أشهرٌ طويلة مرّت على بدء المفاوضات غير المباشرة بين الإدارة الأميركية وإيران، وذلك بهدف العودة إلى الاتفاق النووي الذي وقّع في عام 2015، والذي عُرِف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا). وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد أعلن في شهر أيار (مايو) عام 2018 انسحاب بلاده منفردةً من الاتفاق، واصفاً إياه بالكارثي، ليعيد بموجب ذلك فرض عقوبات وصفتها إدارته بالمشدّدة على طهران، التي عانى اقتصادها خلال السنوات الماضية بشكل كبير نتيجة هذه الإجراءات.
ورغم أنّ الإدارة الحالية في واشنطن أعلنت عزمها العودة إلى الاتفاق منذ الانتخابات، أي قبل تسلم بايدن منصبه في البيت الأبيض، إلا أنّ المفاوضات التي تجري في فيينا تبدو بالغة الصعوبة، إذ كانت إيران قد تخلّت عن التزاماتها تدريجياً منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، حتى أنها أعلنت منذ فترة قريبة وصول مستويات تخصيب اليورانيوم في مفاعلاتها النووية إلى نسبة 60%، لتفيد تقارير استخباراتية لاحقاً عن نيتها رفع نسبة التخصيب إلى 90%. تسمح هذه النسبة بتصنيع قنبلة نووية بعد تخصيب كميات كافية، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك إلى وصف إيران بأنها باتت دولة عتبة نووية دولة العتبة النووية هي دولة تمتلك التقنيات والموارد اللازمة لتصنيع قنبلة نووية، لكنّها لم تقم بذلك حتى الآن. ومن دول العتبة النووية في العالم كلٌّ من البرازيل واليابان وألمانيا، التي يقول خبراء إن كل دولة منها قادرة على تصنيع قنابل نووية خلال ساعات أو أيام قليلة وإن لم تقم بذلك حتى اللحظة. الأمر الذي يعني أنّ العودة إلى اتفاق عام 2015 في بنوده القديمة نفسها قد تكون بلا جدوى الآن. وهو ما بات الأوروبيون يعرفونه جيداً على ما يبدو، وهم الذين ينظرون إلى المسألة باعتبارها تهديداً مباشراً للأمن القومي لدول القارة.
يتحدث الكاتب الصحفي اللبناني، والخبير بالشؤون الإيرانية، مصطفى فحص للجمهورية.نت بهذا الشأن، مشيراً إلى النموذج الباكستاني: «قد نكون في حال وصلت إيران إلى إمكانية تصنيع سلاح نووي، أو إلى تصنيعه بالفعل، أمام نموذج شبيه بالحالة الباكستانية، حيث تقدم إيران تنازلات للعالم مقابل الحفاظ على برنامجها النووي». من جهته، يرى الخبير العسكري السوري المختص بالشأن الإيراني ضياء قدّور أن «وصول إيران إلى تصنيع السلاح النووي سيُطلق سباقاً جديداً للتسلح في الشرق الأوسط، خاصةً في منطقة الخليج، إذ ستسعى دول عديدة في المنطقة إلى الحصول على هذه التقنية».
إلى جانب الدول التي تحضر المفاوضات في فيينا، فإنّ دول المنطقة باتت أمام أوضاع جديدة، إذ تُظهر الولايات المتحدة اهتماماً أقل مع الوقت تجاه قضايا الشرق الأوسط، واستعجالاً للانتهاء من ملف مفاوضات الاتفاق النووي دون التركيز على أي بنود مرتبطة باستقرار المنطقة في الاتفاق. ذلك فيما تؤدي المماطلة الإيرانية إلى مخاوف جدّية من قدرتها على تصنيع سلاح نووي خلال أشهر قليلة قادمة، وسط صراعات خطيرة بالنسبة لدول الخليج في اليمن وصراعات غير محسومة في سوريا والعراق، ووسط تمدد نفوذ ميليشيات طائفية مرتبطة بإيران باعتبارها أذرعاً لهذا النفوذ وأدوات له في الإقليم. يحدث ذلك بينما تركّز الولايات المتحدة في سياساتها على منطقة جنوب شرق آسيا، استجابة لخطر نفوذ الصين المتزايد عالمياً باعتباره التحدي الأكبر أمام واشنطن خلال السنوات القادمة.
وكان كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني، وسفراء الدول الأوروبية، قد عادوا إلى فندق غراند فيينا حيث تجري المفاوضات يوم الإثنين الفائت، وذلك بعد يومين فقط من تعليق مفاوضات الجولة الثامنة من المحادثات التي تجري هناك من أجل الوصول إلى اتفاق. وفي حين لم يتم وضع موعد رسمي لانتهاء المفاوضات، فإنّ الأميركيين أكدوا على الحاجة للوصول إلى اتفاق خلال وقت قريب جداً، وذلك بحسب تصريحات الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس للصحفيين يوم الأربعاء قبل الفائت، 12 كانون الثاني (يناير)، عندما قال إنّ «الطريق أمام (المفاوضات) قصير للغاية، أسابيع وليس أشهر». وفي مقال نشر مطلع الأسبوع الجاري، قدّرَ محرر الشؤون الدبلوماسية في الغارديان باتريك وينتور فترة أسبوعين أمام المفاوضين للوصول إلى اتفاق، قبل انهيار المفاوضات غير المباشرة في فيينا.
وتجري المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران عبر سفراء الدول الأوروبية بالإضافة إلى روسيا والصين، وبشكل غير مباشر من خلال تبادل «لا-أوراق»، إذ ترفض طهران حضور مفاوضات مباشرة مع مندوبي الولايات المتحدة كنوع من إظهار التشدد، وهي أساليب معتادة من الأجنحة الأكثر تشدداً في النظام الإيراني، والتي تسلمت السلطة رسمياً مع وصول إبراهيم رئيسي إلى منصب رئيس الجمهورية بعد الانتخابات الأخيرة في شهر آب (أغسطس) من العام الفائت.
في هذا الشأن، يقول السيد مصطفى فحص خلال حديثه للجمهورية: «أرى أنّ إدارة بايدن ستستمر باعتماد النهج الدبلوماسي مع طهران حتى ولو فشلت الجولة الثامنة من المفاوضات، لكنّ الأزمة تكمن في أنّ إيران تطالب بأكثر مما تستطيع الإدارة الأميركية تقديمه، فيما الأخيرة منقسمة على نفسها إلى عدّة اتجاهات بشأن طريقة التعاطي مع الاتفاق النووي، وبشأن حجم التنازلات التي يمكن تقديمها، حتى وإن كان كل الأطراف في هذه الإدارة متفقين على ضرورة إنجاح المفاوضات. يؤدي هذا إلى غياب استراتيجية واضحة لدى هذه الإدارة للتعامل مع الملف النووي الإيراني».
يطالب الوفد الإيراني صراحةً بضمانات أميركية لعدم تخلي الإدارة المقبلة عن الاتفاق كما حدث خلال فترة حكم دونالد ترامب، وبالمقابل فإنّ الإدارة الأميركية تعلم تماماً أنّ مثل هذه الضمانات مستحيلة، لأنّ الكونغرس لن يوافق على تمرير ضمانات تقيّد الإدارات القادمة. وفي حين كانت طهران تشترط رفع العقوبات الأميركية التي فرضتها إدارة ترامب لبدء جولات من المفاوضات المباشرة، إلا أنّها تغاضت عن هذا الشرط من خلال محادثات غير مباشرة ترعاها الدول الأخرى الموقعة على اتفاق عام 2015، ليبقى شرط تقديم واشنطن ضمانات بشأن عدم الخروج من الاتفاق مستقبلاً العقبة الرئيسية التي قد تودي بهذه الجولة من المفاوضات إلى طريق مسدود.
يتابع السيد فحص في حديثه مع الجمهورية حول هذا الموضوع: «الولايات المتحدة قدّمت عدّة تنازلات مجانية لطهران، من بينها تخفيف الضغوط على مبيعات النفط الإيراني، وهو ما يقود إلى أوضاع ترتاح فيها طهران بالمماطلة خلال المحادثات الجارية».
وفي حين كان تغاضي الولايات المتحدة عن مبيعات النفط الإيراني إلى دول مثل الصين، منذ وصول جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض، عاملاً مخففاً للغاية من أثر العقوبات الأميركية، إلّا أنّ الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، الذي ينظر إليه العديد من الخبراء في الشأن الإيراني باعتباره خليفةً محتملاً لعلي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، يريد إظهار تشدد سياسي مناسب لموقعه اليميني المقرّب للغاية من الحرس الثوري. لكن بالمقابل، فإنّ نيّة رئيسي الوصول إلى كرسي المرشد ستدفعه إلى محاولة تحسين الأوضاع الاقتصادية المتردية للغاية في البلاد نتيجة العقوبات الأميركية، الأمر الذي كان دافعاً وراء توقيع إدارته لاتفاقات اقتصادية طويلة الأمد مع الصين، وإعلانها عن الرغبة باتفاقات شبيهة مع روسيا قبيل زيارة رئيسي إلى موسكو في شهر شباط (فبراير) المقبل. لكنّ هذه الاتفاقات لا تعني قدرة إيران على تحسين أوضاعها بالسرعة الكافية، بل يحتاج هذا إلى عودة العلاقات الاقتصادية مع أوروبا، فالأخيرة أقرب وأبرز مستهلكي النفط الإيراني، وكانت مصدراً كبيراً للاستثمار في السوق الإيراني على مدى عقود سابقة، إذا ما استثنينا فترات فرض العقوبات الدولية على طهران.
من ناحيتهم، يُظهر الأميركيون تمسكاً واضحاً بالوصول إلى اتفاق رغم العقبات العديدة والمماطلة الإيرانية، إذ يحضر الاتفاق كخيار وحيد لواشنطن أمام تحدي البرنامج النووي الإيراني. وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقها دبلوماسيون وشخصيات عامة (من بينهم وزير الدفاع السابق ليون بانيتا والجنرال ديفيد باتريوس)، والتي أشارت إلى أنّ على إدارة بايدن إظهار وجود عواقب خطيرة على إيران في حال انهيار المفاوضات، إلا أنّ التصريحات الأميركية لم تكن متشددة للغاية في هذا السياق، باستثناء تصريح وحيد لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أشار فيه إلى أنّ بلاده تدرس كل الخيارات المتاحة مع شركائها في حال فشل المفاوضات.
أمام كل ذلك، وبينما تواصل إدارة بايدن لوم إدارة ترامب على انسحابها من الاتفاق، فإنه لا يبدو واضحاً ما هي استراتيجية هذه الإدارة في حال وصول الجولة الثامنة من المحادثات إلى طريق مسدود، أو انهيار المفاوضات كليّاً. سيؤدي ذلك إلى تزايد التوتر في المنطقة، خاصةً أنّ الإسرائيليين يراقبون بحذر ما يجري في فيينا، وهُم في حالة من التأهب أمام تسارع البرنامج النووي الإيراني.
هنا يرى السيد قدّور أنّ إيران «تضع العالم والمنطقة أمام خيارين صعبين: الأول هو الوصول إلى اتفاق حول البرنامج النووي يؤدي إلى رفع العقوبات وحصول النظام الإيراني على دفعة اقتصادية كبيرة، في مقابل غياب الحديث عن نفوذ طهران في المنطقة أو برنامجها العسكري التقليدي. أما الخيار الآخر فهو فشل الاتفاق، والذي يعني أن إيران ستواصل سياسة الابتزاز، وتواصل تطوير سلاحها النووي الذي سيكون عائقاً أمام تحقيق أي استقرار في المنطقة».
على الجانب الأوروبي، الذي بدأ بإظهار بعض التشدد أمام الإيرانيين بدفع من تحوّل الموقف الألماني، فإنّ هذه العوامل المتراكبة تدفع دول أوروبا الثلاث التي تقود الجهود في المفاوضات (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) إلى محاولة إبرام اتفاق مؤقت أكثر واقعية بهدف إيقاف تسارع البرنامج النووي الإيراني، ما يفسح المجال أمام وقت أطول للمفاوضات حول اتفاق نهائي، إلّا أنّ الإيرانيين صرّحوا برفضهم التام لأي اتفاق مؤقت، ما يجعل السير في هذا الخيار الأكثر واقعية أمراً صعباً للغاية بدوره.
وكانت السعودية قد بدأت مفاوضاتها الخاصة مع إيران منذ فترة قريبة، وهو ما يعني عملياً اقتناع الرياض بأنّ المسار الذي تقوده الولايات المتحدة لن يقود إلى أي شيء، أو أنّه لن يتطرق إلى دور طهران في المنطقة بشكلٍ حاسم. وتحتلّ المخاوف من انهيار الاتفاق ووصول طهران إلى القدرة على إنتاج سلاح نووي موقعاً شديد الأهمية بالنسبة لدول الخليج، ما قد يقود إلى نقل سباق التسلح في المنطقة إلى مستوى جديد تحاول فيه دول الخليج تصنيع سلاحها النووي الخاص، وسط أوضاع شديدة التوتر سيكون انفجارها أمراً غير مستحيل.
ويشير الخبير ضياء قدور إلى أنّه في حال غياب مسألة النفوذ الإيراني في المنطقة عن أي اتفاق مقبل، فإن ذلك «سيؤدي إلى مزيد من تغلغل ميليشيات طهران خاصةً في سوريا، وإلى عدم الوصول إلى حلول في معظم الصراعات التي تشهدها المنطقة». أما الكاتب مصطفى فحص فيعتقد أنّ الأوضاع اليوم مختلفة عمّا كان عليه الحال عام 2015، إذ إن «نفوذ إيران الخارجي معيق لها بما يتعلق بالبرنامج النووي، ما قد يدفعها لتقديم تنازلات في المنطقة مقابل الحفاظ على تلك التقنيات التي وصلت إليها. طهران اليوم أمام خيارين نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها: إما تقديم تنازلات لحماية البرنامج النووي، أو تقديم التنازلات في مشروعها النووي للحفاظ على استقرار النظام الحاكم، خاصةً وأنّ التهديدات الحقيقية التي تواجه النظام الإيراني اليوم هي تهديدات داخلية بالأساس قبل أن تكون خارجية بسبب الأوضاع الاقتصادية».
قد تنتهي الأسابيع المقبلة لنجد أنفسنا في المنطقة أمام أوضاع غير مسبوقة من التوتر العسكري والسياسي، وذلك في حال فشل المفاوضات بين طهران وواشنطن، خاصةً مع وجود تحذيرات وغارات إسرائيلية على مواقع إيرانية في سوريا، ومع استمرار المناوشات بين قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش الذي تقوده الولايات المتحدة والميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق. أما في حال استطاعت معجزةٌ أن تدفع للوصول إلى اتفاق مؤقت أو دائم، فإنّ هذا سيعيد طرح أسئلة جوهرية حول الاستقرار في الشرق الأوسط ودور النفوذ الإيراني في تقويضه.
تسعى دول المنطقة للوصول إلى إجابات حول هذه الأسئلة، فيما يدفع ابتعاد واشنطن عن مسرح الشرق الأوسط تدريجياً جميع الأطراف للبحث عن استجابة للتهديدات التي تخلقها طهران في المنطقة، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. كل ذلك ما يزال مرهوناً بما سيجري في جولات المحادثات في فيينا خلال الأيام المقبلة، أما المؤكد فهو أنّ التحدي الذي يخلقه البرنامج النووي الإيراني لم يعد مماثلاً لما كان عليه عام 2005 أو 2015، وهو ما يدفع جميع الأطراف المعنية إلى البحث عن حلول جديدة لأوضاع شديدة الحساسية.