تعوّد أبو سليم وزوجته الذهاب إلى لبنان مرة أو اثنتين في كل عام، بقصد زيارة ابنهم اللاجئ في طرابلس منذ العام 2012، فيحملون معهم أصنافاً من المونة المنزلية وبعض الثياب والعطور المعبأة ويعودون بما يحمّلهم سليم من دولارات تعينهم على مواصلة حياتهم في بيتِ مُستأجر في حي التضامن جنوبي العاصمة السورية.

وحين فرضت السلطات اللبنانية، مع بداية العام 2018، شروطاً جديدة للسماح بدخول «السائحين» السوريين إلى أراضيها، منها حمل مبلغ ألفي دولار أميركي، لجأ أبو سليم إلى الالتفاف على الشروط الجديدة بفتح سجل تجاري والدخول إلى لبنان كتاجر لا سائح. ومع إلغاء هذا الشرط لاحقاً أوقف الرجل سجله التجاري لعدم الحاجة إليه، ولكنه لم يغلقه بشكل نهائي. تفاجأ أبو سليم الأسبوع الماضي باستبعاده من برنامج الدعم الحكومي بموجب البطاقة الذكية، وذلك بدعوى امتلاكه سجلاً تجارياً.

تكرر هذا الأمر مع كثيرين لديهم سجلات تجارية غير مستخدمة منذ عقود، أو كانت مجرد فيزا للعبور إلى لبنان، فلم يترددوا في إغلاقها بشكلٍ كامل في أمانات السجل التجاري بإجراء معاملة كلفتها 6 آلاف ليرة سورية. وبطريقة عشوائية شبيهة، استبعدت الحكومة آلاف العائلات أو أفراد منها من برنامج الدعم كونهم يقيمون خارج القطر منذ أكثر من عام، رغم أنهم ما زالوا ينعمون بالسكينة في ربوعه حتى اليوم. وتوجه هؤلاء إلى دوائر الهجرة والجوازات ليحصلوا على ورقة بحركة المغادرة يسلمونها لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك حتى تعيدهم إلى لوائح المدعومين.

ونظراً إلى أن الدخول إلى مبنى الهجرة والجوازات ممنوع دون وثيقة تثبت عدم إصابة المُراجع بفيروس كورونا، فإن تعرفة الحصول على الورقة المجانية صارت 5 آلاف ليرة، تدفع مقابل التغاضي عن غياب اختبار كورونا، وهي مبلغ رشوة موحّد يُحصّله عناصر من الشرطة كما لو أنه قيمة طابع.

امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات مستبعدين من الدعم رغم أن قرار الاستبعاد لا يُفترض أن يشملهم، إذ اعترت آلية حرمان «الميسورين» من الدعم الحكومي كثيرٌ من الأخطاء، دفعت الحكومة إلى إعادة جميع الأسر المحرومة إلى سابق وضعها، وبانتظار حل «بعض المشاكل التقنية». في الأثناء تبادلت وزارتا الاتصالات المعنية بتطبيق وين والمسؤولة عن إدخال البيانات، والتجارة الداخلية وحماية المستهلك المسؤولة عن توزيع مخصصات الدعم، تحميل الطرف الآخر مسؤولية الفوضى التي حصلت. ثم اجتمعت الحكومة يوم الأربعاء الماضي، وبشكل قالت إنه «عاجل»، لتبحث الاعتراضات التي تلقتها على رفع الدعم، ولكن دون أن يصدر عنها أي قرار يتخطى ضرورة حل المشكلات التقنية، متعاميةً عن تبعات القرار الاجتماعية والمعيشية على واحد من أفقر شعوب الأرض.

الاستبعاد على مراحل

أعلنت حكومة نظام الأسد، مطلع شهر شباط (فبراير) الجاري، عن استبعاد ما يزيد على 596 ألف عائلة سورية من برنامج الدعم الاجتماعي بموجب البطاقة الذكية، أي قرابة 15 بالمئة من الأسر التي كان يصلها الدعم، وذلك في خطوة أولى شملت «الأسر التي تحوز أكثر من سيارة ومالكي السيارات السياحية بسعة محرك تفوق 1500 سي سي من طراز عام 2008 وما يليه، ومالكي أكثر من منزل في نفس المحافظة ومالكي العقارات في المناطق الأغلى سعراً، فضلاً عن أصحاب السجلات التجارية والصناعية من مختلف الفئات»، في حين سيُستبعد في وقتٍ لاحق الأطباء والمحامون الممارسين للمهنة لأكثر من 10 سنوات.

ويأتي هذا القرار ضمن خطوات متدرجة لرفع الدعم عن أكبر قدر ممكن من الشرائح المستفيدة، وهو ما تشي به المبالغ المخصصة للدعم الاجتماعي في موازنة العام 2022، مدعومةً بإفصاح وزير المالية كنان ياغي في شهر تشرين الأول (أكتوبر) أمام مجلس الشعب عن ضرورة وجود «برنامج جديد لإعادة هيكلة الدعم»، فضلاً عن منشورات لوزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عمرو سالم يرى فيها أن الدعم لا يصل إلى مستحقيه، بل تستفيد منه فئات ثرية من المجتمع.

وشمل استبعاد أصحاب السيارات السياحية أولئك الذين يستخدمون سيارات شام محلية الصنع، والتي لا يتجاوز ثمنها في الأسواق 25 مليون ليرة سورية (7 آلاف دولار تقريباً). كما لم يراعِ القرار احتمال أن تكون بيوت بعض المستبعدين مدمرة ويعيشون حالياً في بيوت مستأجرة. تقول أم حنين للجمهورية.نت إنها اليوم مستبعدة من الدعم بسبب امتلاك زوجها لسجل تجاري، وتتساءل: «ولكن أين التجارة اليوم؟ وأين دوما التي كانت فيها تجارتنا؟».

تعمل بنات أم حنين لإعالة الأسرة التي تتلقى حوالات بشكل متفرق من خالٍ يعيش في السعودية، بما يكفل سد الاحتياجات الطارئة مثل الطبابة والملابس. تعلق السيدة: «الله يرزق اللي برا بحسنة اللي جوا». لا تبدو أم حنين مهتمة كثيراً بحرمانها من المازوت والسكر والرز، فالأهم هو الغاز والخبز: «حصتنا اليومية 4 ربطات خبز، كنا نشتريها بـ800 ليرة سورية، وصار سعرها اليوم 4800. ليس بوسعنا تحمل هذا السعر ولا توجد أية بدائل».

خفض الدعم قبل الاستبعاد

ظهر مشروع البطاقة الذكية في محافظة دمشق في آب (أغسطس) من عام 2017 بهدف ضبط توزيع المحروقات، وبشكل أساسي البنزين، ولكنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا في العام 2019. ثم أخذ المشروع يتوسع مع تدني مستوى المعيشة وعدم قدرة النظام على تمويل السلع المدعومة في الموازنة، ليضاف إلى البطاقة الذكية في شهر نيسان (أبريل) من العام 2020 السكر والرز والشاي بكميات محدودة، ولاحقاً الزيت النباتي، ثم مياه الشرب المعدنية في أوقات محدودة. وبعد فترة قصيرة حذفت الحكومة الشاي ومياه الشرب بشكل نهائي، وأضافت الخبز في العام 2021 مع تقليص كمية مازوت التدفئة من مئتي ليتر للأسرة الواحدة إلى مئة ليتر توزّع على دفعتين. كما رفعت من أسعار جميع هذه المواد بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف، فضلاً عن تقليص دعمها لخدمات أخرى غير مشمولة بالبطاقة الذكية، مثل أسعار الكهرباء المقسمة إلى شرائح، تراوح فيها مقدار الارتفاع بين 100 بالمئة و800 بالمئة.

ما زال بوسع الأسر المستبعدة نهائياً من الدعم اليوم شراء القدر نفسه من مخصصاتها بموجب البطاقة الذكية، ولكن بزيادة أسعار بلغت ثلاثة إلى خمسة أضعاف السعر المدعوم، أو بسعر التكلفة وفق الحكومة، التي تسعى من وراء هذه العملية إلى تقليص عجز الموازنة في المشتقات النفطية «بحوالي ترليون ليرة سورية»، علماً أن الدعم المخصص للمحروقات في الموازنة جرى تقديره بحوالي 950 مليون دولار، من أصل مجمل «الدعم الاجتماعي» في الموازنة، والبالغ قرابة من 2.2 مليار دولار.

السلعة السعر المدعوم بالبطاقة الذكية (ل.س) السعر الحر بالبطاقة الذكية (ل.س) السعر في السوق (ل.س)
الخبز 200 1200 ـــــــــ
الغاز 9700 30600 100 إلى 150 ألف
البنزين 1100  2500 3000 إلى 3500
المازوت 560 1700 3200 إلى 3500
السكر 1000 2200 ≥2500 في حال توفره
الرز 1000 ـــــــ ≥3000 بحسب الجودة
الزيت ـــــــ 7200 ≥8000 بحسب الجودة

ويبلغ مقدار المواد التي يمكن الحصول عليها بموجب البطاقة الذكية لعائلة مكونة من أربعة أفراد: 10 ربطات خبز أسبوعياً، 8 كغ سكر شهرياً، 6 كغ رز شهرياً، ليتر زيت نباتي شهرياً بالسعر الحر، جرة غاز كل 70-80 يوم، 100 ليتر مازوت سنوياً على دفعتين.

وعلى خلفية القرار الأخير باستبعاد «الميسورين» من الدعم، شهدت محافظة السويداء في الجنوب السوري احتجاجات محدودة على مدار اليومين الفائتين، رُفعت فيها أرغفة الخبز ونادى المحتجون بإسقاط الحكومة، كما رددوا شعار «سوريا لينا وما هي لبيت الأسد». سألنا أم حنين التي تعيش في دمشق إذا ما كان غضب الأهالي هناك سُيترجم بطريقةٍ مماثلة، فاستبعدت حدوث ذلك بقول إن الناس، رغم جوعهم وتذمرهم المُعلن، يخافون معاودة النزول إلى الشارع: «ما متنا، بس شفنا اللي ماتوا قبلنا».

وبالفعل، لم تشهد المحافظات الأخرى تحركات مشابهة، في حين جرى تداول صور لمنشورات مكتوبة بخط اليد، قيل إنها من داخل دمشق، تتضامن مع مظاهرات السويداء، فضلاً عن صورة من طرطوس يرفع فيها أحدهم إصبعه الوسطى أمام صورة لبشار الأسد في أحد أحياء المدنية، وهي تحركات سبق أن شهدت محافظات عديدة ما يشبهها خلال السنوات الثلاث الماضية، دون أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.