تقديم المترجم
فيما يلي ترجمة لمقال «الأمومة اليوم» للمحللة النفسية الفرنسية، بلغارية الأصل، يوليا كرَستيفا. نُشر المقال عام 2005 في كتاب بعنوان أحلام النساء (Rêves de femmes) بإشراف البروفيسور رينيه فريدمان، وهو كتاب يجمع عدة مؤلفين من محللين نفسيين وأطباء توليد وطب نسائي.
جوليا كرَستيفا نسوية وكاتبة وفيلسوفة أيضاً. تشكل مساهماتها الأساسية في نظرية الأدب والنقد الأدبي مصدر شهرتها الرئيسي، وهي من صكَّ مصطلح «التناصّ» أو (العَبر نصيّة / Intertextual) في دراساتها الأدبية البنيوية.
لا يكتفي المقال بطرح سؤال الأمومة كما هي اليوم، أهميتها، دورها أو مشكلاتها، بل يقدم تحليلاً نفسياً للأمومة، أو بوجه أدق للموقف الأمومي وما يرافقه من تغيرات نفسية لاواعية ترافق المرأة منذ لحظة الحمل.
يأتي هذا المقال في عالمنا اليوم الذي، كما تراه كرَستيفا، تخطى مرحلة الجهل التي عاش فيها الإنسان لقرون طويلة، الجهل الذي جعلَ المرأة عرضة للتقديس والتدنيس في آن. فالعلم الحديث، الذي اكتشف كثيراً من أسرار عملية الحمل والإنجاب، قد فتح باب التحرّر، من سلطة «لغز التكاثر»، أمام الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً، دون أن يكون واضحاً بعد، أي مستقبل يَعِدُ به ذاك التحرر.
فعندما كان الإنسان يجهل كيف يتم تَشكُّل الجنين وعلاقة ذلك بالدورة الشهرية ومواعيد الإباضة وغيرها، كان عرضة لكثيرٍ من التفسيرات الخاطئة والمشوّهة عن الحمل والاجهاض، فصحيح أن ذاك الجهل جعل مكانة المرأة مقدّسة كونها تقوم بعملية لا يستطيع الرجل فهمها، إلا أنها أيضاً كانت عرضة لتحميلها المسؤولية في الحالات التي لا يحدث فيها حمل بعد جماع، أو في الحالات التي ينتهي الحمل فيها بالإجهاض.
ترى كرَستيفا أن وظيفة الإنجاب، التي يأخذ فيها الرحم مكانا رئيسياً، لا تزال تتمتّع بالتقديس، في الوقت الذي تتراجع فيه مكانة التديّن في العالم يوماً بعد يوم. فصحيح أننا بتنا نعلم الكثير عن آليات الإلقاح والخصوبة، إلا أن التكاثر، أهم العمليات البيولوجية بالنسبة للجنس البشري على الإطلاق، لا يزال مرتبطاً بالمرأة وقدرتها على الحمل، ولا يزال يفرض على العلاقات البشرية أثره الواضح، كما يؤثّر ما يرتبط به من دافع جنسي وإنجاب وتربية للأولاد، ليس على النساء فقط بل والرجال أيضاً. إلا أن التغيرات والتحديّات التي يفرضها «التكاثر» على المرأة، في الحمل والإنجاب وبناء علاقة مع الطفل، تشكل سمة خاصة لحضارتنا اليوم. ففي ظل التشوّش القيمي الذي يعيشه العالم اليوم، يبدو أن الاتفاق القيمي الوحيد هو اتفاق على «حق الحياة»، التي تشكّل أرحام الأمهات مصانع لها. وبعد حلّ لغز الحمل والانجاب إلى حدّ بعيد، باتت المسؤولية الملقاة على عاتق الأم مرتبطة بحرية قرار الإنجاب من عدمه. لكن ما الذي يدفع إلى ذلك القرار؟ ومتى تكون الإجابة عليه «متنوّرة» كما تريدها كرَستيفا؟
يُعنى النقاش حول الأمومة «اليوم» بالعوامل الاقتصادية والسياسية، فقضية الإنجاب «اليوم» متعلّقةٌ بالدعم الماديّ المتاح، وبطول المدة التي يُسمح فيها للأب أو الأم أن يبتعدوا عن عملهم، ليكونوا مع أطفالهم. ومن ناحية أخرى، تهتم المرأة «اليوم» عندما تقرّر الإنجاب بحسابات متعلقة بعمرها وتوافر علاقة مستقرة. وكثيراً ما يُتّخذ قرار الإنجاب، كنوع من الخطوة «الطبيعية» في تطور أيّة علاقة، بل وكشرط لاكتمال التجربة الحياتية الشخصية سواء للرجل أو للمرأة. إلا أنه من النادر أن تفكّر امرأةٌ ما بالأعباء النفسية للأمومة والتغييرات والتحديات الذاتية التي ستعيشها، إذ تصبح أمّاً إلى الأبد. فطريقة تعامل الأمهات مع تلك التحديات ليست، كما يعتقد البعض، فطرية وموروثة، أي أنها ليست منقوشة في جوهر الأنوثة، بل تتعلمها المرأة من خلال التطبيق، وتصير الأم أُمّاً من خلال ممارسة الأمومة.
لا شكّ أن الثقافة تمرّر نصائح التربية للأمهات كي يقمن بدورهنّ بطريقة مناسبة، إلا أنّها نادراً ما تعترف بالأمومة كتحدٍ نفسي تخوضه المرأة، بل غالباً ما يُروَّج للأمومة كعلاقة ما ورائية تسمو فوق أي دافع أو عاطفة إنسانيّة. فلا مكان في الخطاب المجتمعي حول الأمومة اليوم، لغيرة الأم من ابنتها مثلاً، أو محاولة سيطرة الأم على حياة ابنها والتحكم به، أو لرغبة الأم بالتحرر من موقع الأمومة ومسؤولياتها في لحظة ما من حياتها، أو للعواطف المُركَّبة التي ترافق عملية التربية. التنوعات السابقة المذكورة، تعتبر إما شاذّة أو مَرَضيّة، أو يتم تجاهلها وتفسيرها بطرق تحاول تنقية الخطاب الأمومي والعلاقة بين الأم وطفلها من كل أدران النفس البشرية.
في كل الأحوال، تشكل تلك القضية موضوع حوار نسوي ساخن، يتمحور حول دور الأمومة ذاك؛ هل تحرّر الأمومةُ المرأةَ وتفتح لها مجالات عاطفية ونفسية جديدة من خلال تجربة الأمومة الجسدية والنفسية التي لا مثيل لها؟ أم أن دور الأمومة هو أحد العوامل الرئيسيّة للسيطرة على المرأة ورغباتها الشخصية من خلال ربطها بدور رمزي، رضيَ المجتمع الذكوري به لها ليأسرها فيه إلى الأبد، ويُحجّم من تجربتها الخاصة. لا شك أن الإجابة معقّدة وتمتد على عدة مستويات، إلا أن غياب خطاب نفسي مركّب عن الأمومة بكل ما تجلبه من إيجابيّات وسلبيّات إلى حياة المرأة، هو حسب كرَستيفا النقصُ الأساسي فيما يخص الأمومة في عالم «اليوم». فالاكتفاء بالانتصار للحرية الجنسية والمساواة بين الجنسين، لا يقدّم جواباً كافياً لسؤال الأمومة، بل ربما يعيق محاولة البحث عن جواب تجريبي جدّي.
لذلك تعتقد كرَستيفا أنه لا يمكن اختزال الأمومة بـ«الرغبة بإنجاب طفل»، التي يبدو أن فرويد قد اكتفى بها في بحثه حول الأمومة، حيث أوضحَ كيفية نشوء تلك الرغبة عند الطفلة الصغيرة بعد المرحلة الأوديبية، واعتبرها طريقاً لخروجها من تلك المرحلة التي تتسم في نهايتها بخيبة ناتجة عن استبطان الفتاة للتحريم الجنسي (قانون تحريم السفاح) الذي يجعل الأب مستحيل المنال، مما يجعل رغبة الإنجاب أساسية لتعويض هذا النقص. تلك الرغبة القديمة تجد، حسب فرويد، طريقها لاحقاً عن طريق علاقات الحب والجنس نحو التحقّق (أي الإنجاب). فبغض النظر عن مصدر تلك الرغبة، إلا أن الأمومة لا تنتهي هنا بل بالأحرى تبدأ.
لا يمكن الاعتماد، بالمقابل، على البيولوجيا فقط في الإجابة عن سؤال الأمومة، حتى لو اعتقدنا، كما يفعل كثيرون من المنبهرين بالعلوم الطبيعية اليوم، أن للبيولوجيا أجندتها الخاصة التي تعمل وفقها لتوجيه البشر فرادى أو مجتمعين كجنس بشري باتجاه أو بآخر. إذ يستسلم أولئك لمصطلح «الغريزة» كبرنامج منظّم ومخزّن في المادة الوراثية في مكان ما، موجِّهاً الكائن بما تقتضيه متطلبات التطور والبقاء. مصطلح الغريزة هذا يبقى فضفاضاً، غامضاً، منذ قرون، بل وفي واقع الأمر لا تمكن بعد رؤيته كمصطلح علميّ أساساً، كون آلياته الرئيسيّة، إن وجدت، غير مكتشفة بعد.
في كل الأحوال، حتى من يعتبر الأمومة غريزة «طبيعيّة»، فهو لا ينكر أن عوامل أخرى كثيرة تشارك في رغبة الإنجاب، وإلا كيف يمكن تفسير الرغبة بعدم الإنجاب، التي لم تعد نادرة بين النساء في عالم اليوم؟! بل وحتى لو سلّمنا بتوجه غائيّ للبيولوجيا، يسيطر على سلوكيات الإنسان في مسألة التكاثر (الدوافع البيولوجية الموجهة للانجذاب الجنسي، وربما الرغبة بتأسيس أسرة، أو حتى الرغبة بالإنجاب نفسها وغيرها)، فسيكون علينا طرح السؤال التالي: لماذا تدفعنا «الطبيعة» إلى يومنا هذا للتكاثر، وقد ازداد تعداد البشر في العالم بنسبة هائلة منذ حوالي قرن من الزمن؟ ألن يكون حريّاً بالطبيعة أن توجّه السلوك البشري نحو عدم الإنجاب؟ أو أن توجّه الأم إلى عدم الاعتناء بالأطفال؟ أو حتى، باعتبار أن البيولوجيا تغلب رغبة الإنسان ودوافعه النفسية حسب تلك النظرة، قتلهم؟ أم أن الذّكاء الطبيعي ليس كافياً ليجد طريقه الجديد في حال تغيرت ظروف الجنس البشري؟
رغم ذلك، لا يمكن القول إن الأمومة بعيدة عن البيولوجيا تماماً، بل إن الأم تتأثّر بلا شك بالتغيّرات الهرمونية المرافقة لعملية الحمل والولادة، والتي تستمر خلال مرحلة الأمومة الأولى، لكن تلك العلاقة مع البيولوجيا لا تشكل إلا أرضيّة تبني عليها الأم علاقة الولَه مع طفلها. لذلك يمكن القول، حسب كرَستيفا، أن الأم تقع على مفترق طرق بين البيولوجيا والمعنى، فبعد انتهاء العمليات الفيزيولوجية الأساسيّة المرافقة للحمل والولادة والإرضاع، يجب على الأم أن تسبغ المعنى المناسب لتطور حياتها وذاتيتها، على علاقتها بوليدها الجديد، وذلك منوط بذاتيتها أولاً، ولاحقاً بذاتية الطفل. في واقع الأمر، تنطوي الأمومة، في واحدة من أصعب تحدياتها كما سنرى، على فكّ الارتباط البيولوجي بين الأم والطفل، والبحث عن أشكال أكثر إبداعية تفتح أمام الطفل سبل التحرّر والتفردُن.
بشكل عام، اهتمّ التحليل النفسي حتى وقت متأخّر بسؤال الأب، وبقي سؤال الأمومة معلقاً بين قطبين، الأول ينطلق من كون الأمومة شيئاً طبيعياً بسيطاً لا يحتاج فهماً خاصاً، والثاني يسعى لاختزال السؤال إلى الوظيفة الأموميّة، أي إلى ما يجب أن تقدّمه الأم لطفلها ليتمكّن من النمو والتفتّح (الأم الجيّدة كفاية، عند وينيكوت). حتى الأمّهات، يتآمرنَ، حسب كرَستيفا ، بشكلٍ لاواعٍ، فيُضخمن الجانب الجماليّ والمقدّس للحمل والطفولة، لكي يتجنّبن السؤال عن ماهية الحبّ الأمومي، الذي وكما يعلم الجميع يشكّل القالب النموذجي الذي تصبّ فيه كل علاقات الحب والصداقة، فحبّ الأم يشكّل، بالإجماع، أصدق أشكال الحبّ وأقلّها فساداً. وهكذا بقي سؤال الأمومة سؤالاً مغلقاً على الاجتهاد والتجريب.
في هذا السّياق ترسم كرَستيفا ملامح العاطفة الأمومية، بل لنقل ملامح ذاك الشيء الذي يربط بين الأم وطفلها، والذي يتجاوز العاطفة. فعند كرَستيفا لا يمكن للأمومة أن تكون نزعة بيولوجية (غريزة) بحتة، إلا أنها أيضاً ليست عاطفة بسيطة (حب أو كره أو فخر …)، بل إنّ ذاك الذي تكنّه الأم لطفلها مركّبٌ من عدة عواطف، ولا ينحو بالعادة سلوك العواطف البسيطة، بل هو موقف نفسيّ تجد الأم نفسها فيه قد خضعت لتغيّرات جوهرية، قد تُغيّرها إلى الأبد، وقد ارتأت كرَستيفا تسميته الولَه الأمومي (maternal passion)يمكن ترجمته «الشغف الأمومي»، لكني اخترت ترجمتها بالولَه، على اعتبار أن معاني كلمة «ولَه» في المعجم تشمل التعلق المجنون واختلاط مشاعر الحب والشوق مع النفور والذنب والألم.، وهو ذو دينامية داخلية يكون لها الأثر الكبير على تطوّر الطفل وحبّه لنفسه وقدرته على التفكير.
الوله مركّب من عواطف متناقضة، يصل أحياناً حدّ الجنون، وتلعب فيه القوى النفسية النرجسية والعدوانية دوراً لا يقلّ عن الحب والحنان والشوق. ذاك الوله لا يتعلّق بالضّرورة بالارتباط البيولوجي عن طريق الإنجاب بين الأم وطفلها، بل يمكن أن يتشكل في علاقة أمّ مع طفلها بالتبني، أو حتى عند بعض النّساء اللاتي يمارسن بعض المهن كالتعليم والتمريض.
تستعين كرَستيفا بصندوق أدوات ومفاهيم التحليل النفسي، على اختلاف مدارسه وتوجّهاته النظرية، من النرجسية، إلى التسامي، إلى التماهي الإسقاطي والعدوانية وغيرها، لتفكّك المراحل الرئيسيّة لتشكّل الولَه الأمومي ومن ثم لتفسير ديناميكيته الداخلية.
تبدأ المرحلة الأولى من مراحل تشكّل هذا الولَه، وتورّط الأم فيه، في فترة الحمل والفترة الأولى بعد الولادة، حين تكون العلاقة أم – طفل علاقة انصهاريه لا يميّز فيها الطفل بين جسده وجسد الأم. إذ توضّح كرَستيفا، كيف تعمل قوى الأنا النرجسية الموجّهة للذات (بقسميها: أي أنا الأم نفسها وأنا الطفل الذي لازال جزءاً من الأم) على زعزعة هوية الأم، فالأم تستثمر نرجسيتها بنفسها وبطفلها كجزء منها، وهذا يؤدي إلى تعزيز نرجسيتها (استثمار)، لكنه استثمار موزَّع، يُظهِر ويُوضِح الانقسام الجديد الطارئ على الأنا. يمكن لهذا الفهم أن يلقي الضوء على المشاعر المتناقضة التي تشعر بها الحوامل، منها الإيجابية (مشاعر جسدية جنسية ناتجة عن تعزيز نرجسي على سبيل المثال)، ومنها السلبية (مشاعر ضياع وخوف من المستقبل وغيرها، ناجمة عن الانقسام الداخلي في «أنا» الأم)، وهذا ما يفسر أيضاً اعتبار كثيرات من النساء أن الحمل هو الجزء الأسهل من تجربة الأمومة.
لكن تلك المرحلة تُكتب لها النهاية عاجلاً أم آجلاً، إذ لا بدّ في وقت ما أن ينفصل الطفل عن ذات الأم ليصبح ذاتاً مستقلة، يحدث ذلك حسب التحليل النفسي اللاكاني، بعد تدخّل الأب، الذي يتدخل برمزيّته، لا بشخصه، ليفصل تلك العلاقة الانصهارية التي كانت تجمع الأم بطفلها في المرحلة الأولى بعد الولادة. بعد عملية الانفصال تلك تجد الأم نفسها، فجأة، في علاقة مع كائن صغير غير واضح الشكل بعد. في تلك المرحلة، التي تكون فيها كثيرات من النساء عرضة للاكتئاب، تعاني الأم من فراغ أو نقص تشعره في ذاتها. تمثّل كرَستيفا على هذه المرحلة بالعديد من لوحات الأمهات الحوامل، التي تنظر فيها الأم إلى الفراغ المثبّت في نقطة ما بعيدة (أو ربما إلى الفراغ في داخلها) دون أن ترى ما تنظر إليه، لوحات من قبيل رسوم «العذراء وطفلها» لبيليني أحد رسامي عصر النهضة في إيطاليا، حيث تظهر تلك النظرة التائهة بوضوح جليّ.
بعد تدخّل الأب للإيعاز بفك الانصهار، تبدأ المرحلة التالية، التي تتميّز بعملية طرد الطفل من ذات الأم، وهي نفسها بداية عملية تشكّل ذات الطفل! تَدخُّل الأب يحدث، كما أسلفنا، على الصعيد الرمزي، وهو يحدث أساساً في ذات الأم، من خلال موقع الأب في لاوعي الأم، أي كما ترى الأم وتعيش الرمز الأبويّ في علاقتها مع زوجها وأبيها.
فحتى يصبح الطفل ذاتاً مستقلّة، لا بدّ له الانفصال عن أمه، قبل حتى أن يتعلم الكلام، والمشي. عملية الفصل عن الذات تلك، أساسية، وإلا لما اعترفت الأم بطفل خارجها (نراها في بعض الحالات المرضية على هيئة إنكار الولادة أو الحمل ذاته كما عند الأمهات اللاتي يدخلن في نوبة ذهان قبل وبعد الولادة). ذاك الطرد الحتميّ من الذات يطبع الولَه الأمومي منذ نشأته بطابع «سلبي»، فذاتُ الطفل هي وليدة الطرد من فردوس العلاقة الانصهارية مع جسد الأم.
وما إن تدخل الذات المستقلّة للطفل في الصورة، حتى يصبح الحوار بين الذاتين ممكناً، حوار بين الأم والطفل. يتميز هذا الحوار بكونه حواراً لاواعياً، إن صحّ التعبير، تنتقل فيه الإشارات وفق آليّات نفسية لاواعية، بين الأمّ وطفلها وبالاتجاهين.
الحوار اللاواعي هذا، يحدث أساساً من خلال آلية «التماهي الإسقاطي»، التي صاغتها ميلاني كلاين، والتي تتماهى وفقها ذات الطفل مع رغبة الأم التي تُسقِطها على طفلها، أي أنه يتبنّى ما تسقطه الأم عليه كأنّه صادر عن ذاته وبالتالي تصبح رغبة الأم رغبته أيضاً وهكذا. الرسائل المتبادلة تصل عن طريق ابتسامة، أو صوت أو إشارة من الأم إلى الطفل، وبالعكس. لكن إن كان الموضوع يجري بهذه العفويّة والآليّة، فسيبرز السؤال التالي: كيف تقوم الأم إذن بفلترة العواطف السلبية؟ أي ما السبيل للتعامل مع الرغبات العدوانية والتدميرية التي يمكن أن تصدر عن لاوعي الأم؟ تتدخل هنا آليّة أخرى معروفة في التحليل النفسي منذ نشأته مع فرويد، وهي التسامي، وهي آلية نفسية لاواعية تُغيّرُ مسار الدوافع اللاواعية إلى طرق جديدة مما يكفل تحوّل قوة الدوافع العدوانية لتصب في سُبُل الحنان والرعاية.
يكفلُ هذا الحوار اللاواعي تضخيم الدوافع الأمومية، فالطفل يغذّي دوافع أمه بنسخها وإعادتها لها، في حين يغيّر التسامي وِجهتها لتصبّ في المحصّلة في مشاعر الحنان تجاه الطفل. فَشَلُ التسامي عند الأم يُلَاحظ سريرياً عند الأمهات المكتئبات حديثات الولادة اللاتي يَخفن على أطفالهن من أنفسهن إذ تراودهنّ أفكار وتخيّلات حول أذيّة الطفل وموته. بشكل عام تعيش الأم ما يشبه المشاعر التي نجدها عند مريضات اضطراب الشخصية الحديّة اللاتي ينتقلن بتردّد وجدانيّ دائم بين الحبّ والكره في العلاقات مع الآخرين، حتى منهنّ الأمهات اللاتي لا يعانين سريرياً من اكتئاب أو ذهان.
لا يعني ذلك طبعاً، أن ما يصل إلى الطفل هي المشاعر الإيجابيّة فقط أو السلبيّة المتسامية، بل يحدث طبعاً أن تنتقل مشاعر الغضب ورغبات التملك والعدوان وغيرها من الأم إلى الطفل وبالعكس.
يمكن القول إذن، أن الولَه الأمومي يتكوّن حتى هذه المرحلة من التوتّر القائم بين مشاعر تماهٍ نرجسي مع الطفل من جهة، وعملية طرد/فصل الطفل عن الذات من جهة أخرى.
تُميز كرَستيفا بين تيّارين رئيسين للتحليل النفسي منذ نشأته، وهما التيّار الذي يعنى بعلاقة الذات مع المحيط (أشخاص كانت أو أشياء)، وينطلق في تحليل النفس من فكرة أنها بحاجة دائمة لتأسيس علاقات مع الأغراض المحيطة، وتدعى نظرية العلاقة مع الأغراض (Object-Relation Theory). أما التيار الثاني فهو الذي ينطلق من دوافع الذات لتحليلها، ويقوم على تحليل الدوافع الداخلية التي تعتبر جزءاً رئيسياً لا يتجزّأ من النفس، وتدعى نظرية الدافع (Drive Theory).
تعتقد كرَستيفا أنه ليس من الصدفة أنَّ أهمّ المحلّلات النفسيات (ما أسمتها بالعبقرية الانثوية) قد توجّهن عموماً إلى نظرية العلاقة مع الغرض/الشيء (أهمّهن في هذا المجال ميلاني كلاين)، وأنّ المحللين الذكور قد توجهوا باتجاه نظرية الدافع وسرديات الذات. فذاك الميل المختلف بين النظريتين متعلق في رأي كرَستيفا بتجربة الأمومة، إذ أن المحللات ذهبن لافتراض وجود علاقة مع الأشياء، في وقت مبكر جداً من عمر الطفولة، في حين رأى المحللون الذكور أنّ ذات الطفل في ذاك العمر لم تشكل علاقات مع المحيط، بالمعنى المعروف بعد، بل تعتبر «علاقته» امتداداً نرجسياًّ في جسد الأم يعيشه الطفل في تلك المرحل كأنه جسمه هو.
لا تبقى الأم أسيرة الولَه هذا، موجهة كل حياتها إلى طفلها مما يضعها على الحدود مع الجنون، ويجعلها مأسورة بوظيفة الأمومة المستحيلة بمعنى أو بآخر. كَجزء من تجربة الأم، تبرز عملية نفسية مع الوقت أسمتها كرَستيفا «نزع الولَه»، وهي عمليّة يتمّ فيها سحب استثمار الولَه في طفلها لتسمح لنفسها بالدخول في علاقات حبيّة متعددّة مقابل الوله الذي يربط ذاتين ببعضهما، وهو أمر ضروري لنموّ الطفل، لكنه يعقّد في الوقت نفسه علاقة الأم بطفلها أكثر فأكثر. وتلك الحاجة البنيوية لعملية نزعِ الولَه لا تأتي من مصدر خارجي، بل من تجربة الأمومة نفسها. لذلك تقترح كرَستيفا ثلاثة عوامل بنيوية في تجربة الأمومة، تهيّئ الأرضية لحدوث نزع الوله هذا. العوامل الثلاثة هي: العلاقة مع الأب واكتسابُ الطفل للّغة والزمنية.
أولاً، فكما رأينا يشكل الأب برمزيّته في مرحلة معيّنة من تطوّر العلاقة بين الأم وطفلها عاملاً مهمّاً من العوامل التي تؤدّي لانفصال الأم عن الطفل وهو في علاقته الانصهاريّة مع الأم. لاحقاً يشكّل موقع الأب عند الأم، أي الأب كما هو متمثّل في لاوعي الأم، مصدراً لعمليّة نزع الوله، وتلك الصورة الأبويّة، ليست متعلّقة فقط بالزوج (أب الطفل) بل بوالد الأم، أساساً، وبالتالي بالصراعات النفسيّة الأولى غير المحلولة عند الأم، أي بما يتعلّق بما يسمى بالمرحلة الأوديبية عند الأم في طفولتها. ترى كرَستيفا هذه المرحلة كفرصة لحلّ الصراعات اللاواعية عند الأم، التي بقيت مفتوحة مذ كانت الأم طفلة صغيرة، إذ ستكون الأم، من خلال انعكاس ذاك الصراع في مرآة طفلها، قادرة، إلى حد ما، على تحليل صراعاتها أو معاودة عيشها واختبارها من جديد.
يعيش الأب كذلك تلك الإعادة لشريط الماضي مع الطفل، يجد نفسه في موقف «مثلثي» (أب، أم، طفل) مشابه تماماً لموقف الأوديب الذي عاشه في طفولته لكن من موقع الأب، إلا أن ذلك يأخذ عند الأم بعداً وجوديّاً ونفسياً خاصّاً، إذ يهيّئ لعملية نزعِ الولَه وبالتالي تَحوُّل العلاقة بين الطفل والأم إلى شكل أكثر تعقيداً.
ثانياً، من خلال اكتساب اللغة، تعيد الأم تعلّم اللغة من جديد، ومن خلال ما أسميناه بالحوار اللاواعي، الذي يبرز كنتيجة مباشرة لعملية التماهي الاسقاطي، تأخذ الأم موقع أمّها في الماضي، لتكون شاهدة على عملية تعلّم اللغة كما حدثت في الماضي عندها. تنظر الأم باهتمام شديد إلى فم الطفل وهو يحاول لفظ الكلمة أو إعادة صوت ما، تكرّره، تنقّحه وتعيده كصدى لصوت الطفل بعد إضافة ما تعتقده ناقصاً. تعيد الأم عملية ربط الأصوات بالمعاني، تلك العملية القسرية التي يخضع لها الطفل، بعد أن يكون قد تحدّث لفترة بلغته الخاصة، دون أخذ مرجعية للمعنى من لغة أو ثقافة ما.
وهنا نلاحظ الاختلاف الأول الذي ترسمه كرَستيفا بين الموقف الأمومي والموقف الهيستيريتختلف دلالة مصطلح هيستيريا كثيراً حسب الفترة التاريخية ومدارس العلاج النفسي، فالهيستيريا في الطب تشير إلى تمظهر الأعراض النفسية بطريقة مسرحية استعراضية على شكل أعراض جسدية أو نوبات هيجان وإغماء، أما في التحليل النفسي الفرويدي فهي نمط من نمطي العصاب الرئيسيين، يتميز بكبت صراعات المرحلة الفموية. في التحليل النفسي الحديث، يشكل الموقف الهيستيري أحد طرق تنظيم الرغبة اللاواعية، المنتشر بشكل أكبر عند النساء، مقابل الموقف الوسواسي الذي نجده عند الذكور بنسب أكبر.، فالهيستيريّة تفشل في ردم الهوّة بين مفهومٍ ما وما يثيره من شعور داخلي (وهو ما يسمى في العلوم المعرفية: عدم التطابق)، أو بين المعنى كما تقدمه الثقافة ويصيغه النظام الرمزي الاجتماعي، وبين الشعور الذي يثيره ذاك المعنى (أي المتعلق بذاتية المرأة بشكل مباشر). أي أنها تعيش الهوّة بين الكلمة ومعناها، أو بين الدّال والمدلول، كما لو أنها مشكلتها الخاصة، وتفشل في إدارتها كمشكلة كونيّة في اللغة كما يراها التحليل النفسي البنيوي. أي أن الهيستيريّة مريضة بالأمل بالقدرة على قول كل شيء كما تقصده تماماً. مريضة بالأمل باللغة كوسيلة تواصل أمينة وكاملة.
أما الأم، فهي قادرة، من خلال التحدّث بلغة طفلها، في بداية تعلّمه للغة، من خلال تماهيها مع أعضاء النطق عنده كفمه وحنجرته ورئتيه، على إيجاد صيغة لحل مشكلتها مع عدم التطابق تلك. ويمكن القول إذن، إن تجربة الأمومة تهيّئ الامكانية للشّفاء من الهيستيريا، وتعليم المرأة الكلام لطفلها يعمل كترياق ضد الهيستيريا، فهي تختبر الفجوة بين الدال والمدلول في عمليّة التعلّم تلك وتتعلّم قبولها دون ذنب أو معاناة.
العامل البنيوي الثالث الذي يحثّ الأم على عملية نزع الوله الموصوفة، هو مسألة الزمنية، أو الطابع العابر للأشياء، فهي تدرك منذ البداية أن حياتها منتهية حتماً يوماً ما، بل وأن حياة طفلها أيضا محدودة، وتدرك لذلك أن عملية الخلق التي ساهمت بها، محدودة بفترة زمنية معينة. ذاك الشعور بزمنية أمومتها والطابع المؤقّت لحياة طفلها يترك الأم في قلقٍ شديد من جهة (من سيعتني بطفلي بعد موتي)، لكنه يمنحها أيضاً فرصة لبداية جديدة. طفل جديد يعني بداية جديدة، طريق جديد وحياة جديدة. بداية جديدة كليّاً بهذا المعنى، هو شيء تستطيع الأمهات فقط فعله، وهذا ما يشكل الأساس الفلسفي للأمومة، حسب كرَستيفا. التحرر من الزمنية يمر من خلق بداية جديدة، أو كما يمكن القول على ما أظن: «الزمن الأمومي هو زمن بدايات حيوات جديدة، يخلقها الجسد الأمومي».
تلك العلاقة بين زمنية الحياة والتحديات التي تفرضها على الإنسان (خوف من الموت، ضغط الإنجاز، الصراع على البقاء، اللامعنى المرتبط بحتمية الزوال … إلخ.) من جهة، والأمومة من جهة أخرى، نجدها في الأخيولات الذكورية، خصوصاً، حول العودة إلى رحم الأم، والانصهار مع الأم من جديد، كنهاية لكل معاناة وألم في الحياة.
إن حريّة الطفل باكتسابه شخصية وعلاقات مستقلّة عن الأم، ما هي إلا انعكاس لتحرّر الأم من قلق زمنية الحياة. فالأم التي تنجز عملية نزع الوله، تحرّر الطفل من ضغط علاقته الفريدة مع الأم، إلى علاقات متعددة مع الكثير من الأشياء والأشخاص والأهداف في الحياة. برأيي كرَستيفا، لا يمكن للطفل أن ينطلق في حياته ليسلك دروب إبداعه الخاصة دون أن يتحرّر جزئياً من ضغط العلاقة مع الأم. نزع الوله إذن، مرتبط بزمنية الحياة، بمعنى أن نجاة الطفل في حياته المستقبليّة وقدرته على تعلّم العيش والدفاع عن نفسه والحفاظ على حياته يصبح، في مرحلة معينة من حياة الطفل، مرتبطاً ارتباطاً أساسياً بتحرّره من ولَه الأم.
من وجهة نظر التحليل النفسي، عملية نزع الولَه مؤسسة على التسامي، فكلما كانت الأم أكثر قدرة على التسامي، كلما استطاعت تحويل مشاعر التملّك والتعلّق والاعتماد إلى أشكال أكثر ملاءمة لتطوّر الطفل وحريّته وبناء ذاته. فكلّما عمل التسامي عند الأم، كلّما كانت مساحة الإبداع عند الطفل أكبر. فلو بقي ارتباط الأم بطفلها جسدياً، لما تمكّن الطفل من التكلّم والمشي بل وحتى التفكير.
في هذا السّياق نلاحظ الاختلاف الجوهري الثاني بين الأمومة والهيستيريا، كما تفهمهما كرَستيفا، إذ يختلف الموقف الأموميّ هنا جذريّاً عن الموقف الهيستيري في علاقة المرأة بعملية التسامي. تلك العمليّة التي اعتقدَ فرويد أنها غير منسجمة مع طبيعة النفسية الأنثوية، ولذلك تفترض كرَستيفا في نقد موجّه لمؤسّس التحليل النفسي، أنه لم يأخذ الأم كنموذج ممكن للمرأة في دراساته، بل اكتفى بمشاهداته السريرية للنساء الهيستيريّات، اللاتي فشلن في إنجاز التسامي لبعض مشاعرهنّ، وظهر فشلهنّ هذا في أعراضهن التي تتميّز ببروز الصراعات اللاواعية على مستوى الجسد، من خلال نوبات هياج أو أعراض جسدية نفسية.
تقوم كرَستيفا بربط آلية التسامي كما تتم ملاحظتها عند الأمهات بشكل آخر من «دورة الدافع» كان فرويد قد اكتشفها في الكوميديا، وبشكل خاص حين يقوم أحدهم برواية نكتة ما، وهو يعلم منطقها ومكمن «المزاح» فيها، إلا أنه يحاول كبح دوافعه الخاصة ومعرفته بالمعنى الضمني للنكتة، ليركّز على رواية المعنى السطحي الذي سيوصل المتلقي إلى مرحلة فهم النكتة من خلال فهم معناها المبطّن وبالتالي الضحك. (نعلم كيف أن بعض رواة النكات يفسدونها بعدم قدرتهم على كبح ضحكاتهم فيكون تأثير روايتهم على الآخر منقوصاً، ولا تصل النكتة كما يجب). يأخذ الراوي من ردود فعل الآخرين، حسب فرويد، المتعة التي تعوّضه عن كبح دوافعه وأفكاره الخاصة، وتكون تلك المتعة أكبر وأبقى.
كذلك الأم، في عملية لا تخلو من المزاح، تكرّر أصوات طفلها أثناء اللعب معه. ينظر الطفل فيجد طفلاً آخراً، أو ربما كلباً أو كتاباً ذا ألوان جذابة، فينظر إلى الأم مستوضحاً مطلقاً لأصوات لا معنى لها تشير ربما إلى الغرض الجديد أو إلى المشاعر التي أثارها في داخله. ترافق الأم تلك الأصوات بتكرارها أو تستجيب بالضحك لتدعم بذلك استجابة الطفل وتعزّزها، مأخوذة بجمال ما يفعل، بل بحقيقة أنه يستجيب من حيث المبدأ، ومع أنها تجد نفسها في موقع من يوضح للطفل بطريقة أو بأخرى، ماذا تعني استجابته تلك، (إلام تشير، أو ما الذي يحدث للطفل استجابة لما رآه)، إلا أنها تركّز على استجاباته وردود أفعاله لتحاول من خلال الابتسام واللعب والمزاح، بما ينسجم مع ردة فعله، إيصال المعنى المطلوب إيصاله إلى الطفل. حين يبدي الطفل ردّة فعل جديدة (تكرار كلمة قالتها الأم، ازدياد حماسه وتصاعده أو حتى بكائه وغضبه) يزيد ذلك من متابعة الأم لردود الأفعال تلك، دون أن تعطي أهمية لما تريد هي أن تقوله، أي للمعنى «الصحيح» للكلمة، أو المعنى الذي يجب إيصاله كما تمليه الثقافة ويحفظه النظام الرمزي. وهي إذ تقوم بذلك فهي تغذّي متعتها بطفلها من خلال كبت دوافعها الخاصة والتخلّي، مبدئيّاً، عن رسالتها التي عليها أن تقدمها (كما تفهم الأم وظيفتها ومسؤولياتها تجاه الطفل).
تشكل الأم بتلك الآلية حائط الدفاع الأول عن الطفل في عمر مبكر، في وجه النظام الاجتماعي الذي ينتمي إليه، والذي يحاول ابتلاع الطفل في حبائل المعنى كما تروج له الثقافة التي تنتمي الأم لها، فتسمح له بأن يقول ما يريد، يخترع لغته وأصواته الخاصة، يدّعي روابط غير مفهومة بين الأشياء، أو ردود أفعال لا تنسجم فيما بينها إلا في منطقه الخاص. إلا أنّ الأم سرعان ما تشكّل لاحقاً، عندما يكبر الطفل ويتعلّم لغتها، البوابة الرئيسيّة لدخول الطفل في النظام الرمزيّ والثقافة.
من خلال دورة التسامي تلك، تقوم الأم بإيصال الإشارات البدئيّة الأولى التي يبني عليها الطفل أدواته الخاصة، التي سيعمل وفقها على تطوير المعنى الخاص به (ذاتيته/ذاته الخاصة). بعضُ تلك الرسائل يتم التقاطها بسهولة وبعضها الآخر لا يصل إلى الطفل، أي لا يستطيع الطفل إدماجها في ذاته التي تكون في طور التشكّل. نسمّي تلك الإشارات: «الدوالّ الغامضة»، وهي أساسية في بناء ذات الطفل المتمايزة عن الأم ومن ثم عن المجتمع (في نواتها المركزية على الأقل). من خلال تلك الدورة تنقل الأم للطفل، شيئاً فشيئاً وبشكل متزايد مع تقدم عمر الطفل ونضج حواسّه وجهازه العصبي، مفاتيح ثقافتها (ما هو ذاك الشيء الذي يدفع للضحك، أو للبكاء، متى أغضب ومتى أحزن، وكيف أُعبّر عن فرحي أو حزني أو غضبي … أو حتى حبي.. إلخ.)، تنقلها كما تنقل له مادتها الوراثية.
في عرضها لمراحل تشكل الولَه الأمومي وتطوره مع تقدم عمر الطفل، تقدّم كرَستيفا بين الوقت والآخر على طول المقال، إجابات محتملة للسؤال الذي طرحته على نفسها في بداية المقال، وهو: «من هي الأم الجيدة كفاية؟»، المصطلح الذي اقترحه وينيكوت ليحلّ مكان السؤال السائد المعزّز ثقافياً منذ أواسط القرن الماضي، وهو: من هي الأم الجيدة؟
فالأسلم الحديث عن الأم التي تقدّم ما يكفي للطفل ليبدأ رحلة تطوره الخاصة، وليس السؤال الثاني الذي وضع الأم، ولاحقاً الأب أيضاً، في امتحان دائم لسلوكهما في تربية أبنائهما. فمشاعر الذنب التي يعاني منها الأهل، في يومنا هذا، مع كل قرار وكل ردة فعل عليهم اتخاذها تجاه الطفل، متعلّقة بتقييم الأهل لأنفسهم في عيون الآخرين من أهل ومربين ومعلّمين وغيرهم. تعيش الأمهات اليوم قلق أن يكنّ أمهات سيئات، دون أن يتمكنّ من تقديم معيار محدّد يتم من خلاله تحديد من هي الأم الجيّدة ومن هي الأم السّيئة. علاوة على ذلك، فإن إطلاق أحكام من هذا القبيل على الذات، وعلى الغير، يفتقد عموماً لفهم السياق الذي تجري فيه عملية التربية، ويتّسم بصعوبة إن لم نقل استحالة تحديد مقدمات فعلٍ تربويٍ ما قامت به الأم، وارتباطاته بتاريخها وإمكانيّاتها الفكريّة والنفسيّة والماديّة وغيرها.
«الأم الجيّدة كفاية» هي الأم التي تتمكن من القيام بمجموعة من الوظائف والأدوار التي عليها القيام بها ليتمكّن الطفل من النموّ الجسديّ والنفسيّ، وليست مجموعة من الصّفات الشّخصية التي على الأم أن تتحلّى بها. وتلك المحدّدات والوظائف غير مرتبطة كذلك بشكل مباشر بالطرق التي سيسلكها الطفل في حياته، حين يكبر: هل سيصبح شخصاً متوازناً أو فعّالاً في المجتمع، أم سيكون فاشلاً ومضطرباً نفسياً، فلذلك محددات وشروط بالغة التعقيد لا تتعلّق فقط بالتربية.
من هي «الأم الجيدة كفاية» إذن، كما جاءت في المقال:
أولاًـ هي الأم التي تقدر على خلق فضاء مناسب للطفل حتى يتمكن من تطوير ملكة التفكير ولاحقاً الكلام. وحتى يتمكن من القيام بذلك، فهو بحاجة أيضاً لأن يحبّ نفسه. فليس من السهل أن تحبّ نفسك. وهكذا يكون على الأم أن تُعلّم الطفل أن يحبّ نفسه من خلال حبّها له كما تحبّ نفسها، وحبّها له لاحقاً حين تنفصل ذاته عنها. قد يقول قائل إن هذا الحبّ سهلٌ في الواقع، كون الطفل هو الامتداد النرجسي للأم، جسداً وذاتاً. إلا أن المشكلة هي في حب الأم لنفسها، فهي ستحبّه كما تحبّ نفسها، لكن هل تحبّ الأم نفسها؟ وكيف؟ ثم هل ستتمكن أن تحبّ طفلها بعد أن ينفصل عنها ذاتاً مستقلة لا تشبه ما رغبت به في طفلها حين كان صغيراً؟
بهذا المعنى تكون الأم، حسب كرَستيفا، هي الوحيدة، بالإضافة للقدّيسين وصفوة المؤمنين، القادرة على حبّ «جارها حبّها لنفسها»، كما جاء في وصايا الإنجيل.
ثانياً، هي الأم التي لا يعجبها أحد على وجه الخصوص!! لا تسحرها شخصية وسلوك طفلها بشكل يعميها عن رؤية الصورة الكاملة، فتعترف بعملية نزع الولَه كجزء من أمومتها، وتعمل على البحث عن صفائها الخاص وراحة بالها، بعيداً عن قلق الأمومة وعذاباتها. فإذا كان الولَه الأمومي هو النموذج البدئي لعلاقات الحب في عصرنا هذا، كما أسلفنا، فإن نزع الولَه، يشكل أيضاً النموذج المبدئي للتخلّي، لإفساح المجال للحبيب كي يبتعد إن كان ذلك ما يحتاجه، وهو النموذج المبدئيّ للحب «الكبير» أو «الحقيقي»، الذي لا يريد شيئاً سوى أن يكون الحبيب سعيداً، سواء كان ينفذ رغباتنا أو لا، سواء كان يعيش معنا أو لا. فلا أحد قادر على إتقان هذا النوع من الحب بقدر «الأمّهات الجيّدات بما فيه الكفاية».
كمثال على نزع الولَه الأمومي، تذكر كرَستيفا قصة الكاتبة الفرنسية الشهيرة كوليت، التي تحدثت في كتبها عن أمها «سيدو»، أمها التي فضلت «انتظار تفتّح زهرة» على زيارة ابنتها، فضّلت التمتع بالطبيعة وفصولها وعيش طريقها الخاص، دون أن تكره ابنتها أو تبعدها عن حياتها. إذ إن سيدو لم تتوقّف عن مراسلة ابنتها، برسائل جميلة، حملت حبّاً أموميّاً فريداً وخاصّاً بها. فتحت تلك الرسائل لاحقاً أمام كوليت طريق حب اللغة والكتابة والأدب، وتتساءل هنا كرَستيفا: أليس ما قدمته سيدو لابنتها أكثر تحرّراً وتحريراً مما قدّمته أمهات كثيرات، لا يفارقن أطفالهن حتى حين يكبرون، لكنهنّ يُقيّدن حياتهم ويحدُدنَ من تطورهم واستقلالهم، بتحميلهم ذنب ابتعادهم عنهنّ وبطلب الطاعة من أطفالهنّ وامتثالهم لأوامرهنّ؟
وأخيراً، هي الأم التي تعلم متى تغيب، متى تختفي من غرفة طفلها، لتسمح له بإعادة إنتاج تفكير الأم الذي ينتقل له في الحوار اللاواعي بينهما. الغياب يسمح له بإدماج ما تعلّمه في ذاته، وبإيجاد المكان (المعنى) المناسب له في ذاته. الرابط الحقيقي بين الأم والطفل يتشكّل في واقع الأمر في الوقت الذي تترك فيه الأم طفلها وحده. فقط عن طريق ترميز (تمثّل) غياب الأم، يستطيع الطفل الاستمتاع والتفكير بنفسه، فمتعة الطفل بالجسد الأمومي طاغية، تشغل الطفل تماماً وتجعله بغنى عن التفكير. فقط عن طريق «قتل الأم الرمزي» الذي يبدأ عند تعلّم الطفل للغة، يشعر الطفل بلذّة التفكير ويتحول إلى ذات متكلّمة. فقط من خلال هذا الغياب، يتمكّن الطفل من الانتقال من «الجسد إلى الفكر».
نَصّ مقال الأمومة اليوم
يلخص العنوان الطَموح لمقالي هذا قلقاً اجتماعياً وتاريخياً عميقاً يتعلّق بمسألة أخلاقية الإنجاب لمجرد الرغبة به. سأقتصر بكل تواضع على جانب من جوانب الأمومة التي تهمني شخصياً كأم ومحللة نفسية: ولَه الأمهات وماذا يعني هذا الولَه اليوم. سوف يتطرق حديثي عن ولَه الأمهات إلى ثلاث نقاط، لن أتوسع بها تماماً هنا، ولكني آمل مع ذلك أن أتمكن من إلقاء بعض الضوء عليها.
ماذا أعني بـ «اليوم»؟
حسناً، تكتسب العلوم الفيزيولوجية والبيولوجية، وكذلك طب التوليد، يوماً بعد يوم إتقاناً متزايداً في فهم لغز الحمل، الذي كان في الماضي، ونظراً لكونه لغزاً، يمنح الأم القوة، ويحرمها منها بشكل مرعب في الوقت نفسهتقصد الكاتبة أن جهل الإنسان الماضي بأسرار عملية التكاثر (كيف يحدث الحمل فعلاً، المخاطر التي قد تسبب الإجهاض، علاقته بالدورة الشهرية… إلخ) قد أعطى المرأة مكانة خاصة غامضة من جهة، كونها حاملةً لذاك اللغز ومتحكمة بموضوع الإنجاب، لكنه كان سبباً أيضاً لاستغلالها ومحاولة السيطرة عليها والتحكم بها باعتبار أن غياب معرفة حقيقية حول الحمل والجنين يفتح المجال لتحميلها ذنب الإجهاض أو عدم الحمل مثلاً، أو حتى التضحية بها تقرباً من إله ما. (المترجم). على الرغم من ذلك، لا تستمر الخصوبة والحمل عند المرأة في إبهار خيالنا الجمعي فحسب، بل باتا يشكلان مجالاً لما هو مقدس أيضاً.
لم يعد التديّن الحديث يرى «الما وراء» فوق الرؤوس بل في رحم الأمهات، فالأمومة اليوم مشبعة بما تبقى من الشعور الديني بعد انحسار التدين.
وفي الوقت نفسه، صارت صعوبة إدارة التكاليف الاقتصادية والشخصية لإنجاب الأطفال قضية تتطلب حواراً وتضامناً وطنيين، لسبب بسيط وهو أن الطفل البشري يولد «غير مكتمل»، وغير قادر على الاستقلال الذاتي الكامل ولا حتى لفترة زمنية قصيرة.
هل يجب أن تكون هناك إجازة والديّة (إجازة ما بعد الولادة) لكلا الوالدين؟ أم للأم فقط؟ هل يجب أن تكون إعانات الدولة لكل طفل أم للطفل الثالث فقط؟ نقاشات كهذه لا تزال مستمرة في فرنسا مثلاً حتى اليوم.
هكذا تضعنا الأمومة اليوم إذن وجهاً لوجه مع معضلات العولمة – ولعل أبرزها مواجهة عدم قدرتنا على حل المسألة الرأسماليّة المتعلّقة بالتكاثر البشري سياسياً.
– أخيراً، وفّرت لي تجربتي كرئيسة للمجلس الوطني للمعوّقين اتصالاً بعدد من «الأمهات الشجاعات»: أي أمهات الأطفال المعوّقين، الأطفال ذوي الإعاقات الاجتماعية والتعليمية المختلفة. كما يعلم الجميع، فإن الأم هي التي «تدبّر أمر» الطفل و«تعتني به» في المقام الأول، على الأقل في معظم الحالات. مهما كانت أم الطفل «المعوّق» أو «المضطرب» منهكَة، فستظّل مقاتلة. خوفها الوحيد هو الخوف مما سيحدث لطفلها «بعد وفاتها». فطالما كانت الأم على قيد الحياة، فهي موجودة لتضمن الحياة لطفلها بأفضل ما لديها، مهما كانت الظروف. وبما أن «أزمة القيم» التي نمر بها اليوم، ويتحدث عنها الجميع، تُبقي المجال فعلياً لقيمة واحدة فقط يناصرها الجميع وهي قيمة «الحياة» بحد ذاتها (حق العيش) – يمكن إذن اعتبار «الأمهات الشجاعات» حجر الزاوية في حضارتنا اليوم، تلك الحضارة التي فقدت مرجعياتها.
في سياق هذا «اليوم» الذي وصفته آنفاً من خلال معالجة هذه المواضيع الثلاثة، لا يزال هناك شيء مفقود. ما نفتقر إليه هو التأمل والتفكير بما أسميه (الولَه الأمومي).
بعد فرويد ولاكانسيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي. وجاك لاكان، المحلل النفسي الفرنسي الشهير الذي أعاد قراءة فرويد قراءةً ألسنية. (المترجم)، كان التحليل النفسي منشغلًا إلى حد كبير بـ «الوظيفة الأبوية» – الحاجة إليها وأشكال إخفاقاتها وبدائلها وما إلى ذلك. يبدو أن الفلاسفة والمحللين النفسيين قد وجدوا إلهاماً أقلّ للبحث في «وظيفة الأم»، ربما لأنها ليست وظيفة، بل هي بشكل أكثر دقة «ولَه».
حتى مصطلح «الأم الجيدة بما فيه الكفاية»، الذي ابتكره وينيكوتدونالد وينيكوت طبيب أطفال ومحلل نفسي إنكليزي. (المترجم)، المحلّل النفسي الشهير الذي أخذ هذا الموضوع أبعد من فرويد، يجازف بالتقليل من العنف العاطفي لتجربة الأمومة.
سأقترح هنا إذن الفرضية التالية: إن كانت الثقافة الحديثة، ولا سيّما وسائل الإعلام والرأي العام «تبالغ في تقدير قيمة فعل الحمل»، فإنها تقوم بذلك لتتمكن من تجنب التساؤل عن ماهية الولَه الأمومي. ربما يكون وله الأم هو التولّع الوحيد الملموس، الذي يمكن اعتباره حقيقياً وغير خاضع للتلاعب والتشويه، بل إنه الوله العاطفي الذي يشكل النموذج الأوليّ لعلاقة الحب.
فكما ذكرنا آنفاً، وحدها العلاقة الأمومية هي ما يمثل الرابط «المقدس» في عالمنا الحديث، الذي يتم استثمار الأديان فيه بشكل مبالغ به، في الوقت نفسه الذي تعاني فيه تلك الأديان انحداراً وتراجعاً. إضافة لذلك، أعتقد أنه ونظراً لتعقيد هذا الولَه (الأمومي)، فإن الأمهات أنفسهن يشاركن، بشكل أو بآخر، عن غير وعي، في التعتيم عليه: إذ يفضّلن الاستفادة من هذه المَثلَنة(Idealisation)، أي إضفاء الطابع المثالي، ورؤية الجوانب الجيدة فقط. (المترجم)، ومن إيديولوجية الرحم كمكان لعملية الحمل المقدسة والتسويق لما يمكن تسميته «الطفل الكامل» أو «الطفل الملك»أي الاهتمام بالطفل ورغباته واحتياجاته كالملوك، واعتبار ذلك محور التجربة الأمومية. (المترجم)، يُفضّلنها على موازنة متأنيّة للمخاطر والمنافع التي يحملها هذا الولَه لهن ولأطفالهن وللأب وللمجتمع ككل. بالنتيجة، لن يتبقّى، على ما يبدو، أمام الأمهات من طريق للتعامل مع المشاكل البيولوجية والفيزيولوجية والاقتصادية والإيديولوجيّة للأمومة التي أشرتُ إليها في مقدمتي، سوى محاولة التصّالح مع غموض هذا الوله.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكننا استبدال هذا الإنكار لوله الأمومة الذي نراه في وسائل الإعلام، وكذلك في المعالجة البيولوجية والاجتماعية للأمومة، باستكشافٍ متأنٍ لمخاطر وفوائد هذه التجربة؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه الأمومة اليوم كما أراها كأمّ ومحللة نفسية وكاتبة. لذلك سأحاول إقناعكم بأن الأمومة ليست «غريزة»، ولا يمكن اختزالها إلى «رغبة في إنجاب طفل». إذ ماذا يمكن القول إذن عن الرغبة في عدم الإنجاب؟ (كانت ماريليا أيزنشتاينمحللة نفسية فرنسية معاصرة. (المترجم) قد ألمحت إلى هذا من قبل). وأن الأمومة هي احتلالٌ لذات للأم يدوم مدى الحياة وما بعدها.
1- يجب أن نميز بين الولَه والعاطفة. الأمومة ولَهٌ بمعنى أن العواطف (كالتعلّق أو العدوانية تجاه الجنين وبعدها الرضيع والطفل) تتحول إلى حبّ (مثلنة، تخطيط لمستقبل الطفل، تفاني في تربيته) مع تحجيم الكراهية المرافقة عادة لدرجة أو لأخرى. تقف الأم على مفترق طرق بين البيولوجيا والمعنى في وقت مبكر من الحمل: أي أن وله الأم ينزع السمة البيولوجية عن الارتباط بالطفل، دون أن ينفصل تماماً عن البيولوجي، في حين تسلك مشاعر التعلق والعدوانية طريقها نحو التساميالتسامي أو التصعيد هو تغيّر يطرأ على الطريق الذي يسلكه دافعٌ ما، بحيث يتمّ التعبير عن الطاقة النفسية ذاتها من خلال ما هو مقبول اجتماعيّاً، مثال: تسامي الدوافع العدوانية تجاه الأب عند شاب ما، عن طريق ممارسة رياضة قتالية (الدافع يحافظ على طبيعته وقوّته لكنّه يغيّر هدفه بحيث تصبح العملية مقبولة اجتماعياً وقادرة على النجاة من الكبت). (المترجم).
كل هذا يبدأ بِولَه المرأة الحامل بنفسها، «نفسها» التي تعكس نرجسية مُعززَّة ومُزعزَعة في آن: أي أن المرأة الحامل تفقد هويتها، لأنها تنقسم، في أعقاب تدخل الأب/الحبيب، إلى قسمين، لتؤوي شخصاً ثالثاً مجهولاً، قبل-كائن/غرض عديم الشكل. بعبارة أخرى، على الرغم من هيمنة النرجسية في تلك المرحلة، إلا أن وله الأمهات البدئي يظل مثلثيّاً؛أي بين ثلاث عناصر (الأم، الأب، الجنين) ففي هذه المرحلة لا علاقة ثنائية مباشرة بعد بين الام والجنين. (المترجم) تُظهر النظرة الغائبة أو تلك التي تنظر إلى الداخل، النظرة التي نجدها في لوحات (العذراء وطفلها) في عصر النهضة الإيطالية، مثل النظرات في لوحات جيوفاني بلليني، تُظهر صراحة ما يعرفه الكثير منا: وهو أن المرأة «تنظر» دون «أن ترى» الأب أو العالم؛ إذ أنها تكون في مكان آخر.
هذه المرحلة الأولى من الولَه الداخلي يتبعها وله الأم بذات جديدة، طفلها، بعد أن يتوقف عن كونه جزءاً منها وبعد أن تنفصل عنه حتى يتثنى له اكتساب الاستقلالية. حركة الطرد والفصل هذه هي حركة جوهرية وأساسية. وهكذا يمكن القول إنه، ومنذ البداية، يكون وله الأمهات مسكوناً بما هو «سلبي». تختبر الأم من خلال عملية التعلم هذه حول كيفية الارتباط بآخر ـ هو الأمومة بحد ذاتها ـ تختبر أقوى شدّة لدوافعها (من خلال آلية «التماهي الإسقاطي» لميلاني كلاين تنزلق الذات – الأم ولكن أيضًا الطفل – إلى الآخر – الطفل ولكن أيضًا الأم – لإيذائه أو امتلاكه أو السيطرة عليه)آلية التماهي الاسقاطي هي آلية دفاع لاواعية اقترحتها ميلاني كلاين لتفسير سلوكيات الطفل الرضيع في مرحلة مبكرة من نموه، حيث يتماهى الطفل مع ما تسقطه الأم عليه من مشاعر ورغبات وغيرها. مثال: أم حزينة تسقط حزنها على طفلها: «أوه طفلي حزين ولذلك يبكي»، لاحقاً يتماهى الطفل مع حزن أمه ويصبح حزيناً فعلاً. هذه الآلية تضخم الدوافع والمشاعر الأمومية عن طريق إعادة إنتاجها من خلال الطفل. (المترجم)، وكذلك تختبر تثبيطاً للدوافع من حيث هدفها، مما يسمح للعاطفة بالتحول إلى حنان ورعاية وإحسانفي التحليل النفسي يُقسم الدافع إلى عدة عناصر: الضغط، النهاية والمصدر والشيء الذي يتوجه الدافع تجاهه. يمكن فهم المقطع السابق كالتالي: الدوافع العدوانية والتملكّية عند الأم تزداد كثافة وقوة (يزداد الضغط)، لكن الدوافع نفسها تتعرض لتثبيط الهدف (النهاية) فيتم تحويل القوة الدافعة إلى نهاية أخرى، أي تجاه الحنان والرعاية. وهذا ما يعرف عند فرويد بالتسامي. (المترجم).
ربما سأخاطر بصدم البعض منكم إن قلت إنه وبدون تجربة مثالية للوله الأمومي ثنائي الوجه (الانسحاب النرجسي، ثم الارتباط مع الطفل من خلال التماهي الإسقاطي الذي يتم تساميه كحنان)، فإن ذات المرأة تواجه صعوبة في تكوين علاقات مع الجنس الآخر وبشكل أعمّ مع الآخرين، الذين لا تحكمهم عاطفة مستقطِبة خالصة (تعلّق/خصومة) أو لامبالاة خالصةأي العلاقة مع أشخاص لا تبدو الأنا عندهم منقسمة ومستقطبة بين عاطفتين متناقضتين، كما يكون حال الأم في تلك الفترة. (المترجم). أستخدم هنا مصطلح الولَه الأمومي تحديداً بالمعنى البنيويّ للتجربة، وليس فقط بالمعنى البيولوجي: إذ أنه ليس من المستحيل أن تتمكن المرأة من خلال التحليل النفسي أو التحليل الذاتي أو التسامي أن تعيش ولَهها الأمومي دون الحمل والولادة (من خلال التبني، مثلاً أو رحم الأم البديلة وكل تقنيّات الخصوبة الأخرى التي تمّ وسيتم تطويرها، أو على مستوى آخر من خلال تقديم الرعاية أو التدريس والتعليم أو العلاقات طويلة الأمد، أو حتى في العمل المجتمعي والتعاوني).
ومع ذلك، وبالنسبة لمعظم الناس، وفي هذه المرحلة من الحضارة (أي قبل اختراع «الرحم الاصطناعي»!)، فإن الوله الأمومي شيء يخصّ الأمهات عموماً، ويبقى الشكلَ النموذجيّ لعلاقات الحبّ.
كان فرويد مقتنعاً بأن وصيّة «أحبب قريبك كحبّك نفسك» كانت وهماً، مجرد رغبة تقية للإنجيليين. في الواقع، لم يبلغ هذا الحبّ إلا القدّيس فرنسيس وغيره من الصّوفيين النادرين. أما أنا فأعتقد أن وصية «أحبب الجار كنفسك» تعيدنا إلى اللّغز -الأكثر غموضاً من سرّ الحمل- حول ماهية «الأم الجيّدة بما فيه الكفاية»، فهي تلك التي تسمح للرضيع بخلق فضاء انتقالي، مساحة تمكّن الرضيع من التفكير. ذاك أنه ليس من السهل أن تحبّ نفسك: بشكل عام أقصد، فغالباً ما يكون ذلك إما مستحيلاً أو مأساوياً، على الرغم من أن «الأم الجيدة بما فيه الكفاية» تنجح في حب طفلها مثل نفسها، ومن ثم كذات أخرى.
أما على المستوى الثقافي، فقد لاحظتُ أنه في حالات «العبقرية الأنثوية» (أقصد خارج تجربة الأمومة، في مشاريع فكرية متعدّدة مثل تلك التي قامت بها حنا آرنت وميلاني كلاين وكوليت) هناك افتراضُ وجود علاقة ـ بغرض (Object-relation)نظرية العلاقة بالأغراض (أو الأشياء) تشكل فرعاً من فروع نظرية التحليل النفسي، تأخذ من أعمال المحللة النفسية الشهيرة ميلاني كلاين أساساً لها. تنطلق النظرية من حاجة الذات للارتباط بعلاقات مع المحيط، سواء كان ذلك مع ذات أخرى أو مع أشياء. بالمقابل، تنطلق نظرية الدافع من تحليل الدوافع الرئيسية النابعة من الذات. (المترجم) منذ بداية الحياة النفسية. وهذا يختلف تماماً عن افتراض فرويد حول «نرجسية بدون غرض» عند الولادة، ويختلف كذلك عن «العبقرية الذكورية» (من فلاسفة وفنانين) التي تتجّه أكثر نحو التعويذات السولبسية (solipsistic)(Solipsismus): فرضية أو نتيجة فلسفية تقول إن الشيء الوحيد الذي يمكننا الوثوق من وجوده، هو وجود أناي أنا. وفيها إشارة إلى النزعة الذكورية في فهم التطور النفسي عند الإنسان، التي تركز على الأنا والذات مقابل نزعة أنثوية تركز على العلاقة مع ما هو خارج الأنا ـ العلاقة بالغرض (Object-relation). (المترجم) ودراما الذات الداخلية بحد ذاتها. ومع هذا، وللتأكيد، نعيد القول إنه بالنسبة للمرأة، وإلى حد أبعد بالنسبة للأم، فإن وجود آخر في وقت مبكر من حياته النفسية ليس أمراً مثالياً، لأن العلاقةـ بالغرض تلك تتميز بعدم الاستقرار، بل إنه من المحتمل أن يتحوّل عدم الاستقرار إلى تمجيد جنوني أو اكتئاب وعدوانية: هو أو أنا، إسقاط ـ تماهي.
ومع ذلك، فإن لهذه الدراما جانباً إيجابياً، حيث أن هذا الولَه يمكن أن يسمح للأم بإنشاء رابط محتمل مع الآخر، للتعبير عن العواطف التخريبية الكامنة وراء جميع أنواع العلاقات، والتي تجعلها الأمومة، خصوصاً، أكثر حدّة («أحبه وأكرهه»). لهذا السبب، تشبه الأمومة في عنف عواطفها، سواء حبّاً أو كراهيّة، العواطف التي تظهر في تحليل الأشخاص ذوي الحالات الحديّة والانحرافات. أَتشاركُ بهذا الصدد مع مؤلفين مختلفين مثل فرانسوا بيرييه وأندريه غرين في آرائهم، إذ يعتقدان أن الجنسانية الأنثوية تلتجِئ إلى الأمومة لتعيش انحرافها وجنونها، وهو ما يمكن أن يكون أيضاً وسيلة لتمكينهنّ من الاشتغال عليهاالمقصود الاشتغال على جنسانيتهنّ. (المترجم).
ليس من النادر أن يهدّد ولَه الأم – التي تعيش الإغواء، وتصنيم جسد الطفل وملحقاته، والانفجارات العاطفية، وحالات الهوس (الفرح المفرط)- إمكانيّة التفكير ذاتها عند الرضيع. يأخذ الأمر أبعد من ذلك معنىً أكثر فتكاً، مثل حروب التصفية العرقية، حيث نرى أن أكثر تلك الحروب شراسة هي تلك التي تكون فيها الفروق بين المجموعات العرقية المتحاربة طفيفة جداً، تلك الحروب التي تشن ضد الذات عن طريق مهاجمة الشخص الأقرب (الأمهات اللاتي يتم إدانتهنّ بتهمة قتل أطفالهنّ دليل على ذلك).
2- رغم ذلك، يحدث نوع من نزع-الولَه/الانفصال في معظم الحالات. ومن خلاله يستمدّ حب الأم دعمه النفسي ـ الحيوي النهائي. نظراً لأن معظم الأمهات لا يخضعن للتحليل النفسي، يتعيّن على المرء أن يسلّم بأن هناك شيئاً ما في بنية تجربة الأم ذاتها يشجع عملية تفكيك (نزع) الولَه، وبالتالي فكّ الارتباط الأحادي.
أقترحُ فيما يلي مراعاة ثلاثة عوامل ضمن ولَه الأم نفسه: موقع الأب والزمن واكتساب اللغة.
لن أسهب في الحديث عن الدور الأساسي للأب أو من ينوب عنه، والذي يقود إلى إعادة تخصيص مثلث أوديب بحيث تكرر الأم عقدة أوديب الخاصة بها أو تصلحها أو تحللها، وهو ما فشلت الأم عندما كانت فتاة صغيرة في القيام به. لقد تمّ بالفعل التعامل مع هذا الجانب من السؤال من قبل محلّلين آخرين، وفي محاضرتي حول التسامي. لكنني سأقول بضع كلمات عن الوقت واللغة في ولَه الأمهات.
لا نشير كفاية في العادة إلى أن اكتساب الطفل للّغة يعني أيضاً أن الأم نفسها تعيد تعلّم اللغة. من خلال التماهي الإسقاطيّ للأم والطفل، تسكن الأم فم طفلها ورئتيه وأنبوبه الهضمي، ومن خلال مرافقة الأصوات عديمة المعنى التي يصدرها (Echolalia)، تقود الأم طفلها نحو الإشارات والجُمل والقصص: وهكذا يصبح الرضيع طفلاً، يصبح ذاتاً متكلمة.
تُحققّ كل أم بطريقتها الخاصة ما يمكن تسميته بحثها البروستينسبة إلى مرسيل بروست الروائي الفرنسي، صاحب رواية «البحث عن الزمن الضائع»، وتستخدم الصفة بروستي للدلالة على المواقف التي تقدح الذاكرة الشخصية لأحداث ماضية. (المترجم) عن «الزمن الماضي»: من خلال التحدّث بلغة طفلها، تعالج المرأة خطوة بخطوة «عدم التطابق» (non congruence) (كما يقول المعرفيون)، أي الفجوة التي تفصل بين ما ندركه وما يثيره ذلك من عواطف، وهو ما تشكو منه الهستيريّة بشكل مستمر.
أما بالنسبة للزمنية(Temporality)، أو الطبيعة المؤقتة للأشياء، ويفيد مصطلح «الزمنية» الطابع الدنيوي الزائل للحياة. (المترجم)، وأعني المصطلح الذي يشير كما نرى في الفلسفة الغربية إلى زمن الموت (الذي يطارد أيضاً تجربة الأمومة بالطبع). لكن في حالة الأمومة، تهيمن على هذه الزمنية عملية انقطاع زمنيّ أخرى وهي: البداية. يختبر كلا الوالدين، طبعاً، الحمل والولادة كأفعال أوليّة تشير إلى بداية، إلا أن الأم تشعر بذلك بشدّة أكبر بسبب أهمية مشاركة جسدها في هذه العملية. بالنسبة لها، هذه البداية الجديدة المتمثّلة بالولادة ليست مجرد تعويذة ضد الموت.
لقد علّمنا الفلاسفة أن منطق الحرية لا يكمن في تكسير القوانين كما يمكن للمرء أن يتصوّر، بل يكمن تحديداً في القدرة على البدء من جديد. اقترحَ وينيكوت نفسه أنّ الطفل لا يترك الرحم ليولد، قبل أن يتمكّن من أن يصبح حراً في حركاته إلى حدّ ما، وقبل أن يصل إلى مستوى معين من الاكتمال البيولوجي-النفسي، وبالتالي مستوى معين من الاستقلاليّة: البداية والاستقلالية الكافية هما، بالنسبة لهذا المحلل النفسي، وجهان لعملة واحدة. يتصّل زمن الأم مع هذا التفتّح، مع هذه البداية – أو بالأحرى مع هذه البدايات في صيغة الجمع حين تبدأ الأم في إنجاب المزيد من الأطفال أو عندما تصبح جدة لأحفادها. إن الطبيعة الزائلة لهذه الحياة التي قدمناها كأمهات لأطفالنا تثير بلا شكّ قلقنا وهمومنا، لكن رغم ذلك تشعر الأم بأعجوبة الولادة من خلال اختبار تلك الطبيعة الزائلة كبداية جديدة، وإن هذا الشعور بالمعجزة يغطّي على القلق. أُسمي هذه التجربة الأمومية للزمنيّة، ولا أقصد هنا التدفق الآني للزمن ولا ذاك الزمن الغابر الذي لا يمكن استعادته (ذاك الذي يشغل الرجال، عادة، فهم يميلون إلى أن يكونوا أكثر هوسًا به من النساء)، أسمّي تلك التجربة: المدّة الزمنيّة المعاشة بواسطة البدايات الجديدة. أن تكون حراً يعني امتلاك الشجاعة للبدء من جديد: هذه هي فلسفة الأمومة.
ابتهاج فالوسي؟(Phallic)، أي متعلق بالفالوس (Phallus) بالمعنى الرمزي وليس البيولوجي، ويشير في التحليل النفسي إلى نوع معين من اللذة والفرح، تتأسس على امتلاك القوة، كفرح الانتصار أو الفوز بالمال، مثلاً. (المترجم) إنكار الموت؟ أو البارانويا؟ هذه هي الشطحات التي تكمن وراء ولَه الأم. ومع ذلك، يمكن النّظر إلى الطابع الزمني للعاطفة الأموميّة من الناحية التحليلية كنوع من الانفصال عن كائن/غرض وحيد، والدعوة لتعدد الأغراض والعلاقات؛ يمكن أن يُنظر إليه على أنه مصدر «نزع- الولَه» والحرية، والتي هي في النهاية التحرّر من الوله نفسه. نرى أنه على الرغم من كونه نموذجاً أولياً للولَه البشري، فإن ولَه الأمهات هو أيضاً النموذج الأولي لنزع-الولَه، الذي يسمح للذات المتكلمة أن تأخذ مسافة فيما يتعلّق باثنين من أكبر معذبي النفس البشرية، واللذين يشكّلان أيضاً دعماً للوله، وهما: الدافع والغَرَضالغَرَض، أي ما نرتبط به بعلاقة، شيئاً كان أم كائناً، وهو يشكل بالإضافة إلى الدوافع البشرية التي لا يتمكن الإنسان التحكم بها، مصدراً للمعاناة البشرية. (المترجم).
على الرّغم من احتمال إثارة كلامي التالي للغضب، إلا أنني سأجرؤ على القول إن «الأم الجيدة بما فيه الكفاية» لا يسحرها أحد على وجه الخصوص: لقد طغى نزع -الوله عندها على الوله نفسه، ندعو نزع-الوله هذا عادة، في حال لم يصبح وحشياً (يمكن لذلك أن يحدث ولكنه ليس حتمياً)، راحةَ البال. راحةُ البال تحول دون وجود علاقة حصرية لأنها مفتوحة على جميع العلاقات. تُصوِّرُ كوليتروائية وكاتبة وصحفية فرنسية شهيرة، ربطتها بأمها علاقة خاصة كان عمادها مراسلات بلغة أدبية جميلة. (المترجم) لنا، أمّاً مثاليّة، أمها الحقيقية سيدو. مع أن سيدو ليست سوى امرأة ترفض رؤية ابنتها، لأنها تفضل رؤية برعم وردة صبّار وهو يتفتح على رؤية طفلها. «أم جيدة بما فيه الكفاية» لا يعجبها شيء ولا أحد، إلا «الانفتاح»: «التفتّح المحتمل، انتظار الزهرة الاستوائيّة يعطّل كل شيء، حتى قلبها الذي قُدِّرَ عليه الحب». بعبارة أخرى، كانت تبدو الحدود التي يفرضها الولَه الموجّه لشيء واحد مقيِّدةً لسيدو. في حين كانت الحدود التي تسعى لها هي حدود الكون. هل نقترب هنا من جنون البارانويا المتأصّل في ولَه الأمهات؟
يمكن القول إذن، في إعادة لصياغة ما قاله فرويد في الأنثى، أن «الأم الصالحة بما فيه الكفاية» يمكنها أن تقول: «لقد نجحتُ هناك حيث فشلت البارانويا». لقد نجحت والدة كوليت بالفعل، حتى لو لم تكن تذهب لرؤية ابنتها: إلا أنّها لم تتخلّ عن ابنتها لأنها نقلت لها ولَهها الشخصي باللّغة. (سيدو كانت قد كتبت رسائل رائعة لابنتها): انتهى الأمر بكوليت قائلة إن كاتبة الأسرة الحقيقية هي والدتها وليست «كوليت العظيمة»، كوليت الكاتبة!
ألا تشكّل القدرة على مشاركة العاطفة الأمومية من خلال هذه البهجة اللغوية طريقة لتوفير حضور أمومي أكثر حرية بكثير من الأم المفرطة في حضورها، والتي لا تزال ابنتها تعتمد عليها؟
3- يقودني هذا إلى قدرة ولَه الأمهات على التسامي. فقط لأنّ ولَه الأم هو تسامٍ مستمر، يصبح الإبداع عند الطفل ممكناً. يعتمد اكتساب الطفل للغة والقدرة على التفكير على دعم الأم بقدر ما يعتمد على وظيفة الأب. كيف يمكن للطفل تعلّم اللغة لو كانت النساء غير مناسبات للتسامي كما ألمحَ فرويد؟ ربما ورّطَ مؤسّس التحليل النفسي نفسه بطرد المرأة من جنّة التسامي بشكل متعجّل بناءً على هيوجيّة هستيريّة، مُقاوِمة للترميز، كان قد لاحظها عند النساء. في حين أن ولَه الأم على عكس الهستيريا، يعمل على تحويل الرغبة الجنسيّة بطريقة يتمّ فيها إرجاء الجنسنة (Sexualization)وهي عملية إضفاء الطابع الشهواني على الواقع، عن طريق إسقاط المشاعر الإيروسية على العالم الخارجي. (المترجم) بواسطة الميل نحو الحنان. في الوقت نفسه يصل الانسجام النرجسي، مقترناً بوجهه الآخر السوداويكما رأينا في مقطع سابق، فإن لنرجسية الأم دَورين: الأول يدعم أنا الأم ويعززها، والثاني يزعزعها ويخلخل هويتها. عن تجاور هذين الدورين المتضادين ينشأ ما يسمى «الجنون الأمومي». (المترجم)، إلى نقطة «جنون الأم» الذي يحكم قبضته عليها تماماً، مما يفسح المجال لما سأسميه «دورة التسامي» حيث تأخذ الأم موقعاً لنفسها متمايزاً عن مولودها الجديد.
لاحظ فرويد دورة شبيهة في عملية رواية وسماع النكات. ففي واقع الأمر، يعمل راوي النكتة على تحييد عواطفه الذاتية من خلال إيصال فكرة النكتة السطحية (نص النكتة): فهو يتراجع عن دوافعه وأفكاره الكامنة ويستثمر طاقته النفسية فقط في ردّة فعل المستمع. تتضاعف متعة الراوي عندما يفهم المستمع المعنى الخفي للنكتة، وإن كان في النكتة فخّ، فسيشعر المستمع بمتعة غامضة عندما يفهم أنه قد وقع في الفخ.
هذه الدورة من التسامي يمكن مقارنتها بما يحدث عندما تتبادل الأم والطفل الدوالّ، إذ ينطوي هذا التبادل على إرسال «دوالّ غامضة»الدوالّ الغامضة، مصطلح طوره لابلانش (Laplanche) نقلاً عن لاكان، وهي إشارات يتلقاها الطفل من أمه، دون أن يفهمها بشكل كافٍ. بمعنى أن تلك (الابتسامة، التنهيدة، المسح على شعر الطفل وغيرها) تبدو غامضة له ومثيرة للقلق. فالطفل يفشل في إيجاد معنى ذاتي لكل ما يأتيه من اللغة والمجتمع والآخر (الأم). Lost in Translation: Orientalism, Cinema, and the Enigmatic Sign، ص 20.، لفظيّة أو ما قبل لفظيّة، من قبل الأم؛ وينطوي ذاك التبادل أيضاً على تحييد الأم لدوافعها، والانتباه فقط لردّة فعل طفلها وحدها؛ وتتشابه الدورتان أخيراً بفائض اللّذة الناتج، أو التشجيع الذي يمنح للطفل مكافأةً على استجابته. أي أن الأم لا تستثمر في رسالتها الخاصة، بل تستثمر فقط في استجابة الطفل التي تحصل منها على مزيد من المتعة (Jouissance)، والتي تقوم الأم بدورها بتضخيمها وتشجيعها.
كما ترون، لا تخلو دورة التسامي هذه من الانحراف المتسامي فيما يتعلق بسلوك الأم وكلامها، فهي تؤجّل قبضتها المباشرة على الطفل حتى تشعر بمتعة أكبر معه، وكذلك في دورها كحارس للمعنى الذي يجب على الطفل أن يتعلّمه، حتى حين يكون كل ما تفعله الأم «مزاحاً»! يا لها من أم! أليس كذلك؟
لكن الأمَّ في واقع الأمر تكفل بهذه الطريقة تسامي ولَهها المتناقض وتسمح للطفل بتكوين لغته الخاصة، وهو ما يعني اختيار لغة مختلفة عن لغة والدته، أو ربما حتى لغة غريبة تماماً.
أولئك الذين يزعمون أن وله الأم يفتقر إلى الفكاهة مخطئون: فإن كان بمقدرة الأمهات تحويل سيطرتهن على الطفل إلى دورة التسامي المشابهة لما يحدث في المزاح، وتعزز متعة التفكير عند الطفل، فإنهنّ دليل حيّ على زعم هيجل بأن النساء هنّ «السخرية الأبدية من المجتمع».
بعبارة أخرى، من خلال نزع الوله المتزايد و / أو من خلال قدرتها على التسامي، تسمح الأم لطفلها بإعادة تمثيل/ترميز غيابها وليس ترميز الأم نفسها («لا شيء يمكن أن يمثل الغرض الأمومي»، كما كتب أندريه جرين):
إذن وفقط إذا تُرك الطفل حراً، سيكون قادراً على تبييء الفكر الأمومي عن طريق إعادة خلقه بطريقته الخاصة في التفكير – إعادة التمثيل(Representation): وهي العملية التي تتشكل من خلالها الصورة الذهنية لشخص أو شيء غائب، وتنطوي على تحويل المدركات الحسية إلى رمز، صورة، فكرة أو أُخيولة. المصدر: The concept of Mental Representation; David Beres and Edward Joseph.. «الأم الجيّدة بما فيه الكفاية» هي إذن تلك التي تعرف كيف تغادر، لإفساح المجال للمتعة وللطفل وتفكيره. لتتركَ مساحة، يعني أن تختفي الأم عن إدراك الطفل. وهكذا فإن نوعاً ما من قتل الأم الرمزيّ يحدث عند اكتساب الطفل للغة والتفكير، مما يقلّل من حاجته إلى الاستمتاع بجسد والدته؛ يجد الطفل متعة في التفكير، أولاً مع والدته، بقدر ما تسمح به الطبيعة المتقطعة لتفكير الأم، ثم بمفرده، بدلاً عنها.
يحدث هذا بشرط أن تعرف الأم كيفيّة تحويل رسالتها إلى مزاح بدلاً من استعمالها كوسيلة لممارسة تأثيرها. فقط عندما يأخذ نزع الولَه دوره في تطور الولَه الأمومي، يمكن أن ينتقل التسامي من الجسد إلى الفكر وبالتالي تشجيع تنمية تفكير الطفل. إلا أنّ ولَه الأمهات ليس نوعاَ من السحر حتى لو كان قادراً على نزع الوله عن الفكر نفسه، وحتى لو نتج عنه تحويل الفكرة إلى مزحة، وبالتالي نقل مفاتيح الثقافة جنباً إلى جنب مع انتقال الحمض الوراثي النووي DNA.
لقد رأينا كيف يمكن رؤية ولَه الأمهات كفجوة بين إحكام الام قبضتها على طفلها من جهة والتسامي من جهة أخرى. هذا الانقسام يجعل خطر الجنون حاضراً دائماً، ومع ذلك فإن خطر الجنون نفسه يمنح فرصة دائمة لانتقال ثقافة المجتمع إلى الطفل. لقد نسجت الأساطير الدينية شبكاتها حول هذا الانقسام. في الكتاب المقدس، المرأة هي «فجوة» (هذا هو معنى كلمة «امرأة» – نيكايفا – بالعبرية) وملكة؛ العذراء هي «فجوة» في الثالوث المسيحي الأب / الابن / الروح القدس وهي ملكة الكنيسة. من خلال هذه التركيبات التصوريّة، تعالج الأديان هذا الانقسام الأمومي: ومن خلال الاعتراف به، عملت الأديان على تخليده ووجدت طريقة لموازنته. وهكذا تمّ التمهيد لنوع من الاشتغال على الجنون الأمومي، مما جعل من الممكن وجود إنسانيّة تتمتع بوظيفة نفسيّة معقدة، قادرة على أن تكون لها حياة داخلية وأن تكون مبدعة في العالم الخارجيجاء في اعترافات أغسطيونس، في معرض اعترافه حول موقفه من رفض أمه لسفره إلى روما، قوله: «أما هي فإنها كانت، بسبب رغباتها الجسمانية، تُسلط عليها سياط الآلام العادلة»، أي أنه كان يرى وله أمه به وطلبها لبقائه بجانبها نوعاَ من الرغبة الجسمانية، التي من الطبيعي أن ترتد عليها ألماً وعذاباً، فكأنه يقول إن التمزق والجنون الذي تعيشه الأم هو جزء لا يتجزأ من الولَه الأمومي، ويذهب إلى كون تلك الآلام تتعلق بالجسد الأنثوي بشكل عام: «وبتلك الآلام كانت تكشف عما ورثته من حواء»، فالأمومة تجاور الألم منذ لحظة الولادة: «إذ أنها تطلب بالنحيب ما كانت قد ولدته بالنحيب». يخلص أوغسطينوس الشاب الذي صار لاحقاً من آباء الكنيسة البارزين، إلى أنه كان محقاً في الذهاب إلى روما وترك أمّه خلفه في قرطاج، ليكمل رحلته إلى اعتناق المسيحية، لكنه ندم على عدم مواساته لألمها فقط وليس على تركها خلفه. وهنا نرى، كيف اعترف أغسطينوس بالوله الأمومي وجنونه، دون أن يرى إمكانية الحلّ في تسامي الرغبات الجسدية عند الأم، فالألم/الوله مُقدَّر على الأم/المرأة..
على العكس من ذلك، بتنا اليوم، ومن خلال تحويل كل انتباهنا إلى الجوانب البيولوجية والاجتماعية للأمومة، وكذلك التركيز على قضايا المساواة والحريّة الجنسية، أوّل حضارة تفتقر إلى خطاب حول الأمومة وتعقيداتها. حُلمي هو أن تساعد الحجج التي حاولتُ معالجتها هنا في الشفاء من هذا النقص، وأن تحثّ الأمهات ومن يرافقهنّ (أطبّاء النسائية والتوليد والقابلات وعلماء النّفس والمحلّلون) على صقل فهمنا لهذا الوله، المشبع بالجنون والتسامي.
هذا هو ما تفتقر إليه الأمومة اليوم.