«نهشت جَسدي الكلاب في ظلام الليل»، هكذا يصف رضوان بكور من قاطني مخيم «نحن معاً» بريف إدلب ما حصل معه قبل أيام، حين هاجمته مجموعة كلابٍ في الليل خلال ذهابه إلى دورات المياه، فالظلام الدامس في المخيم، كحال معظم مخيمات الشمال السوري، ضاعف مأساة النازحين الذين يعيشون أقسى أنواع المعاناة يومياً منذ غياب الشمس حتى طلوعها.

ما أن تغيب خيوط أشعة الشمس حتى يُخيّم الظلام على أرجاء مخيمات شمال غرب سوريا، نتيجة غياب مصادر الإنارة، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبةٍ كبيرة في تنقّل النازحين، الذين طالبوا المنظمات العاملة في المنطقة بتركيب ألواح طاقةٍ شمسية لإنارة شوارع المخيمات، كي يستطيعوا التنقّل بأمان، وليطمئنوا على أنفسهم وممتلكاتهم، ويتجنبوا الحُفر وبرك الطين والمياه.

لا تولي المنظمات الإنسانية اهتماماً لمسألة تأمين الكهرباء للمخيمات، وينصب تركيزها في الغالب على تقديم المساعدات الإغاثية والمياه، والقيام ببعض الخدمات كالصرف الصحي وإصلاح الطرقات والبنى التحتية.

الكلاب تتربّص بالنازحين

تعيش عائلة «رضوان بكور» مأساةً حقيقية كل ليلة، فلديه زوجة وثلاثة أطفال، وجميعهم يواجهون مصاعب جمّة. يشرح رضوان ما حصل معه قائلاً: «أنا معتادٌ على أداء صلاة الفجر كل يوم، لكني أعاني من الكلاب الشاردة التي تعترض طريقي حين أتجه لدورات المياه التي تبعد عن خيمتي قرابة مئتي متر».

يضيف رضوان للجمهورية.نت: «قبل أيام هاجمني ثلاثة كلاب خلال ذهابي لدورات المياه. حاولت كثيراً التلويح لها بالعصا، لكنها لم تبتعد وازدادت شراسةً، وفجأةً قفز كلبٌ نحوي فأسقطني أرضاً، لتسارع بقية الكلاب الى نهش جسدي. صرخت عالياً من شدة الألم، وفي ذلك الوقت أسرع مجموعة من الجيران نحوي، ما دفع الكلاب للهروب فوراً».

وتابع رضوان قائلاً: «الوضع المعيشي المزري للنازحين وغلاء المحروقات جعلوا الغالبية لا يُحركون آلياتهم سوى لقضاء حوائجهم الضرورية، لدرجة أني بقيت أكثر من ساعة أصرخ من الألم، وعائلتي تستغيث طالبةً سيارة لإسعافي، لكن لم يستجب أحد، الى أن مرّت سيارة عابرة بجانب المخيم، قامت بنقلي إلى أقرب نقطةٍ طبية، حيث حصلت على المصل المضاد لعضّات الكلاب».

الفقر المدقع الذي يعيشه قاطنو المخيمات منعهم من رمي أي قطعة طعام في النفايات، وبالتالي لم تعد الكلاب تجد ما تأكله كما كان الحال سابقاً، ما يدفعها لمهاجمة البشر في الليل، خاصةً الأطفال والنساء باعتبارهم فريسةً سهلة، مستغلةً الظلام الدامس، حيث يتعرض النازحون لهجوم الكلاب التي تتبع روائحهم، إذ سُجّلت الكثير من حالات الإصابة بعضّات الكلاب في عدة مخيمات.

المعاناة تتفاقم في ليالي الشتاء

ليالي النازحين في الشتاء أشد قسوةً بكثير من ليالي الصيف، وما يُضاعف معاناتهم أكثر غياب مصادر التدفئة، إضافةً الى خوفهم من تسرّب مياه الأمطار إلى خيامهم وهم نائمون.

العتمة الشديدة وغياب وسائل الإنارة، زادت مأساة النازحين في الليل. الطفلة هديل هي ابنة رضوان بكور، عمرها تسع سنوات وهي طالبة في الصف الرابع الابتدائي، لكن تحصيلها العلمي تراجع كثيراً، فغياب الكهرباء يمنعها من الدراسة ليلاً، ورغم ذلك كانت تُجبر نفسها على متابعة دروسها على ضوء الشمعة، لكن ذلك أدى لتراجع حدّة بصرها، وهي تستعمل اليوم نظارةً طبية.

أوجاع النازحين لم تقف عند هذا الحد، بل هناك مشاكل أخرى تواجههم في الليالي الشتوية، والتي تحدثت عنها أم هديل بكور، حيث قالت: «المخيم كغيره من المخيمات يتواجد ضمن أراضٍ زراعية، ولم يتم تزفيت طرقاته، لذلك السير فيه شتاءً صعب للغاية، حيث نغرق في الوحل والطين».

تضيف السيدة: «تعثرت الأسبوع الماضي خلال ذهابي ليلاً إلى خيمة أختي المجاورة، ما أدى إلى كسرٍ في قدمي. وقبل شهرين سقطت قطعة ذهب من أذن ابنتي أثناء ذهابنا ليلاً إلى دورات المياه، ولم نستطع العثور عليها. تملكني القهر، فسعرها يبلغ 500 ألف ليرة سورية».

من جانبه، يحرص الدفاع المدني السوري على الاستجابة لأي حالاتٍ طارئة تصيب النازحين ليلاً، لكنه يصطدم ببعض العقبات، والتي تحدثت عنها الصيدلانية فاطمة ككو، المسؤولة الرئيسية عن شؤون الشهداء والمصابين بالدفاع المدني قائلةً: «أصعب ما يواجه فرق الدفاع المدني في حال الاستغاثة عند وقوع أي إصابة أو حريق أو قصف يستهدف النازحين، هو الوصول إلى موقع الحدث في أقرب وقت ممكن، ولا سيما في ظل وعورة الطرقات، وخاصةً في الشتاء، وبُعدها على الطرقات الرئيسة والأماكن الحيوية، إضافةً إلى بُعد المشافي عن المخيمات، فانقطاع الدعم وقصف نظام الأسد وروسيا، تسبّبوا في إغلاق الكثير من النقاط الطبية القريبة من المخيمات».

وأضافت فاطمة للجمهورية.نت أن «بعض الحالات الإسعافية تكون في أماكن لا يمكن لسيارة الإسعاف دخولها في الليل، بسبب وعورة الطريق أو رصد النظام للطرقات، ما يجعل فرقنا تضطر لاستخدام الدراجات النارية لإسعاف المصابين، كما تعاني أيضاً فرق الإسعاف في الدفاع المدني أثناء حالات القصف من التجمع الذي يحدث بالقرب من مكان القصف، ما يُشكل صعوبةً في عملية الإسعاف والوصول في الوقت المحدد».

بدوره، أفاد عبد السلام اليوسف، وهو مدير مخيم التح بريف إدلب، أنه «في حال إصابة أي نازح ليلاً، كتعرضه لكسر نتيجة انزلاقه بسبب الظلام نتصل فوراً بالدفاع المدني، وفي حال كانت سيارة الإسعاف لديهم مشغولة، نحاول تأمين سيارة خاصة لنقل الحالة الإسعافية، لكن المشكلة أنه ليس هناك نقاط طبية قريبة، ونضطر للتوجه الى مشفى معرتمصرين، ويستغرق الأمر حوالي نصف ساعة». 

وأشار اليوسف الى أن «أغلب الخيام عشوائية، ودورات المياه موزعة بشكلٍ غير عادل، كما أنه ليس هناك سور يحيط بالمخيم، ما يؤدي لتعرّض النازحين لهجوم الحيوانات المفترسة خلال ذهابهم الى الحمامات، إضافةً لحدوث حالات اختطاف لفتيات ونساء أثناء التنقّل ضمن المخيم أو من قطّاعٍ إلى آخر ليلاً، حيث يستغل الخاطفون الظلام الشديد».

الذهاب لدورات المياه همٌّ كبير

التنقّل في الليل يعتبر مشقة كبيرة على النازحين، مع غياب الإنارة في أغلب المخيمات، لذا تلتزم العائلات خيامها مع غياب الشمس، ومن يُضطر للخروج يصطحب معه الشمعة أو القداحة لإنارة طريقه قدر الإمكان.

أم لؤي المصري مهجّرة من دوما وتقطن في مخيم القاهرة غربي إدلب، تسرد معاناتها للجمهورية.نت قائلةً: «مع غياب الإنارة في المخيم، أصبحت الليالي التي ينيرها القمر المكتمل الملاذ الآمن للنازحين للتنقّل في الليل، أما باقي الليالي فتغرق في ظلامٍ دامس، لذا عند الذهاب إلى الحمامات التي تبعد عن الخيمة حوالي 150 متراً، أنادي على جاراتي لنشكّل مجموعة ونذهب سويةً مع الأطفال، خوفاً من الخطف أو السرقة أو التحرّش في الطريق».

تضيف أم لؤي وهي أرملة لديها أربعة أطفال: «الذهاب الى دورات المياه ليلاً هم كبير، لذا بعض الأسر حفرت حفراً للصرف الصحي جانب خيامها للتخلص من مأساة الذهاب إلى الحمامات البعيدة عن الخيام ليلاً، لكن تلك الحفر الفنية تصدر روائح كريهة تُزعج قاطني المخيم، حيث إن المنظمات تتأخر كل مرة في عمليات شفط تلك الحفر».

مصادر الإنارة في المخيمات

لم تفلح المناشدات المتكررة من النازحين وإدارات المخيمات للمنظمات بضرورة دعم ملف الكهرباء، ويقول مدير مخيم التح: «قررنا الاعتماد على أنفسنا، حيث طلبنا من كل عائلة أن تضع إنارة أمام خيمتها، وبالفعل استجابت بعض الأسر لفترة، لكن سرعان ما تدهور المشروع، في ظل فقر العائلات التي بالكاد تؤمن قوت يومها».

ويعتمد معظم النازحون في إنارة خيمتهم أو كشف طريقهم ليلاً على الشمعة أو المصباح الصغير (البيل) أو القداحة، كما يستخدم البعض مصابيح الكاز، ويبلغ سعر ليتر الكاز عشر ليرات تركية، ويكفي لتشغيل المصباح مدة أسبوع.

أعداد قليلة من النازحين استخدموا الطاقة الشمسية ضمن الخيمة، لتأمين الإضاءة وشحن الهواتف وتشغيل بعض الأدوات الكهربائية. يقول ناصر عبود، وهو نازح في مخيم الكرامة بريف إدلب: «فكرت باستخدام الطاقة الشمسية، لكن حين استفسرت عن الأمر، تفاجأت أن تأمين المعدات اللازمة أمر مكلف فتراجعت عن الفكرة».

يضيف عبود: «يتطلب توليد كهرباء عبر الطاقة الشمسية، بما يكفل بتشغيل الإضاءة وبعض الأدوات الكهربائية الخفيفة كالتلفاز والشواحن إلى تركيب لوحَي طاقة شمسية جانب الخيمة، يبلغ سعر اللوح الواحد من 150 إلى 200 دولار، وبطارية 100 آمبير بـ75 دولار، ورافع جهد (إنفرتر) بـ125 دولار، ما يعني أن التكلفة الكاملة مع أجور التركيب والأكسسوارات اللازمة تصل إلى حوالي 350 دولار، أي ما يعاد 4700 ليرة تركية، وهذا مبلغ ضخم للغاية، فأجرة العامل حالياً لا تتجاوز 30 ليرة تركية يومياً».

المولدات الكهربائية كوسيلة لتأمين الإنارة في المخيمات كانت أقل الوسائل استخداماً من قبل النازحين، نظراً لتكلفتها الباهظة، التي تزداد يومياً مع ارتفاع أسعار المحروقات بالتزامن مع تراجع قيمة الليرة التركية، حيث يتطلب تشغيل المولدة لساعة واحدة ليتراً ونصف من البنزين أو المازوت، بتكلفة تبلغ 15 ليرة تركية.

السرقات تنشط ليلاً

من المشاكل التي تقض مضجع قاطني المخيمات انتشار السرقات في الليل، حيث يستغل السارق الظلام الدامس للسطو على الخيم. يقول الحاج أبو ياسر (75 سنة) من قاطني مخيم عائدون بريف ادلب: «نعاني من السرقات في المخيم، فقبل أيام استغل لص خروج ابن أختي وزوجته من الخيمة، وسرق اسطوانة غاز وقطعة ذهب ومونة كاملة».

وأوضح أبو ياسر أن «السرقات تتم في الليل حصراً، حيث يدخل اللص من الطرف الذي تكون فيه الخيمة مجاورة لخيمة أخرى حتى لا يراه أحد، ومن ثم يفتح ثقباً في الخيمة عبر أداةٍ حادة ويدخل فوراً ليسرق أي شيء أمامه، حتى إن بعض اللصوص اقتحموا خيم أصحابها وهم نيام، وسرقوا منها بعض الأشياء».

زيادة السرقات دفعت النازحين للجوء إلى عدة حلول، أبرزها التناوب فيما بينهم على الحراسة، ففي كل ليلة يتطوع شخصان للتجول بين أرجاء الخيام ومراقبتها لمنع اقتراب أي سارق، لكن هذا الحل ليس مجدياً في الشتاء، فالبرد القارس يُجبر النازحين على المكوث داخل الخيمة.

بعض الأشخاص الذين يضطرون لمغادرة الخيمة ليلاً، باتوا يوصون جيرانهم بالانتباه إلى خيمتهم. ويقول منصور شيخ تلت، من قاطني مخيم الشيخ بلال في ناحية راجو بعفرين: «كل واحد اللهم أسألك نفسي، فمن سيخرج من خيمته في هذا البرد لمراقبة خيمة غيره؟ لذا أغلب العوائل تفضّل المكوث في خيمتها ليلاً وعدم الخروج منها، خوفاً من السرقات التي زادت في ظل الوضع المعيشي المزري، الذي دفع بعض ضعاف النفوس للسرقة بحثاً عن لقمة العيش».

غياب الإنارة يُجبر أصحاب المحلات التي تعمل ضمن المخيمات على الإغلاق بمجرد غياب أشعة الشمس. أبو صطيف يمتلك محلاً صغيراً في مخيم زوغرة بريف جرابلس، لكن الظلام الشديد يُجبره على إغلاق المحل منذ الساعة الخامسة مساءً، حيث تكون ساعات النهار قصيرة في الشتاء، ما يؤثر على مردوده المادي.

يقول أبو صطيف: «ليس لديّ القدرة على تأمين الكهرباء للمحل، فالمحروقات اللازمة لتشغيل المولدة باهظة الثمن، إضافةً الى غلاء تكلفة تركيب ألواح الطاقة الشمسية، فضلاً عن انخفاض فاعليتها في الشتاء، وحتى لو قررتُ تأمين الكهرباء فلن أستفيد كثيراً، لأن العوائل تمكث في خيامها بمجرد غياب الشمس، وتصبح الحركة شبه معدومة في أرجاء المخيم، كما أن الظلام شجّع بعض اللصوص على سرقة بضاعتي أكثر من مرة».

استمرار غياب الإنارة ومصادر التدفئة في المخيمات، يضع النازحين أمام تحدٍ كبير، ما يُعرّض حياتهم للخطر ويجعلهم يعيشون في جحيم ليلاً ونهاراً، وهذا يتطلّب من المنظمات الإنسانية أن تعيد دراسة أجنداتها، وتعطي أولوية لمسألة توفير الكهرباء للمخيمات، فهي جزءٌ من أساسيات الحياة، شأنها شأن الخبز والمساعدات الإغاثية.