لعل النسخ الست عشرة من الفيلم الإيطالي غرباء بالكامل المنتج سنة 2016 – وأشهرها بعد النسخة الأصل النسختان الفرنسية والإسبانية – لم تواجه فور صدورها نقداً استهدف أحقيتها بانتقاء القضية، وحصانتها الفنية في حرية الطرح واستخدام اللغة والأدوات، إنما كانت معرضة لتحليل فني، يقرأ بالدرجة الأولى قدرة النسخة على تكييف الحكاية والشخصيات ضمن بيئاتها المحلية، وعزل القصة عن هويتها الإيطالية الأم. بمعنى أن المقارنة دائماً ما كانت تحكم هذا النوع من الأفلام، خاصة في حالة شهرة الفيلم الأساسي، وهو ما حصل بالتأكيد مع غرباء بالكامل، الذي صدرت آخر نسخه الـ 17 قبل أيام قليلة باللغة العربية بعنوان أصحاب ولا أعز من إنتاج نتفلكس، والذي واجه فور صدوره نقداً يكاد يتحوّل خلال فترة قصيرة إلى قضايا ستُفتح لاستضافتها المحاكم، من محض عدم الإقرار بأحقية فيلم أن يخرج عن السائد، بل وأحقية الممثل في اختيار الدور، ومستوى تبنّيه للشخصية وصفاتها وقيمها في الحياة العادية خارج إطار السينما.

تجري أحداث الفيلم في لبنان، لكن وجود زوجين مصريين لعب دورهما كل من المصرية منى زكي والأردني إياد نصّار، جعل الفيلم يأخذ هوية عربية، بل وينال الحظ الأوفر من الجدل في مصر، ولتواجه منى زكي جراء مشاركتها في بطولة الفيلم حملة وصفت تلك المشاركة بادئ ذي بدء بـ«سقطة أخلاقية»، وينبري برلمانيون مصريون بالهجوم على الفيلم بدعوى أنه «يروّج للمثلية الجنسية وللفساد الأخلاقي والخيانة الزوجية»، الجدل الذي لم يأخذ هذا البعد الحاد في لبنان الذي جرت فيه أحداث الفيلم.

لعبة فتح الهواتف المحمولة على طاولة عشاء بين أصدقاء قدماء، كبوابةٍ لكشف الأسرار والمشكلات الأسرية الحساسة بعد مضي سنوات على الزواج، هي لعبة لا تخلو من الكوميديا التي فقدت نكهتها في النسخة العربية مقارنة بالإيطالية، وهي واحدة من مكامن الضعف في الفيلم، الذي نسخ مخرجه مشاهد وحواراتٍ من الفيلم الأصلي بشكلٍ شبه تام، لتصعب مهمة تبيئته. فلم يكف مجرّد خلق الاختلاف في أطباق الطعام، ليحضر الزعتر بدلاً من أزهار الكوسا، والملوخية بالأرانب عوضاً عن طبق التيراميسو. وغيرها من التفاصيل التي كانت تحاول شد الحكاية باتجاه تناسُبِها مع البيئة العربية.

ضَمِن الفيلم منذ البداية القدرة على الجذب وتحقيق نسب مشاهدة عالية، كان ذلك حتى قبل تصوير الفيلم بلا شك، فهو يستند إلى نص أخّاذ، ومستوى ذكي من النكتة، وهذا الذكاء الكوميدي هو في صلب سينما الواقعية الإيطالية تاريخياً، وستكون أولى دلالات ترجمته إلى اللغة العربية مثلاً، قصور النص السينمائي العربي في النكتة العابرة عالية الأثر، والتركيب الجماعي للقصة القصيرة المضحكة، كنكتة الفرق بين جهازي الماك و البي سي، عند تشبيه المرأة بالأول والرجل بالثاني، وغيرها من تلك الحوارات السريعة التي كانت واحدة من نقاط القوة الأساسية في الفيلم بمختلف نسخه ومنها العربية، والتي اضمحلّت أمامها كلياً تلك النكات المحلية العربية المستهلكة، عن ازدحام السير، أو الأمثال الشعبية، والتي كانت أيضاً جزءاً من محاولات المخرج لمنح الفيلم هوية البيئة المحلية.

محوران أساسيان تم التغيير فيهما في النسخة العربية التي أخرجها اللبناني وسام سميرة، ينطلقان من إدراكه لأهمية التغيير في مشاهد محددة بعينها، فيرفع فيها من المستوى الدرامي أو يخفّضه، المحور الأول هو قضية اكتشاف أفراد المجموعة أن صديقهم مثليُّ الجنس، حيث تبلغ ردود الأفعال أعلى مستوياتها مقارنة ببقية القضايا والأسرار التي سيتم اكتشافها، في حين لم تستدع هذه النقطة بالتحديد ردود أفعال حادة على بقية النسخ أو في الإيطالية والإسبانية على أقل تقدير، وهنا كانت محاولة المخرج لمقاربة المجتمع العربي واضحة، كون  ردة فعله تجاه قضية المثلية ستكون أعلى منها تجاه قضية الخيانة الزوجية. لقد كان الزوج متهماً بمثليته أكثر من كونه متهماً بخيانة زوجته مع شخص آخر في أصحاب ولا أعز، وهي نظرة تحتمل النقد، وتطرح سؤال أخلاقياً مجتمعياً، له هوية عربية مختلفة كلياً عن هويته في دول أخرى.

المحور الثاني هو محاولة تخفيف الصدمة، من خلال تقليص وتحجيم بعض المشاهد المرتبطة بالجنس، وهي نابعة من إدراك المخرج أيضاً، بأن هذه المشاهد ستكون بالنسبة لقطاع كبير من الجمهور هي الفيلم ككل، ولن يُنظَر إلى الفيلم من قبل أقلام نقدّية شتى إلا من خلالها، وهو بالفعل ما يجري حالياً، رغم الجهود الواضحة التي بُذِلت على صعيد التغيير في هذه المشاهد بالتحديد، فخلع الزوجة مريم (منى زكي) سروالها الداخلي كان عبر لقطة لم يظهر فيها فعل الخلع كاملاً، بمعنى ظهرت البطلة وكأنها التقطت السروال عن الأرض، ولم تخلعه كما في الفيلم الأصلي، كما أن مشهد رفعها الفستان أمام زوجها وأصدقائه ليظهر لهم أنها لا ترتدي السروال  غير موجود أساساً في النسخة العربية. إلى جانب قضية الواقي الذكري الذي وجدته الأم في جزدان ابنتها، حيث تم إلغاء دور الأب في تزويد ابنته بالواقي كلياً كما هي في السيناريو الأصلي.

غيّر الفيلم أيضاً تفاصيل مثل عمر الشابة الصغيرة التي تخوض أولى علاقاتها الجنسية، فهي تقارب سن السابعة عشر حسب القصة الأصلية، إلا أنها مقبلة على أن تصبح بعمر 18 خلال أيام قليلة في النسخة العربية، وهو السن الذي يمكن لبعض الأسر العربية منح حرية التصرف لأبنائها فيه، فيما يتم التعامل مع عامل السن هذا بمرونة أكبر في مجتمعات أخرى. وأمثلة عديدة أخرى، لم تصبّ جهود المخرج على التغيير إلا فيها، فيما بقيت القصص الأساسية والحوارات التي رفعت من سوية الفيلم في مختلف نسخه، متطابقة كلياً بين النسخة العربية والإيطالية، وهي بلا شك أجمل ما في الفيلم.

يظهِر الفيلم في سياق آخر قدرة الشخصية المكتوبة بعناية على التفوق على قدرات الممثل ذاته في الأداء أحياناً، بل والمسؤولية عن نجاحه بالأداء، فشخصية الأب العطوف والمتسامح، كانت هي الأكثر تأثيراً واحترافية في عدة نسخ من الفيلم، والعربية لم تكن استثناء في هذا السياق، فالأب «وليد» والذي أدى دوره بمهارة اللبناني جورج خبّاز – قدمه في النسخة الأصلية الإيطالي ماركو جاليني –  لعب دور الشخصية القادرة على التحكم بانفعالات الآخرين، وممارسة صوت الحكمة الذي لا يخلو من خفّة الظل في تدخلاته المختلفة ومحاولاته المتكررة لتخفيف التصعيد وحدّة الصدمة.

خيانات زوجية متعددة، وقضية مثلية، وأخرى عن منح الحرية الجنسية للأبناء (الإناث منهم تحديداً)، وشرب الكحول حدّ الثمالة، كل هذا جاء دفعة واحدة، صادمة لقطاع كبير ومتناقض الأهواء من المشاهدين، يوحد جزءاً كبيراً منهم قناعته بمصطلح ما يسمى «السينما النظيفة»، الخالية من مشاهد وألفاظ مصنّفة في قائمة المحرمات في معجم مفتوح للإضافة والتطوير على المزيد من القيود، معجم يمنح حرّاسه أهلية حماية ثقافة المجتمع وتقاليده، ومطالبة بفن «مناسب» تكون الشتيمة فيه خالية من كلمة ذات دلالة جنسية، والأبطال كائنات خشبية لا تمارس الجنس.

أصحاب ولا أعز هو الفيلم العربي الأول الذي تنتجه نتفلكس، ويمكن اعتباره أولى إنتاجاتها العربية ذات الأثر، والتي علّ من ينتظر إنتاج نتفلكس العربي، ينتظر هذا الشكل بالتحديد. وهنا ليس القصد السويّة الفنية، بقدر ما هو إتاحة إنتاج ما يصعب إنتاجه، وربما يستحيل، مع شركات عربية، واعتبار نتفلكس منصة يمكن عبرها قول ما لا يمكن قوله في المنصات العربية بمختلف أشكالها، وهو ما لم يظهر في إنتاجات نتفلكس العربية قبل هذا الفيلم، وما قد يلفت الأنظار إلى المزيد من الأعمال التي إن تعددّت قد تلعب دوراً في تركيز النقد بعيداً عن سلب المادة الفنية حريتها، وتَرَفُّع الذائقة عن التصنيف وفق مقتضيات محكمة أخلاقية معادية لقيم الانفتاح والحداثة.

أصحاب ولا أعز (2022)

بطولة منى زكي، إياد نصّار، عادل كرم، ديامان أبو عبود، جورج خباز، نادين لبكي، فؤاد يمين  
إخراج وسام سميرة