ما عاد يُخفى على أحد أن التشديدات الطارئة في الفترات السابقة على سياسات الحكومة الدنماركيّة فيما يخصّ مسألة الهجرة واللجوء قد جعلت من الدنمارك واحداً من أكثر البلدان الأوربيّة عداءً للجوء وسياسة الحدود المفتوحة أمام «المهاجرين غير الشرعيين». ومن المعلوم أيضاً أنّ الحكومة الدنماركيّة قامت في العام الفائت بــ «إعادة تقييم» لوضعيّة اللاجئين السوريين، لا سيما المُنحدرين من محافظتي دمشق وريف دمشق، حيث قرّرت إثرها أنّ الحياة في دمشق وريفها قد غدت «آمنة»، ما يعني تاليّاً انتفاء حاجة القادمين من هذه المنطقة إلى «حقّ الحمايّة واللجوء». وقد تلقّى بالفعل عددٌ من اللاجئين السوريين رسائل من الحكومة الدنماركيّة تُعلِمهم فيها، ببلادةٍ وبرودٍ بيروقراطي، أن إقاماتهم قد انتهت ولن يتم تمديدها. وبتتبع سياسات الهجرة واللجوء الدنماركيّة، لاسيما بعد التعديل الذي أقرّه الديمقراطيون الاشتراكيّون عام 2019، نلحظُ أنّها أخذت منحى نفعيّاً مُتجاوزاً للقيمِ الإنسانيّةِ المُجرّدة، خاصة حين تعلنُ الحكومة الدنماركيّة أنّ خطتها القادمة هي «منع وصول أي لاجئ إلى البلادِ» وبلوغ وضعيّة «صفر لاجئين»؛ ويتبدى ذلك بصورةٍ أوضح حين يتعلّق الأمر باللاجئين المُسلمين، وتحديداً القادمين من الشرق الأوسط، كما يُشيرُ وزيرُ الهجرة والاندماج الدنماركيّ، ماتياس تسفاي، في أكثرِ من مناسبة.
فيما يلي سيُسلَّطُ الضوء على بعضِ آراء وزير الهجرة والاندماج الدنماركيّ اعتماداً على مقابلةٍ أجرتها معه مؤخراً صحيفة نويه تسوريشر تسايتونغ؛ هذه الجريدة التي راحت، بكلّ أسف، تفقدُ طابعها الليبراليّ العريق لتكتسي شيئاً فشيئاً حلّة يمينيّة مُحافظة.
وفي البدء لابدّ من ذكرِ أنّ السيرة الشخصيِّة لوزير الهجرة والاندماج الدنماركي، ماتياس تسفاي، تفاجئ المرءَ مرّتين؛ مرّةً لأنّه مولود سنة 1981 للاجئ أثيوبيّ وصل في مقتبل السبعينيات إلى الدنمارك، ومرّة أخرى لأنّه كان في السابق متدرّباً في مجال البناء وناشطاً شيوعيّاً فعّالاً في الشأن العامّ، وذلك قبل أن تخفّ حدّة «ثوريّته» ويلتحق في العام 2012 بحزب الاشتراكيين الديمقراطيين الحاكم، ويصبح لاحقاً أحد المُساهمين في التحوّل الراديكاليّ الذي طرأ على سياسات الحزب الاشتراكي الديمقراطي الدنماركيّ، لاسيما فيما يتعلّق بمسألة الهجرة واللجوء والانغلاق على الذاتِ في وجه بشرٍ منكوبين وفي عوزٍ إلى حياة كريمة. أن يكون الوزيرُ الشّابُ اشتراكيّاً ديمقراطيّاً ونشطاً في المجال العامّ، أي أن يكون ناشطاً وسياسيّاً «يساريّاً» كما يصفُ نفسه، وابناً للاجئ فرَّ في سبعينيات القرن المنصرم من بلاد منكوبة؛ ويكون، في الوقت عينه، واحداً من أشدّ الناقدين لسياساتِ الهجرةِ واللجوءِ في أوروبا، باعتبارها شديدة «التسامح» مع المهاجرين غير الشرعيين القادمين من بلدان مُحطّمة، فهذا ما يثُير العجب، وبالطبع السخطَ أيضاً.
في معرضِ ردّه على استفسارِ جريدة زيورخ الجديدة، التي راحت بدورها تفقد طابعها الليبراليّ العريق لتكتسي شيئاً فشيئاً حلّة يمينيّة مُحافظة، حول انتقادِ الاشتراكيّين واليساريّين الألمان شديد الحديّة لـ «طريقته العنصريّة» في التعاملِ مع ملف اللجوء في بلده، يذكرُ الوزيرُ الشّابُ، مدّعياً المُزاح، بأنّه يقرأُ الصحافة الألمانيّة بصورة يوميّة، لاسيما صحيفة بيلد، لكن فقط قسم الرياضة فيها. لكن يبدو أنه بالفعل مُتابعٌ للصحافة الألمانيّة واختياره لصحيفة بيلد مُناسبٌ تماماً لتوجهاته السياسيّة والاجتماعيّة الراهنة، فهذه الصحيفة معروفة بطابعها الشعبويّ وكثيراً ما تتناولُ قضايا اللاجئين والهجرة بنبرةٍ استعلائيّة تحريضيّة.
غير أنّه يعود بعد ذلك ليُضيف، مُحاولاً الردّ «بجديّة» على السؤال السابق، أنه قد درس تاريخ الهجرة في الدنمارك وأدرك أنّ اليسار الدنماركي كان متوجّساً ومتشكّكاً حيال مسالة الهجرة، خاصة في ستينيات القرن المنصرم، وأن اليمينيّن هم من أرادوا حينها فتح الحدود أمام العمالة الغريبة. من ردّه الآنف يتبدّى تمسّك الرجل بـ «يساريّته» فيروح مدافعاً عنها بإحالة «جرم» فتح الحدود أمام العمالة الغريبة في الستينيات إلى «اليمين الدنماركيّ»! هذا النمط من اليساريين الواقفين، في الواقع، على «يمين اليمين» في مسائل اللجوءِ والهجرةِ وغيرها، ليسوا غريبين عن الحياة السياسة الغربيّة بالعموم، وليس من النادر أن يكون هؤلاء من خلفية مُهاجرة، كما هو حال السياسيّة الألمانيّة اليساريّة زهراء فاغنكنيشت، القيادية في الحزب اليساري الألماني والمولودة لأبٍ إيراني وأم ألمانيّة، والتي تطرحُ، من حين لآخر، مواقفاً إشكاليّة تقتربُ، في نزعتِها الشعبويّة، من مواقف حزب البديل اليميني المُتطرّف.
وبالعودة إلى «الرفيق» ماتياس تسفاي، الذي، في معرضِ إجابته على تساؤلِ صحيفة زيوريخ الجديدة حول نقطة التحوّل التي جعلته يتخذ موقفاً نقديّاً تجاه الهجرة واعتبارها «مشكلة»، يقولُ أمراً مُحيّراً لا تغيبُ عنه النزعةُ التبسيطيّة لما هو شائك في عمقه:
لقد ولدت سنة 1981 وترعرعت في مدينة آرهوس، حيث توجد الكثير من المساكن الاجتماعيّة ويعيشُ العديد من الأجانب القادمين من تركيا والعراق والصومال وباكستان. أصدقائي كانوا دنماركيين ومهاجرين. وحين كنا في الثامنة عشر زُوّجَ فجأةً بعضُ أصدقائي مع قريباتٍ لهم من تركيا، لنتمكّن قريباتهم أيضاً من المجيء إلى الدنمارك. وبذلك توجب عليهم أن يقطعوا علاقاتهم مع صديقاتهم الدنماركيّات. أذكرُ أني وجدتُ ذلك غريباً: الزواج كمجرد أداة للهجرة.
لا يمكن إنكار إمكانيّة حدوث حالاتٍ كهذه بين اللاجئين والمهاجرين في الغرب، لكن أن تُبرَز، بلسان وزير للهجرة والاندماج، كمثالٍ مُؤثّرٍ في موقفه من قضيّة شائكةٍ كهذه فهنا مكمنُ الإشكال؛ إذ أنّه بذلك يبدي جهله، وفي الغالب تجاهله، بالأسباب العديدة والمركّبة التي تدفعُ البشر إلى التفكّر في سبل الهجرة واللجوء وترك بلادِهم القاسية (غالباً دونما رجعة)، ويُحيلها، بشيء من الطفوليّة السياسيّة، إلى مجرّد رغبة في المجيء إلى الغربِ مهما كانت السبلُ. كما أن قوله يستبطنُ أيضاً محاولةً تعميميّة لنزع الجانب الإنسانيّ والوجوديّ عن قضية طيف واسع من اللاجئين وطالبي اللجوء. ويبدو أنّه تنبّه لهشاشة رأيه الآنف فأضاف، لاحقاً، بأنّ ذلك لم يشكّل بعد نقطة التحوّل الأساسيّة في موقفه، معقّباً بأنها كانت أوّل مرّة تصبحُ فيها مسألة الهجرة موضع تساؤل لديه.
ومن ثمّ يشيرُ الوزيرُ إلى أنّه كان في وقت سابق ناشطاً يساريّاً متطرفاً وداعماً مطلقاً للجوءِ والهجرةِ، ومناوئاً قويّاً لسياسات عمدة مدينته المُطالب آنذاك بتعزيز الاختلاطِ في الصفوف المدرسيّة لئلا تكون هنالك مدارس ذات أغلبيّة من الطلبة المُهاجرين أو مدارس دونما مُهاجرين. ويذكرُ كذلك بأنّه عايش مشاعر شيزوفرينيّة (فيما يخصُّ مسالة اللجوء والمُهاجرين) إلى أن حسمَ موقفه في سنة 2015، حين صدمته « الأعدادُ الكبيرة من طالبي اللجوء في الدنمارك والسويد وألمانيا والنمسا».
في سؤالٍ لاحقٍ يتطرّقُ المُحاوران إلى وضعيّة اللجوءِ في أوربا والعالمِ بأسره، مُبدين تشكّكهما حول هدف الحكومة الدنماركيّة الرامي إلى «خفضِ عدد طالبي اللجوء في الدنمارك إلى الصفر» في ظلّ تزايد أعداد اللاجئين في كافة بقاعِ الأرضِ. وإجابةً على ذلك يذكرُ الوزيرُ عباراتٍ مُكرّرةً تُسمَع ليل نهارٍ من الأحزابِ والشخصيّات اليمينيّة الشعبويّة، كأن يقول بأنّه ليس ثمّة علاقة بين عدد طالبي اللجوء في أوربا وبين اللاجئين المُحتاجين للحماية في العالم، وبأنّ نظام اللجوء الحالي جزء من المشكلة وليس الحلّ؛ كما يذكرُ أنّ نصف طالبي اللجوءِ في أوروبا ليسوا، بحال، في حاجة للحمايّة وغالبيتهم شبّان يافعون، وبأن تحديد من هو لاجئ يجب أن يتمَّ وفقاً «لعوامل إنسانيّة». ولا بدّ هنا، حيث الحديث عن «العوامل الإنسانيّة»، من العودة ثانيةً إلى قراراتِ حكومة الدنمارك التي سعت ولا تني تسعى لترحيل السوريّين الدمشقيين إلى «بلدِهم»، لأنّها لم تعد تعتبرهم في حاجة لحمايّة، ولأن دمشق قد عادت «مكاناً آمناً» -على عكس ما تثبته التقارير الحقوقية من مصائر لاجئين عائدين– وبالتالي خير ملاذٍ لهؤلاءِ الفارّين منها للتنعّم في البلدان الأوروبية. وكأنّ الحكومةُ الدنماركيّة تُودُّ بذلك، لكن على طريقتها، مُشاركةَ الشبيحة السوريّين القول بأنّها «خِلصِت»، وبأنّ «الرئيس الشرعيّ قد انتصرَ وعمّ السلمُ البلادَ».
وأسوةً بالخطابِ الشعبويِّ المعروف يُشيرُ الرجلُ أيضاً إلى تناقص نسبِ الجريمة وتزايد نسب التعليم والعمل في بلدهِ إثر سياساتِها الحكيمة والصارمة تجاه المُهاجرين، ويذكرُ بأنّه لا يتوانى عن تحفيز زملائه في بقيّة الدول الأوربيّة لتعديلِ قوانين الهجرةِ واللجوءِ في بلدانِهم ليتمكّنوا هم أيضاً من اللحاقِ بركبِ بلدِه المُتقدّم، خاصةً أن «بعض الزملاء الأوروبيين يخبرونني أنّهم كانوا سيفعلون مثلنا تماماً لو كان الأمر بيدهم».
تبعاً لخطابِ هذا الوزيرِ الدنماركيّ لابدّ من التفريق بين «طالبي اللجوءِ الشبّان غير المُحتاجين للحماية» وبين «اللاجئين الذين يجب أن يتمّ تحديدهم وفقاً لمقاييس إنسانيّة»؛ وبمراجعة تصنيفِ الحكومة الدنماركيّة لمن يحقّ وسمهم بـ «اللاجئين» نجدُ تجاهلاً جليّاً لمسألة الديمقراطيّات والحريّات والحقوق الأساسيّة، أو لنقل، بوضوح أكثر، نجدُ تسامحاً مع الأنظمة الاستبداديّة والدكتاتوريّات، خصوصاً الشرق الأوسطيّة. وسبق لهذا الوزير نفسه أن ذكرَ أنه لا توجد مشاكل في الدنمارك مع الأميركيين الجنوبيين أو القادمين من الشرق الأقصى، إنما «مشكلة المجتمع الدنماركي هي مع الهجرة المُتزايدة للقادمين من الشرق الأوسط». وهذا التقسيمُ، مهما حاول المرءُ أن يتسامحَ إزاءه، لا يمكنه أن يكون سوى تقسيم عنصري تجاه جماعة بشريّة مُحدّدة، بغضّ النظر عن ظروفِها ومسبباتِ هجرتِها ودرجة إنسانيّة حالاتِها. ويُبرّرُ «الوزيرُ اليساريُّ» ذلك بقول إنّ تقسيمه الآنف قائم على أرضيّة اقتصاديّة بالمقام الأول، ذاكراً أن التحليلَ ومراجعة الأرقام والبيانات تُبيّن أية جماعاتٍ مُهاجرةٍ تُساهمُ في تعزيزِ دولة الرفاه بصورة مُستدامة، وهذه الجماعات، حسب قوله، تتألّف من المهاجرين التايلانديين والصينين والهنود، فــهؤلاء يدفعون لخزينة الدولة أكثر مما يأخذون منها. ولا يتوقّف الرجلُ عند هذا الحدّ، بل يذهب أبعد من ذلك في إجاباته اللاحقة متطرقاً لمسائل عديدة بشأنِ وضعيّة المُهاجرين المُسلمين القادمين من بلدان الشرق الأوسط، فيذكرُ ما هو جادٌ وبحاجة فعليّة لنقاشِ مستفيض، كالحديث عن ضرورة تقبّل «المسلمين» لقوانين بلدان المهجر واللجوء القائمة على أسس ديمقراطيّة تحترمُ حقوق الأفراد وحريّاتهم الشخصيّة وتحفّز المساواة بين النساء والرجال وتحظرُ مُعاداة الساميّة؛ ليصل، في النهاية، إلى إبداء «تفهّمه المطلق» للنقاشات الشعبويّة، التي أضحت مُعتادة في عديد البلدان الأوروبيّة، كتلك الدائرة حول منع بناءِ منارات الجوامعِ أو حظرِ الآذانِ، أو حول تناول لحم الخنزير. ثمّة في مجمل كلامه إيحاءٌ واضحٌ إلى صراع ثقافي وحضاري بين «المسلمين الشرق أوسطيين» و «الغربيين» يصعبُ حلّه، بأي شكلٍ، إلا عبر سياساتٍ تمنع توافد المزيد من المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط.
وبصورةٍ تدعو في الوقت ذاته للتهكُّم والخشية، يواظبُ الوزيرُ الشّابُ على تقديمِ إجابات سهلة على أسئلة صعبة؛ فيجيبُ، مثلاً، على سؤال يذكر بأنه كان من شأن سياسة الهجرة واللجوء الراهنة في الدنمارك، في حال لو دخلت حيّز التنفيذ في سبعينيات القرن الفائت، أن تمنع والده، اللاجئ الأثيوبيّ، من الوصول إلى الدنمارك، بالقولِ: «السياسة كانت مختلفة وقتذاك، لأن الهجرة كانت مُختلفة. حين وصل والدي إلى فرانكفورت واستقلّ القطار إلى الدنمارك كان أقل من 1% من الشعبِ الدنماركي ذا خلفيّة مُهاجرة، أمّا اليوم فنسبتهم تقارب الــ 10%. من الصعب مقارنة سنوات السبعينيات الباكرة مع سنة 2022». ومن ثمّ يختتمُ الوزيرُ الشّابُ كلامه بالإشارة إلى أن «والده كان لاجئاً سياسيّاً جاء إلى الدنمارك بسبب قلاقل سياسيّة»، وكأنّ السوريين الذين تريدُ حكومته ترحيلَهم إلى حضن حاكم دمشق قد فرّوا بسبب تدهورِ البورصة السوريّة أو ارتفاع أسعار العقارات في العاصمة دمشق فحسب، وليسوا فارّين من ديكتاتوريّة قمعيّة أتت على أخضر البلاد ويابسها.