التُقطت هذه الصورة في بيتنا، زوجتي سميرة الخليل وأنا (سميرة تسند رأسها على كتفي في الخلف)، في ضاحية قدسيا غرب دمشق قبيل نهاية 2005. في الصورة قدرٌ من تاريخ سورية خلال نصف القرن المنقضي، دون أن يكون تاريخَ أناسٍ ذوي سلطة أو مال أو نفوذ.
تجلس إلى اليسار في الصورة رزان زيتونة، المحامية وناشطة حقوق الإنسان والكاتبة، وواحدةٌ من أبرز رموز الثورة السورية التي قد يصح القول إن جانباً أساسياً منها قد غاب بغيابها. رزان أبرز مؤسسي لجان التنسيق المحلية، ذات الدور المهم في تنظيم أنشطة احتجاجية وتغطيتها إعلامياً وتوثيق أحداثها. المحامية الشابة (كانت في الثامنة والعشرين وقت التقاط الصورة) عاشت فوق عامين متوارية في دمشق بعد الثورة، قبل أن تتدبر أمر تهريبها مع وائل حمادة، زوجها، إلى دوما يوم 25 نيسان 2013. في دوما والغوطة عملت رزان على توثيق الانتهاكات الواقعة على الشعب السوري من قبل المُنتهِك الأكبر، النظام، ثم بالتدريج من قبل مُنتهِكين طامحين، إسلاميين. رزان اختطفها تشكيل سلفي مسلّح اسمه جيش الإسلام في دوما قبل منتصف ليلة 9 كانون الأول (ديسمبر) 2013.
تجلس قرب رزان رندة بعث، وهي مترجمة للعديد من الكتب من الفرنسية إلى العربية، منها بؤس العالم في ثلاث مجلدات لبيير بورديو، والحب، مقدمة وجيزة لرونالد دي سوزا، والبحث عن الشرق المفقود لأوليفيه روا، وغيرها كثير.
وإلى جانب رندة زوجها عماد شيحة، الذي قضى نحو 30 عاماً في سجون النظام، بين 1975 و2004. عماد كان عضواً في تنظيم شيوعي عربي، كان له أعضاء في ثلاثة بلدان: الكويت ولبنان وسورية. اعتقل جميع أعضاء التنظيم، وكانوا بالعشرات، وكان أسوأ ما عاناه الكويتيون واللبنانيون منهم ثلاث سنوات في السجن. وكانت المنظمة الشيوعية العربية قامت بتفجير في دمشق ضد إحدى المصالح الأميركية عام 1974، تسبب في مقتل مواطن سوري. في مقابلة أجرتها معه رزان زيتونة بعد أسابيع من سنواته الثلاثين في السجن، يلخص عماد مصير المنظمة كالتالي: «تلقى خمسة من الرفاق حكماً بالإعدام، نُفّذ في 2 آب (أغسطس) 1975. ثمانية أعضاء حكموا بالسجن 15 عاماً، وخمسة حكموا بالسجن المؤبد». مما لم يقله عماد أن أخاه غياث كان أحد الذين أُعدموا، وأنه هو وفارس مراد (أقصى يمين الصورة جلوساً) كانا ممن حُكموا بالسجن المؤبد.
في السلطة إثر انقلاب عسكري منذ أقل من خمس سنوات وقتها، ربما وجد حافظ الأسد في حدث كهذا فرصة لفرض احتكار العنف والشرعية والعدالة معاً. صار الرجل بعد قليل معيار شرعية نظامه، بل الدولة السورية، وكيان سورية ذاتها، وهو ما أسَّسَ للحكم السلالي. حافظ الأسد غائبٌ في هذه الصورة، وكان غائباً عن الحياة وقتها، بعد أن كان الصورةَ كلها طوال ثلاثين عاماً من الحكم. الصورة هي لسورية الأخرى، المختلطة والملونة، غير المرئية للعموم في ذلك الحين.
بعد ما يقترب من ثلاثين عاماً من السجن، ترجمَ عماد كتباً من الإنكليزية إلى العربية، وألَّفَ ثلاث روايات: غبار الطلع، وموت مشتهى، وبقايا من زمن بابل. وكان يعيش مع رندة في دمشق حتى وقت قريب.
قرب عماد صبية سورية، صديقة لرزان، تعيش خارج البلد لكنها كانت في زيارة لسورية وقتها، لها اسم فاعل في الكتابة عن سورية والنشاط في القضية السورية.
قرب الصبية يجلس فارس مراد، فلسطيني سوري من مواليد مخيم النيرب في حلب، صديق عماد وشريكه في المنظمة والقضية والسجن. فارس أُفرج عنه في شباط (فبراير) 2004، قبل عماد بنحو ستة أشهر. تطور لديه في سنوات السجن الطويلة مرض التهاب الفقار اللاصق (سبونديلوزيس)، حيث تلتصق فقرات العمود الفقري ببعضها، فينحني الظهر وتنضغط الرقبة، فيحتاج المصاب إلى مناورة خاصة كي ينظر إلى مُحدِّثه. تنضغط الرئتان كذلك بين العمود الفقري المنحني المتصلّب وبين الأضلاع، ما يتسبب في ضيق التنفس والتهابات تنفسية. هذا ما أودى أخيراً بحياة فارس الذي كان ممنوعاً من السفر وتلقي العلاج خارج البلد. رحل فارس وهو في التاسعة والخمسين عام 2009، ودُفن في دمشق.
من أجل المزيد عن فارس مراد: تنظر مقابلة رزان زيتونة معه هنا.
الملتحي على اليسار وقوفاً هو شادي كردية، وهو صديق للمجموعة كلها، ولد في السلمية وسط سورية وكان يعيش فيها. وقتها كان في زيارتنا. شادي من أصغرنا سناً، كان في أواسط ثلاثينات عمره وقت التقاط الصورة. وهو لم يكن معتقلاً سياسياً سابقاً، ولا ناشطاً سياسياً بصورة خاصة. لكنه كان ينتمي لمجتمع المعتقلين السياسيين اليساريين السابقين في سورية من باب الثقة والصداقة. اعتُقلَ شادي لمرتين بعد الثورة السورية، وتعرض للتعذيب. وتوفي بعد وقت قصير من خروجه من الاعتقال الثاني. كان في الثالثة والأربعين وقت رحيله.
قف إلى جانب شادي ناظم حمادي، وهو محام وشاعر وناشط في مجال حقوق الإنسان. ناظم أحد مؤسسي لجان التنسيق المحلية إلى جانب رزان. وقد عاش متوارياً هو الآخر منذ بداية الثورة حتى تهريبه (مع وائل حمادة) إلى دوما في أيلول (سبتمبر) 2013، بعد أسابيع من المذبحة الكيماوية في الغوطة الشرقية. ناظم لم يكد يُكمل ثلاثة شهور في دوما قبل أن يختطفه جيش الإسلام ويُغيّبه مع رزان. بعد غيابه صدر لناظم عمل شعري بعنوان ضد. وقبل الغياب، لناظم كتاب شعري آخر بعنوان: أوراق التوت الغامضة.
قرب ناظم تقف سميرة الخليل، زوجة كاتب هذه السطور. سميرة كانت ناشطة ضمن تنظيم يساري معارض للنظام اسمه حزب العمل الشيوعي، وقضت فوق أربع سنوات معتقلة بين 1987 و1991. وهي مُغيبة مع ناظم ورزان ومجهولة المصير منذ ليلة 9 كانون الأول (ديسمبر) 2013. بعد تغييبها، نُشر لسميرة كتاب يتضمن يوميات دوّنتها بخط اليد عن أوضاع الحياة في دوما المحاصرة والمعرضة للقصف من قبل النظام. يتضمن الكتاب كذلك بعض ما أمكن الحصول عليه من «بوستات» نشرتها سميرة على صفحتها على فيسبوك. يوميات الحصار في دوما 2013، وهذا عنوان الكتاب، تُرجِمَ إلى الإسبانية والإيطالية والفرنسية، والترجمة الانكليزية ناجزة، لكنها لم تنشر بعد.
إلى جانب سميرة أقف أنا، زوجها، وقد كنت كذلك معتقلاً سياسياً يسارياً لنحو 16 عاماً، بين 1980 و1996، لانتمائي إلى تنظيم شيوعي معارض آخر اسمه الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي. بعد السجن تعرفت على سميرة، واقترنت علاقتنا ثم زواجنا ببدايات عملي ككاتب. أعيش خارج سورية منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2013، في تركيا أولاً، ثم منذ أيلول (سبتمبر) 2017 في ألمانيا.
وراء الكاميرا يقف وائل حمادة، زوج رزان. وهو كذلك ناشط حقوقي وسياسي معارض، ومن مؤسسي لجان التنسيق المحلية. وائل اعتُقلَ مرتين عند النظام، والمرة الأخيرة في مطار المزة الذي كانت تسيطر عليه الفرقة الرابعة، التشكيل العسكري الفاشي الذي يقوده ماهر الأسد، شقيق بشار، وحولت بعض هنغارات الطائرات فيها إلى معسكر تعذيب. كان وائل قصد دوما أول مرة تهريباً مع رزان يوم 25 نيسان (أبريل) 2013، لكن الرجل الشجاع عاد إلى دمشق، مستأنفاً نشاطه الثوري، قبل أن يعود إلى دوما ويستقر فيها في أيلول (سبتمبر) 2013. وائل غُيب مع رزان وناظم وسميرة منذ مساء 9 كانون الأول (ديسمبر) 2013.
فارس وشادي رحلا قبل الأوان. رزان وناظم وسميرة ومُصوِّرنا وائل مغيبون منذ أكثر من ثماني سنوات. عماد ورندة يثابران على حياة مقاومة للموت، وقد اضطرا مؤخراً إلى الخروج من سورية لأسباب علاجية. المرأة الشابة التي عاشت معظم عمرها خارج سورية تستمرّ في العمل بصور مختلفة.
هناك تفصيلان بالغا الأهمية في الصورة فوق. أولهما صورة بالأحمر والأسود إلى اليمين من رأسي لسمير قصير. سمير صحفي ومؤرخ وناشط لبناني، اغتيل في بيروت في حزيران (يونيو) 2005، بُعيد الانسحاب القسري لقوات النظام الأسدي من بيروت في نيسان (أبريل) 2005، وكان في الخامسة والأربعين من العمر. كان لسمير دور ميداني مهم في الانتفاضة اللبنانية التي سبقت هذا الانسحاب، والأرجح أنه اغتيل بعبوة ناسفة وضعت تحت سيارته بسبب هذا الدور. اغتيال سمير كان جزءاً من ردّ فعل النظام الأمني السوري اللبناني على الانسحاب، ومعلوم أنه اندرج في سلسلة اغتيالات بدأت باغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق في شباط (فبراير) من العام نفسه، وشملت سياسيين وإعلاميين لبنانيين. سمير هو أول مثقف لبناني (وسوري)، مع جذور عائلية فلسطينية وسورية، يربط بين استقلال لبنان وديمقراطية سورية. له كتاب بهذا العنوان. قبل نحو عام من اغتياله، كنا، سميرة وأنا في بيروت، وهناك التقينا بسمير، تجولنا قليلاً وأخذنا صوراً مع بعضنا. سمير وقّعَ لنا وقتها كتابيه حديثي الصدور: ديمقراطية سورية واستقلال لبنان، وعسكر على مين؟ بعد هذه الرحلة إلى بيروت، مُنعت من السفر، فلم أستطع أن أشارك في وداعه.
التفصيل الآخر هو الكتب في خلفية الصورة. هذه مكتبتنا، سميرة وأنا، في بيتنا المستأجر في ضاحية قدسيا. الكتب أودعت في صناديق كرتون، أودعت بدورها في قبو ما في دمشق. كانت سميرة قد غُيبت قبل أسابيع قليلة وقت إخلاء البيت اضطرارياً، وقد تكفّلَ به بعض أحبابنا، وكنتُ سلفاً خارج سورية وقتها.
في بقايا آوشفيتز يتكلم جيورجيو أغامبن، وفي باله معسكرات الاعتقال النازية، على مفارقة الشاهد: من رأى كل شيء لا يشهد لأنه لم ينجُ، ومن نجا لم يرَ كل شيء وشهادته ناقصة. الشهادة بالتالي غير ممكنة، وليس ثمة شهود على أحوج ما يكون إلى شهود: أقاصي المصير البشري من اعتقال وتعذيب واغتصاب، يتبعه قتل أو تغييب. من يا ترى شهدَ كل شيء؟ سمير؟ فارس؟ شادي؟ سميرة ورزان ووائل وناظم؟ أكملُ الشهود، لم يعد أحد منهم ليشهد. هم شهودٌ بلا شهادات تسجل. شهاداتهم هي هم أنفسهم، غيابهم ورحيلهم.
في العربية علاقة اشتقاقية بين الشهيد والشاهد، يمكن أن نبني عليها وعلى مفارقة أغامبن أن الشهيد (والكلمة صيغة مبالغة من اسم الفاعل شاهد) هو الشاهد الحقيقي، أن شهادة الواحد منا لا تكتمل إلا باستشهاده، لأنه هنا فقط يكون قد شهد كل شيء. لكن الشهداء لا يعودون من الموت كي يرووا لنا ما جرى بتمامه. من يروون هم نحن الذين لم نستشهد كي نشهد على كل شيء. لكننا نشهد. نشهد لأننا نجونا ولم ننجُ في آن. نجاتنا مما جرى لأحبابنا وأصدقائنا فرصة لتقديم شهادة، ثم إننا لم ننج من التجربة لأننا نحمل من رحلوا ومن غابوا معنا، لأننا لا نبقى بعد غيابهم مثلما كنا من قبل. لأننا كحملة للغياب غائبون بصورة ما، ثم إن بقاءَنا ذاتَه شهادةٌ مستمرة على من غابوا. ولربما كان في هذا ما يرجِّحُ عدالة شهادتنا، وإن كانت ناقصة. نحن، الباقون أو الناجون نشهد على ما بعد، فيما تشهد الصورة على ما قبل: على بلد أو اثنين، على نظام أو اثنين، على أربع نساء وستة رجال وشهيد واحد.
ولعلّ سميرة ورزان ووائل وناظم، كمُغتابين أو مُغيَّبين، في مرتبة وجودية غير الحياة، وإن تكن حياةَ اللاجئين المُعلّقة، وغير الموت لأننا نفتقر إلى اليقين بشأن مصيرهم (واليقين استعارة للموت في العربية). ولعلهم أسرى الغياب والإنكار من قبل الجناة وإخفاء الأجساد القتيلة (إن كانوا قد قتلوا) بالضبط كي لا يشهدوا، كي لا يشيروا بأصابعهم أو بكلماتهم إلى المجرمين ويقولوا: أنتم من فعل هذا! في مرتبتهم الوجودية الخاصة، محجوبين من الحياة ومن الموت معاً، المغيبون شهدوا كل شيء، وربما فقدوا حياتهم من أجل ألا يشهدوا على ما شهدوه من كل شيء. لكن هذا بالضبط ما يقول إن المجرمين يعرفون أنهم مجرمون، وما يقول إن الغائبتَين والغائبَين هم الشهود الأكمل.
في الصورة فوق 24 عاماً من الاغتياب، فوق 80 عاماً من السجن، قتلٌ غيلةً، موتان مبكران، سنوات من حياة اللجوء المعلّقة. تشكل هذه التجارب هوية سورية وغير قليل من هوية لبنان خلال نحو خمسين عاماً.
لكن فيها حياةً، حياتَنا، أصدقاء، نساء ورجال، نلتقي بين حين وآخر على عشاء وكأس من العرق أو النبيذ في أحد بيوتنا. نتداول خلال ذلك في شؤوننا الخاصة وشؤون عامة، ونتبادل المعلومات والعون، وربما نغني ونرقص. كان هذا شكل حدٍ أدنى للاجتماع والسياسة في «سورية الأسد»، حيث لا منظمات سياسية أو اجتماعية مستقلة نلتقي في مقراتها ونتداول في الشؤون العامة، وحيث الكلام الصريح في هذه الشؤون في مقاهٍ أو مطاعم مهدد بخطر الوشاية المنظمة.
لقد عملنا على أن نحيا حياة عادية في بيوتنا، وقد ثبت في النهاية أن هذا ممتنع. الحياة العادية في حاجة لحياة عامة عادية، أي حياة عادية للجميع. الحياة العادية سياسية جداً. وفي سورية المباحة للسيادة، للاستثناء وخرق العادة، لا أحد يحيا حياة عادية، لا من يُعتقَلون ويُغيَبون ويُقتَلون، ولا من يَعتقِلون ويُعذِبون ويَقتلون.