أقيم في العام الماضي في قصر ريڤو في فرنسا معرض فنيّ بعنوان «مذاق الفن»، لأعمالِ رسمٍ ونحت وتصوير ضوئي معاصرة تجتمع على موضوع المائدة بأطعمةٍ وأوانٍ وأدوات. حضور هذه المفردات في الفنّ الأوروبي، خصوصاً الفاكهة وحصائل الصيد، ليس بجديد، نستطيع تتبعه تقريباً في كل الفترات وعلى اختلاف المدارس الفنيّة. في المقابل بالإمكان تمييز أعماق فنيّة متعدّدة لهذا التمثيل، فقد تكون هذه المحاكاة مجرّد صورة جماليّة لطبيعة صامتة، أو تمثيلٍ لواقع اجتماعي، احتجاجٌ على الطبقية أو مفاخرةٌ ببذخ القصور، أو في منحى آخر عند دمجها مع عناصر إضافيّة تمثّل أحياناً هشاشة الإنسان وحتمية زواله. يُحي هذا المعرض في الأذهان المعاني المتعددّة للتذوّق.

تنطبق مفردة التذوّق على عدد من أفعالٍ متشابهة في جوهرها الدلالي، فهي تشير إلى المقدرة الحسيّة لاستقبال الطعم عبر ملامسة النكهاتِ المختلفة للفم واللسان وتحليلها كيميائيّاً، وهي بهذا المعنى ليست محصورةً بمقدرات الكائن البشريّ. في الوقت ذاته، فإن التذوّق سلوكٌ إنسانيّ مرتبطٌ بتلقي التمثّلات الجماليّة والفنيّة بكلّ أنواعها وتصنيفاتها المختلفة كنحتٍ، أو موسيقا، أو أدب، أو عمارة أو حتى الفنون الحياتيّة الوظيفيّة. بمعنى آخر، سواء كانت الأشكال والمنتجات أعمالاً فنيّة صادرةً عن فنانين متخصّصين أم كانت مما يتم تنسيقه من قبلِ غيرهم، مثل تجميلِ أو تزيين فضاء معيشيّ أو فضاء عامٍّ، أو انتقاء ألوان وخامات للملابس حسب استحسان كل فرد. 

و«التذوّق» هي الكلمة المفتاحيّة للدخول إلى فلسفة وعلم الجمال. وليس من باب المصادفة إذاً أن تكون المفردة دالّة على مقدرتين بشريّتين في حقلين مختلفين، حيث أن منبع التجربة العاطفيّة والذهنيّة إزاء عملٍ فنيّ هو التجربة الحسيّة، ولحظة التذوّق الجماليّ تبدأ عندما يتمّ فعل الرؤية في الفنون البصرية والمكتوبة أو فعل السمع في الموسيقا، دون أن نغفل عن أن للأدب والشعر خصوصيّتهما بارتباطهما الحتميّ بالخيال. وتفكيك هذه المفردة لا يقتصر على التفكير فيها لغوياً. منذ بدء التنظيرات الجماليّة التنويريّة التي أسّست لفلسفة الجمال المعاصرة والفلاسفة يدرسون «مَلكة التذوّق» وما يعدّ مادة التذوق أي «الجميل»، مبتعدين عن المعايير الفيثاغورسيّة والإقليديّة التي كانت تُخضع مادة الجمال لأدواتِ قياسٍ وقوانينَ هندسيّة ورياضيّة والتي اتّبعتها الفنون الإغريقيّة في عصر سابق، ومبتعدين أيضاً عن ربط الجمال بالأخلاق والمثل العليا كما كانت لدى أفلاطون وأرسطو في الألف الأول قبل الميلاد. ومنذئذٍ تبّدت الإشكالية، فكيف يمكن تحديد تعريفٍ معيّن لما يمكن أن يكونه «الجميل» في حين أنّه ليس بالإمكان الاتفاق على صيغة موحَّدةٍ معياريّةٍ وضابطة لذائقة جميع البشر؟ هذا مع العلم أن معظم هذه الطروحات نشأت في الغرب ولم تكنْ تأخذ بعين الاعتبار بشكل فعليّ الأبعاد الثقافيّة للشعوب الشرقيّة، ولم تدرس مكوّنات فلسفة الجمال في الفكر العربيّ والإسلاميّ والتي نزعَ معظمها نحو التصوّف وإعلاء جمال الطبيعة بوصفها خلقاً ربانياً يسمو على أي صناعة بشرية. 

بإمكاننا معاينة الاختلاف في تعاريف التذوق والجمال في فرضيات الفلاسفة علماء الجمال الغربييّن أنفسهم، لاستناد هذه الفرضيّات على مذاهبهم الفلسفية، فالتذوّق بالنسبة للتجريبيّن هو مقدرة الإنسان المبنية على المرجعيّة التجريبيّة، أما بالنسبة للمادييّن فهو عملية تلقي لكيانٍ ماديّ موجود بمعزلٍ عن أحاسيسنا ومشاعرنا وذاكرتنا. إلى أن جاء إيمانويل كانط بمبحثه المتعمّق نقد مَلَكَة الحكم، والذي أراد عبره إثبات أنّه لا يمكن أن تكتمل أركان الحكم الجماليّ من دون مزاوجة بين التوجّهين، حيث لا يمكن للعقل أن يُشكّل موقفاً من قطعة فنيّة بالاستناد إلى الحدس بشكلٍ مطلق، كما أن الاعتماد بالكامل على التجريب سيفضي إلى حكمٍ منقوص. وبالرغم من وجود نظريّاتٍ عديدة قبل وبعد كانط متخصّصة بفلسفة الجمال، إلّا أنه يعتبر أبرزَ من قامَ بتفصيل الأحكام الجماليّة ومعنى الجمال بالارتباط بمقدرات وإدراك الإنسان، وكأنّ أهمّ ما في الجميل هو تمثّله في العقل البشريّ. ومع أنّه يصعبُ بالتالي حصرَ ما هو «الجميل»، مالَ الفلاسفة الغربيّون للقول بأنّ الموضوع الجميل يجبُ أن يكون جميلاً في كل مكانٍ وزمانٍ بصرف النظر عن العوامل الذاتيّة للمتلقي وعن منهج الحكم، أكان عقلانياً أم تجريبياً أو غير ذلك. بمعنى أن تنطبق عليه مجموعة من الصفات التي تؤكّد كونَه جميلاً، وأن يكون غير نفعيٍّ أو وظيفيّ. لكنّهم على جانبٍ آخر قد ميّزوا بين «الجميل» و «الممتع»، فصفة -ممتعٍ- تابعةٌ للشخص وذائقته وتجاربه المعرفيّة والحسيّة، وما هو مُرضٍ لأحدنا قد لا يكون مرضياً لآخر، ومن هذا التميّز بالذات يتحقق حقّ كلّ فردٍ بالتذوّق.

وإذا كان العديد من الفلاسفة العرب قد تطرّقوا بدورهم لمفهوم الجمال، مثل الفارابيّ وابن خلدون وأبو حيّان التوحيديّ وأبو حامد الغزاليّ وابن عربيّ، فلقد جاءَت نظرتُهم إليه متساميةَ أحياناً، وصوفيّة أحياناً أخرى وعُنيتْ بالموسيقا والشعرِ والطبيعةِ والتفريقِ بين الجميل والجليل، أكثرَ من اهتمامها بتأويل وتحليل فنون الرسم والنحت، وقد يكون السبب هو تأثّر التوجّهات الفلسفيّة بالفكر الدينيّ، وما ينطوي عليه من تبعاتِ سؤالِ التحريم، فهذه الفنون كانت مغيّبة على نحو واسع في المنطقة العربيّة طوالَ سنوات عديدة في ظلّ الإسلام.

إذا تأملنا في إمكانيّة فهم هذه الجوانب من منظور الفكر والممارسات الفنيّة الشرقيّة، سنضع يدنا على الفارق الكبير. إنّ كمّاً كبيراً من الإرث الفنيّ الشرقيّ، العربيّ منه خصوصاً، ظلّ حتى فترة قريبة مرتبطاً بغرضٍ وظيفيّ إلى جانب سماته الجماليّة. أي أنّ المنتجات الفنيّة من أجل المتعة الجمالية بشكلٍ صرف مثل الرسوم ولوحات الخط العربي ولوحات التطريز التي كانت توضع في البيوت للتجميل البصري تحصي عدداً أقلّ مقارنةً مع المنتجات ذاتِ الغرضِ الوظيفيّ والتي تحمل قيماً جماليّة رفيعة مثل فنون تزيين الكتب والنقش على المعادن والرسم على الأقمشة والأواني المتعددة. فهل يحقّ لفلسفة الجمال أن تقوم بتحيّيد هذه المهارات لمجرّد امتلاكها وظيفةَ نفعية؟ في مقال فنون الشكل في سورية من الجذور إلى المعاصرة يقدّم الفنّان السوريّ إلياس الزيّات وجهة نظره النقديّة في هذا المقام فيكتب:

من هنا فالتصنيف والتفصيل، جرياً على العادة المدرسية في التفريق بين الفن الجميل والفن التطبيقي، غير جائز في بحثنا هنا، لأن التفصيل والتصنيف لم يخطرا، في الأصل، على بال الفنان في الشرق، لذلك فإنه، أي الفنان، كان يهدف إلى التواصل مع الغير بواسطة طبق مزركش أو دمية المعبود، وقماش منسوج بألوان متناغمة أو بناء رطب صيفاً دافئ شتاء يضيئُه قمر الليل وتُظِلُّه كرمة ونخلة. 

لكننا في الحقيقة نرى إنّ معظم هذه الفنون البديعة المنتمية إلى الحياة اليوميّة اندرجت تحت مسمّى الحرفة، دون أن يكون السبب الوحيد هو استخداماتها النفعيّة، إنما هنالك عواملَ أخرى جعلَت من العسير تصنيفها فنوناً مستقلّة غايتها فقط الإمتاع البصريّ، مثلَ ندرةِ التجديد وعدم وضوح خصوصيّة فنيّة لصنّاعها في معظم الأحيان. بل إنّ قياس جودتها يُستمدّ من مدى دقّة تقليدها لما سبقها، وهي بذلك تكون مكرّرة عن عمد بمهارةٍ وإتقان. ونحن هنا لسنا في ابتعادٍ عن مفهوم التذوّق، إنما ما نقصده هو استكشافٌ في صلبه. إن المرجعيات البصريّة الشرقيّة تستند في كثيرٍ من الأحيان على التكرار والتناظر والتقابل، بمعنى أنّ الذائقة الشرقية كثيراً ما تأنسُ كليّاتٍ تتشابهُ أجزاؤها وتتآلف، وكثيراً ما تميلُ إلى الأشكال ذاتِ التأطيرات الواضحة، وهذه الصفات بعض من أبرز السمّات الذوقيّة في النتاج الفنيّ المتوارث شعبيّاً والممتد إلى الفن المعاصر في نخبويّته لدى بعض الفنانيّن. وفي الاتجاهِ ذاته، يميل الذوق الشرقيّ إلى تفضيل المألوف، وإلى ما يتمكن من إدراكه وتعريفه دون تردّد، فيصبحُ «المألوف» على هذا النحو «جميلاً»، ولا يعوق لذة التذوّق عندئذٍ وجود َصورةٍ مسبقةٍ له في الذهن.

ولما كانت الذائقةُ، الجمعيّةُ إذا أمكننا القول، تتبدّل حسب الفترة التاريخية، فإنّ للجغرافية أيضاً أثرها، غير مقتصرٍ على الارتباط الثقافيّ لكل مجموعةٍ تتواجد في مساحةٍ واحدةٍ. حيث يظهر ذلك الأثر المتأصّل على المنتج الفنيّ، فضلاً عن العناصر الجغرافيّة التي تتمايز عبرها أعمال المناظر الطبيعية بين منطقةٍ وأخرى، على سبيل المثال عبر المناظير نقاط الرؤية، أو تتعدّد أدوار النور والظلّ في الأعمال حسب ما تشبّعت به الذاكرة البصرية للفنان. ويظهر الأثر جلياً أيضاً على الذائقة، وفي مثال بسيط نذكر كيف ينجذبُ سكان المناطق الباردة إلى الألوان الحارة في اللوحة، ويميلُ سكان السواحل إلى الألوان الحيّة الساطعة. وعليه فإنّه من المستحيل الإحاطة في نظريّة فلسفيّة جماليّة واحدة بما يعنيه الجمال بصورةٍ شمولية لكلّ البشر. 

وعلاوة عن أن «التذوق» و «الجمال» إشكاليان ومتغيران بحسب التوجّهات في كل حقبة، فهما يظهران في الفترةِ المعاصرةِ كمفهوميَن شائكَين أكثر من أيّ وقت مضى. إذ أنّه إلى جانبِ ظاهرةِ تداخل الفنون التي أصبحت شائعةً لدرجةٍ مربكةٍ لمتلقيّها، حيث قد يتطلب منه مثلاً فهمَ عملٍ نحتيّ واحدٍ القيام بعمليات متعدّدة كالنظر والحركة التفاعليّة وربما اللمس وقراءة نصوص توضيحية أو الاستماع إلى أصواتٍ مرفقة، هناكُ أنماط من الفنّ المعاصر تنزع بشكل متطرّف نحو المفاهيمية. وقد يبلغ هذا التطرّف حدّاً يشعر فيه المتلقي بالحيرة، ليس فقط لعدم تمكّنه من إطلاقِ حكم جماليٍّ أو حكم قيمة، وإنما تنجم لحظةَ الارتباكِ والحيرةِ هذه عن الفجوة الهائلة بسبب غيابِ أو نقصِ المحسوس. نستحضر على سبيل المثال ما قدّمه الفنان الأميركي جون كيج عام 1952 كموسيقى بعنوان «أربع دقائق وثلاثة وثلاثون ثانية» لمْ يسمع خلالها الجمهور إلّا الصمت وضوضاء حركاتِهم الخفيفة في القاعة، أو ما عرضه المفاهيّميون الأميركيين مثل عمل «واحدة وثلاثة كراسي» لجوزيف كوسوت عام 1965، الذي عَرضَ فيه كرسيّاً عاديّاً، مع صورة للكرسيّ ذاته وشرح معجميّ مكتوب بالإنكليزيّة لكلمة كرسيّ. 

يقفُ المتلقي إزاء هذهِ الأعمال متسائلاً عن مادة التذوق ومفتّشاً عنها، أعمال تبدو كأحداث أو رداتِ فعلٍ تعبّر من قبل مصمميها عن مواقفَ جماليّة وفنيّة من العالم والوجود والواقع الفنيّ، أكثر من أن تُفهم كقطعٍ فنيّة بالمعنى الذي ألفه البشر على مدار قرونٍ من الزمن. يتحوّل هنا فعل التذوّق ليتضمن لزاماً مجهوداً إضافيّاً يجب بذله لفهم العمل، ويناطُ بالمشاهد البحث عن المعاني والتأويلات والاستطرادات، وتصبح انطباعات الدهشة والحيرة والصدمة والألم مماثلةً الراحة والاستمتاع والسكون والرضى من حيث كونها أحكاماً ناشئة عن تجربة التذوّق الجماليّ «الاستطيقي». يترتب تلقائياً على هذه التحولات، والتي تسود الفنّ أكثر فأكثر، تبدلات في مهام فلسفة الجمال والظواهر والقضايا المدروسة ضمنها، وفي حين كانت تُعنى سابقاً بتعريف المفاهيم وتقريبِ ملامح هذه المفاهيم توافقياً، تسعى اليوم إلى تقريب المسافة بين المشاهدِ والعمل في ظلِّ غياب المحسوس. ولعلّ الذائقةَ الشرقيّة ما زالت في نقاءٍ حدسيّ لا يُستهان به، ولعلّها تكونُ مدخلاً إلى فلسفةِ جمالٍ عربيّة معاصرة، غير محكومة بمهادنة السلف من فلاسفة، وآخذة بالمرجعيات البصريّة الجماليّة المتوارثة.