل سنوات قليلة. الآن بوتين أصبح لاعباً شديد الأهمية في منطقة ما من العالم وإن كانت على هامش الاهتمامات الدولية. كل ذلك لا بدّ بأنّه أوحى لفلاديمير بوتين بأنّ عالمه الموازي يمكن أن يتسع لامبراطوريته حقّاً، امبراطورية يجب كما يرى أن تضمّ -أولاً- كل الأراضي التي خسرها الاتحاد السوفييتي، وبهذا كان من الصعب على الرجل أن يتخيل ردّة فعل غير التي عهدها من الدول الأوروبية والولايات المتحدة. كانت سوريا العتبة الفاصلة قبل تخطيطه لغزو كييف.
المرحلة قبل الأخيرة: مرحلة الوحش
كل ذلك سيقودنا إلى الأسابيع الماضية، بعد أشهر من دخول الأوضاع في سوريا إلى حالة من السكون العسكري التي لم تعد تعطي بوتين جرعة العظمة الكافية لاستمرار عالمه الموازي، فكانت أوكرانيا على موعد مع تحركات عسكرية واسعة قامت بها القوات الروسية على الجبهات مع شرق أوكرانيا، وحتى مع شمالها في الأراضي البيلاروسية تحت حجة القيام بمناورات مشتركة يبدو أن الرئيس البيلاروسي أجبر على الموافقة عليها، وذلك بعد أن ضمن بوتين بأنّ ذلك الرئيس الذي كادت المظاهرات في بلاده أن تطيح به قد أصبح كما يحب بوتين؛ رئيساً دمية أو جندياً على خريطة المعركة التي ينصبها فلاديمير في عالمه الخاص.
وعلى الرغم من التصريحات الأميركية التي أذاعت تقارير استخباراتية عن نية بوتين القيام باجتياحٍ عسكريٍ واسع لأوكرانيا، كانت معظم التحليلات تقود نحو عمليات محدودة كالتي جرت في عامي 2008 و2014 لشرق أوكرانيا. ساعد في ذلك التضليل الروسي المستمر حول عدم وجود نيّة للغزو، والتصريحات عن سحب أجزاء من القوات العسكرية من الحدود مع أوكرانيا، قبل أن تبدأ بالفعل عملية الاجتياح التي لم تشمل محاور في شرق وجنوب شرق أوكرانيا فقط، بل حدودها الشمالية مع بيلاروسيا الأقرب للعاصمة كييف أيضاً، حيث بدا في الـ48 ساعة الأولى أنّ الجيش الأوكراني قد انهار أو تراجع تماماً أمام الضربات الروسية، وبأنّ دخول الروس إلى كييف أصبح مسألة وقت، هذا إن لم يكن قد حصل فعلاً بسبب تضارب الأنباء من خطوط القتال هناك، ولتسقط ثاني أكبر المدن الأوكرانية خاركيف شرق البلاد بيد موسكو.
يمكنك تخيل بوتين يجلس في غرفة كبيرة تحتوي مكتباً كبيراً وبسقفٍ مبالغ في ارتفاعه، يستمع لموسيقى المارش السلافي التي ألفها بيتر تشايكوفسكي في القرن التاسع عشر لتكون نشيداً للجنود الروس والصرب في معاركهم آنذاك مع الإمبراطورية العثمانية؛ شيءٌ شبيه باستلهام هتلر لموسيقى Ride of the Valkyries، وهي قطعة من أوبرا للمؤلف ريتشارد فاغنر حاول فيها استدعاء الروح القومية الألمانية في القرن التاسع عشر أيضاً.
يضع تلك الموسيقى على مكبرات ضخمة للصوت، وينظر مستنداً على يديه إلى خريطة على شاشة الكمبيوتر أو في خياله -لا فرق- إلى امبراطوريته وهي تكبر وتتسع، فلا أحد يستطيع إيقافه الآن. يأمر وزير الدفاع ورئيس الأركان بوضع القوات النووية في حالة التأهب القصوى مهدداً العالم أجمع بما يملكه من تركة الإمبراطورية السوفيتية للحصول على ما يراه حقّاً لروسيا تخلى عنه لينين وستالين وخروتشوف.
48 ساعة من التورط الروسي في عمليات غزو شاملة لجارته الأصغر أوكرانيا، كانت كافية لنرى أنّ هذه الإمبراطورية أو القوّة العظمى ليست موجودة بالفعل في عالمنا، إذ أكدّت تقارير صحفية تصريحات المسؤولين الأوكرانيين بأنّ جيش بلادهم استطاع استعادة خاركيف بعد معارك شوارع مع القوات الروسية الغازية، فيما لم تستطع موسكو دخول كييف التي كانت قد وصلت حدودها بعد ساعاتٍ من بدء الغزو، ويبدو الموقف الغربي الحاسم جداً لمعارضة اعتداءات بوتين هذه المرة سيكلفه الكثير من الخسائر.
أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم دوله أسلحةً لأوكرانيا، بما في ذلك طائرات مقاتلة في صفقات ممولة من الاتحاد الأوروبي نفسه، الألمان للمرة الأولى يتخذون قراراً حاسماً بإيقاف مشروع أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» والولايات المتحدة تتعهد بتقديم مزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، فيما الجميع يفرض عقوبات اقتصادية شديدة القسوة على روسيا، أخرجتها، جزئياً حتى الآن، من نظام تحويل SWIFT، وهو أكبر نظام دولي لإرسال واستقبال التحويلات النقدية بين البنوك في العالم. هذا إلى جانب العديد من الإجراءات التي قد تمتلك أثراً معنوياً، مثل إلغاء أحداث رياضية في موسكو ومنع عزف النشيد الروسي في مباريات كرة القدم، أو منع الطائرات المدنية الروسية من الطيران في الأجواء الأوروبية. يجد بوتين نفسه معزولاً تماماً هذه المرة ليس في عالمه الافتراضي منتصراً وحيداً، لكن في العالم الحقيقي يدفع أثمان ربما لم يتوقعها بعد كل التغاضي الغربي عنه طوال سنوات. لم يكن ليتوقع ذلك بالتأكيد، فما جرى في سوريا كان يشجعه على ذلك، حيث لم يهتم أحد بكل هؤلاء الضحايا، بمدنهم وبلادهم التي دمّرت، أو بتهجيرهم من دون أمل في العودة. ما الذي سيتغير في حالة أوكرانيا؟
من كتيب الثامن عشر من برومير الذي نشر أولاً كمقالة في مجلة الثورة الألمانية الصادرة من نيويورك عام 1852، اقتبس الكثير من الكتّاب جملة ماركس الشهيرة «التاريخ يعيد نفسه أولاً كمأساة، ومن ثمّ كملهاة سخيفة». بطريقة ما تدبر بوتين أمره هذه المرة أيضاً بأن يجمع المأساة والكوميديا السخيفة في استعادته للتاريخ في عالمه الموازي، والذي «تثقله تقاليد كل الأجيال الميتة ككابوس».