تمتدّ الحدود بين سوريا والأردن على مسافة 375 كيلومتراً، كانت خلال السنوات العشر الماضية مسرحاً لاضطرابات أمنية وعسكرية وطريقاً لعبور اللاجئين السوريين الفارين من العمليات العسكرية، إذ استقبل الأردن قبل إغلاق حدوده أمام  حركة اللاجئين عام 2016 مئات آلاف السوريين الذين تدفقوا إلى أراضيه، بلغ عدد المسجلين منهم حسب  أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بداية العام الحالي 673.188. كما تسبّبت الحرب في سوريا بخسائر كبيرة للاقتصاد الأردني جرّاء توقف الحركة التجارية البرية بين البلدين لفترات طويلة.

بعد انتفاضة آذار 2011، انحاز الأردن للمعارضة السورية، مع الحفاظ على علاقاتٍ ديبلوماسية بالحد الأدنى مع النظام. وبدأت التحولات في المنطقة الحدودية منذ الشهور الأولى للانتفاضة التي انطلق زخمها من محافظة درعا المجاورة للأردن. ففي الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2014، سيطرت المعارضة المسلحة على مساحات كبيرة من المناطق الحدودية في درعا والبادية، كما تأسست غرفة الموك التي ضمّت ممثلين عن أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية والفرنسية والعربية بهدف تقديم الدعم العسكري للمعارضة المسلحة وتدريب فصائل الجنوب السوري داخل قواعد عسكرية على الأراضي الأردنية. مع هذه التطورات، كانت القطيعة الدبلوماسية قد وصلت ذروتها بطرد السفير السوري في الأردن بهجت سليمان، بسبب ما قالت الحكومة الأردنية إنها «تحركات خارجة عن الأعراف الدبلوماسية» قام بها سليمان. ثم أغلق الأردن معبر جابر-نصيب بعد سيطرة المعارضة المسلحة على الجانب السوري منه، وأعلن في 2016 حدوده الشمالية الشرقية منطقة عسكرية مغلقة، وطبق فيها قواعد الاشتباك بعد عملية انتحارية نفذها تنظيم داعش ضد حرس الحدود الأردني. 

وفي صيف العام 2017، استعادت قوات النظام السيطرة على مساحة واسعة من الحدود المشتركة مع الأردن في البادية السورية، ثم في تسوية العام 2018 بسط النظام سيطرته على الحدود المشتركة جنوب محافظة درعا، بما فيها معبر نصيب، ليقرر الجانبان فتحه أمام الحركة التجارية. طرأ في هذه المرحلة انفتاح تدريجي كبير على العلاقات بين الأردن والنظام السوري، وصولاً إلى إجراء بشار الأسد في عام 2021 أول اتصال هاتفي بالملك الأردني عبدالله الثاني منذ قرابة عقد من الزمان.

تأهب أمني أردني

طوال السنوات العشر الماضية كان الأردن يعلن عن إحباط محاولات تهريب وضبط كميات من المخدرات على الحدود مع سوريا. ولكن منذ استعادة النظام السيطرة على معظم الحدود المشتركة عام 2018، أخذت وتيرة تدفق المخدرات تتزايد بحسب الأرقام الرسمية المُعلنة من الجانب الأردني. فقد أفادت وكالة الأنباء الأردنية بأنّ حرس الحدود ضبط عام 2020 نحو 1.4 مليون حبة كبتاغون، وأكثر من 15 مليون حبة مخدرة عام 2021، ونحو 16 مليون حبة في أول شهرين من 2022. وتشير هذه الأرقام إلى ازدياد لافت في عمليات التهريب على حدود الأردن الشمالية والشمالية الشرقية، التي تقول مصادر حكومية أردنية بأنها صارت تأخذ شكلاً «ميليشيوياً ومنظماً». 

في ليلة 27 كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، أعلنت القوات المسلحة الأردنية مقتل 27 مهرباً على الحدود السورية الأردنية، وهو تطور غير مسبوق جاء بعد أسبوعين على اشتباكات مع مهربين أدت لمقتل اثنين من قوات حرس الحدود الأردني وإصابة ثلاثة أخرين. وأثارت هذه الحادثة الرأي العام الأردني، فصرّح على إثرها وزير الخارجية أيمن الصفدي بأنّ بلاده أصبحت مستهدفة من تجار المخدرات. وسبق ذلك تأكيد رئيس هيئة الأركان يوسف الحنيطي تسخير كل إمكانيات الجيش للتعامل مع عمليات التهريب، وتغيير قواعد الاشتباك. ويظهر الإصرار الأردني على حماية الحدود والتعامل بصرامة مع جماعات التهريب من خلال زيارة الملك عبدالله الثاني يوم الاثنين 14 شباط (فبراير) الجاري للمنطقة العسكرية الشرقية، وتشديده بحسب مصادر أردنية رسمية على «ضرورة التعامل بقوة وحزم لمنع محاولات التسلل والتهريب».

ويُعد الهجوم الذي نفذه الجيش الأردني ضد جماعات التهريب في 27 كانون الثاني (يناير) الأول من نوعه على الحدود مع سوريا. ولم يُعلن الأردن حينها عن تفاصيل أكثر حول هوية المهربين، لكن وسائل إعلام أجنبية ومحلية سورية كشفت أن جميع القتلى ينحدرون من عشائر البدو في الجنوب السوري. وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن العديد من المفقودين ينتمون لعشيرة الرمثان، فيما أحصت شبكة السويداء 24 أكثر من ثلاثين مفقوداً من عشائر الجنوب السوري، بينهم 19 من عشائر السويداء، مشيرةً إلى أن عائلات البعض منهم أقاموا مراسم عزاء أبنائهم على نطاق ضيق. ويقول شقيق أحد المفقودين (فضل عدم ذكر الاسم) للجمهورية.نت إن «عدد المفقودين يفوق الأربعين، وقد وصلتهم معلومات من أقارب لهم في الأردن أن جميعهم في عداد القتلى». ترفض عائلة المفقود الذين تحدثنا إليهم، إلى جانب عائلات أخرى، إقامة مجلس عزاء له حتى اليوم، وذلك بانتظار وساطات عشائرية لاستلام الجثث من السلطات الأردنية. يقول المصدر إن شقيقه «لم يشارك سابقاً في أي عملية تهريب، لكن أحد أصدقائه أقنعه بأن عملية واحدة تكفي لانتشاله مع أسرته من الفقر».

مَن يهرّب المخدات ويقوم بتخزينها؟

تجنبت القوات الأردنية خلال السنوات الماضية قتل أعداد كبيرة من المهربين، وذلك نظراً للحساسية العشائرية، حيث تنتشر على جانبي الحدود السوريّة الأردنية عشائر بدوية تربطها صلات دم ومصاهرة. وتعتبر تلك العشائر العابرة للحدود، والمعتادة على التنقل في البادية الممتدة بين سوريا والأردن، من أكثر الفئات تهميشاً لناحية الاهتمام الحكومي بالخدمات والمرافق التعليمية والصحية. ورغم اعتماد العشائر على رعاية المواشي كمصدر رئيسي للدخل، يشكل التهريب مورداً للبعض من أفرادها بسبب ارتفاع مستويات الفقر. كما تساعد الخبرة التي يتمتع بها أبناء المناطق الحدودية بتضاريس البادية نتيجة ترحالهم المستمر خلال رعاية المواشي دوراً في توجه البعض منهم للانخراط في عمليات التهريب، كما يشجع المردود الكبير الذي تقدمه عمليات التهريب على العمل به.

ويُعتبر الجنوب السوري المرحلة الأخيرة في عمليات تهريب المخدرات إلى الأردن، ولا مؤشرات على وجود معامل لإنتاج المخدرات في المنطقة، حتى اليوم على الأقل، إنما تنتشر مراكز تجميع في بعض القرى الحدودية، أبرزها قريتا الشعاب وأم شامة، جنوب شرقي السويداء. ويتزعم أبرز شبكات التهريب في قرية الشعاب وجيه عشائري يدعى مرعي الرمثان، الذي يملك قصراً في قريته النائية يحيط به حرسٌ مسلحون، وذلك وفق شهادات حصلنا عليها من سكان محليين. ويستقطب الرمثان شباب العشائر في المنطقة لزجهم في الشبكة التي يديرها، ومهمتها تقتصر على عملية تهريب المخدرات، من مراكز التجميع في قرية الشعاب إلى الأراضي الأردنية. هذه المراكز عبارة عن بيوت سكنية قريبة من الحدود يجتمع فيها المهربون قبل الانطلاق إلى العملية. وتتشارك عمليات التهريب شبكات منظمة من العصابات والمجموعات المسلحة ذات الارتباطات الأمنية، وتلعب كل مجموعة أدواراً متعددة رغم أنها محددة، مثل حماية الطرقات وتأمين حمولة المخدرات في مناطق نفوذها. 

وتتركز معامل الإنتاج، غالباً، في لبنان وأرياف دمشق وحمص. وبعد الإنتاج تبدأ جماعات مسلحة متعددة الولاءات بنقل الحمولة ضمن مناطق نفوذها، بحيث يحصل تسليم دوري من مجموعة إلى أخرى، وصولاً إلى الوجهة النهائية في مراكز التجميع جنوب سوريا. وتعبر تلك الجماعات نقاط التفتيش بطرق مختلفة، منها الرشوة أو الارتباط المباشر بقوى أمنية وعسكرية تابعة للنظام مثل الفرقة الرابعة وشعبة المخابرات العسكرية. كما يتولى في بعض الأحيان متعاقدون مدنيون مع هاتين الجهتين عملية نقل المخدرات عبر الحواجز الأمنية. وعند دخول محافظة السويداء تنتهي مهمة المتعاقدين، حيث تستلم الحمولة لجماعات محلية مسلحة ذات نفوذ في مناطقها، وتنقل المخدرات إلى مراكز التجميع لتتولى شبكات جديدة داخلها عملية التهريب إلى الأردن.

طُرق التهريب على الحدود

تسلك شبكات التهريب ثلاث طرقٍ لترحيل المخدرات من سوريا إلى الأردن، تختلف عن بعضها باختلاف المنطقة وطبيعة تضاريسها. ففي جنوب محافظة درعا يستغل المهربون حركة التبادل التجاري في معبر جابر-نصيب، لنقل المخدرات داخل شاحنات نقل البضائع عبر إخفائها في مخابئ سرية أو حشوها بين البضائع. وفي 7 شباط (فبراير) الجاري، أعلنت الجمارك الأردنية إحباط كوادرها في مركز جمارك جابر محاولة تهريب حبوب مخدرة من نوع كبتاغون تقدر كميتها بمئتي ألف حبة.

أما المناطق الحدودية جنوب السويداء، حيث لا تتواجد أي معابر رسمية، يقول أحد أبناء العشائر (رفض ذكر اسمه) للجمهورية.نت: «تستغل عصابات التهريب التضاريس الصعبة وانتشار الوديان، مثل وادي خازمة، ولا تتحرك إلا في الأجواء الضبابية التي تضعف الرؤية فيها، وعندها يتسلل المهربون إلى الأردن سيراً على الأقدام، وفي مجموعات يتراوح عدد أفرادها بين 15 و20 شخصاً. حيث ينقل كل مهرب حمل مخدرات يزن حوالي 30 إلى 35 كيلوغراماً، ويلبسه كسترة شتوية. وتتألف الحمولة عادةً من الكبتاغون والحشيش والترامادول والكريستال ميث». ويتقاضى المهرب الواحد ما بين 8-10 آلاف دولار إذا نجح في إيصال حمولته إلى منطقة في الداخل الأردني تبعد عن الحدود مسافة 1 كم تقريباَ، حيث يسلمها لأشخاص أردنيين ويعود إلى سوريا. ويرافق كل مجموعة شخصان مسلحان على الأقل، مهمتهما إطلاق النار والتغطية على أفراد المجموعة الذين يتخلصون من حمولتهم في حال حدوث أي اشتباك مع حرس الحدود، ويفرّون باتجاه الأراضي السورية. 

الطريقة الثالثة تعتمد على نقل المخدرات بواسطة سيارات دفع رباعي تحمل كميات كبيرة من المخدرات، وأحياناً الأسلحة. تتبع عصابات التهريب هذا الأسلوب في البادية السورية-الأردنية التي تُعد المسافة الأطول للحدود المشتركة، ويسهل فيها هامش المناورة. وفي ليلة 11 شباط (فبراير) الجاري أعلن الأردن عن إحباط المنطقة العسكرية الشرقية، في عمليات متزامنة في عدة مواقع، محاولات تسلل قام بها مجموعة من الأشخاص الذين يقودون آليات لتهريب كميات كبيرة من المواد المخدرة والأسلحة القادمة من الأراضي السورية. ونشرت القوات المسلحة الأردنية على صفحتها في فيسبوك صوراً لمخدرات وأسلحة وسيارات صادرتها خلال العملية، وقالت لاحقاً إنها اكتشفت جثتين للمهربين بعد تمشيط المنطقة. 

قرى سكنية في دائرة الخطر

تتعرض قرى حدودية مأهولة بالسكان، أقصى جنوب السويداء، إلى سقوط رصاص متفجر كُلما استهدف حرس الحدود الأردني عصابات التهريب التي تحاول تجاوز الحدود. وأكثر القرى تضرراً هي المغيّر وخربة عواد والعانات. ويصيب الرصاص المتفجر بعض البيوت والمدارس ويهدد حياة السكان، الذين نزح قسم منهم إلى مناطق أكثر أمناً. ومع تغيير الأردن لقواعد الاشتباك مؤخراً، تزايد معدل الخطر، وباتت المنطقة تشهد سقوط قذائف بين حين وآخر. ورغم مناشدات السكان المتكررة للنظام السوري بوقف عمليات التهريب، فإن أجهزته لا تُبدي أي اهتمامٍ، بل إنها تتركهم يتنقلون بأريحية تامّة في المنطقة عبر الحواجز ونقاط التفتيش الأمنية. ويقول رامي غرز الدين من سكان خربة عوّاد التي تبعد مئات الأمتار عن الأردن إن قريته «تتعرض لإطلاق نار عشوائي من الجانب الأردني عند الاشتباه بأي محاولة تسلل على الحدود»، مشيراً إلى أن الأهالي حُرموا من زراعة أراضيهم القريبة من الحدود أو رعاية المواشي فيها بسبب الاستهداف المتكرر لهم. وفي أواخر العام الماضي نفقت عشرات رؤوس الماشية المملوكة لأهالي القرية جراء إطلاق النار من حرس الحدود الأردني. حينها تجمع عدد من الأهالي الغاضبين قرب الحدود، ودارت مشادات كلامية مع حرس الحدود الأردني، ثم تدخّل جهاز المخابرات العسكرية في مفرزة صلخد، متعهداً بنقل مطالب الأهالي والتنسيق مع الأردن عبر ضباط الارتباط لعدم تكرار الحادثة.

ورغم هذه الوعود، فقد تجدد استهداف القرية عدة مرات، آخرها ليلة 11 شباط (فبراير)، إذ اخترق الرصاص المتفجر البيوت المواجهة للحدود. يعلق غرز الدين على ذلك بالقول: «يُدرك أهالي المنطقة أن الجيش الأردني لا يطلق النار عليهم بشكل مقصود، إنما يحاول حماية حدوده في ظل تواطؤ من الجانب الأمني السوري، إذ أن حرس الحدود التابع لقوات النظام لا يتدخل على الإطلاق، ويكتفي بالمراقبة دون أن يعترض محاولات التهريب».

الجانب السوري: التورط والتقصير

ينتشر حرس الحدود السوري في مخافر ونقاط متوزعة على طول الحدود السورية الأردنية باستثناء منطقة نفوذ التحالف الدولي، وتفصل بين نقاط حرس الحدود مسافة تتراوح بين 3 و5 كيلومترات، غير إنها لا تبدي أي فعالية في التصدي للمهربين. ويقول عنصر من حرس الحدود التابع لقوات النظام للجمهورية.نت: «إن ضعف الإمكانيات وعدم توفر تقنيات رصد ومراقبة يجعل وجودهم في المنطقة بلا فائدة، على عكس القوات الأردنية المجهزة بتقنيات حديثة». ويصف العنصر وجوده العساكر السوريين في هذه المنطقة بـ«المعاناة القاسية؛ إذ يضطرون يومياً للمناوبة في كمائن خارج محارسهم، لا سيما في الأجواء الشتوية، مع تعرض نقاطهم، أسوةً بالبيوت السكنية القريبة، لإطلاق نار عند أي اشتباك بين المهربين وحرس الحدود». ويتابع العنصر: «لا نجرؤ على إطلاق النار دون تعليمات، وحتى إن طُلب منا التعامل، فإن أيدينا المرتجفة من شدة البرد، قد لا تقوى على تلقيم السلاح». وفي أواخر العام الماضي 2021، قُتل جندي سوري من حرس الحدود جراء الاشتباكات في المنطقة، وبعد ذلك تجولت قوات روسية في النقاط الحدودية للاطلاع على متطلبات حرس الحدود، وقدمت وعوداً لهم بتقديم تجهيزات ومعدات، لكنها غادرت دون عودة. يؤكد العنصر أن القوات الروسية «تجري جولات بين حين وآخر، ولكنها لا تُقدم إلا الوعود».

وفي مقابل هذا التقصير، تكشف العلاقات القوية بين متزعمي شبكات التهريب ومسؤولين في أجهزة المخابرات السورية في المنطقة الجنوبية عن تورطها في دعم هذه الشبكات. فقد أجرى مرعي الرمثان، أبرز متزعمي شبكات التهريب، احتفالاً داعماً لبشار الأسد في قريته العام الماضي، وحضر الاحتفال مسؤولون في أجهزة أمنية. ولم يكن هذا الظهور العلني الأول لمسؤولي المخابرات في ضيافة متزعمي شبكات التهريب، ففي عام 2020 تداول ناشطون صوراً لحضور قادة الفروع الأمنية في محافظة السويداء مجلس عزاء لأحد أبرز مهربي المخدرات من عشائر منطقة المقوس في السويداء. وتسهم هذه العلاقات في منح غطاء أمني لمتزعمي شبكات التهريب، وهذا ما يفسر تنقلهم بحرية تامة في مناطق سيطرة النظام.