ثمة خطاب أخذ يتواتر في السنوات القليلة المنقضية، بصيغ وأشكال مختلفة ومضمون واحد: «هل هناك أي شيء يبرر كل هذا الخراب والموت في سوريا؟» أو كما عبر عنها الشاعر منذر مصري بطريقته: «ليتها لم تكن».
سواء تم التعبير عن هذه الفكرة بصيغة السؤال، أو بصيغة التحسر، فهي لا تقدم أي عزاء، لكنها تشكل درساً أو عبرة مفادها الدعوة إلى الرضى والتسليم، وتجنّب الخوض في مغامرة التغيير مهما كانت الشروط القائمة. لكن أخطر ما في الفكرة إنما هو تحميل المسؤولية عن الخراب والموت للضحية بدلاً من القاتل المعروف المُعلَن. في حين أن السؤال الذي يجب طرحه، من قبل كل ذي بصر وضمير، هو: «هل تستحق السلطة إراقةَ كل هذا الدم للاحتفاظ بها؟»
أهل السلطة سيجيبون إيجاباً على هذا السؤال، وهذا مفهوم. ولكن لماذا على غير أهل السلطة المشاركة في هذا الإجرام المعنوي الذي يتوج الإجرام المادي ويسعى للتغطية عليه؟ غالباً ما يتم وضع «الوطن» بمقابل الثورة أو الحرية. تعتمد هذه الصياغة على قراءة مُبسّطة بساطةَ البديهيات، فحواها أن الثورة أدت إلى دمار الوطن. لو لم تندلع الثورة، لاستمر السوريون في حياتهم «الطبيعية» إلى ما شاء الله، يعيشون ويعملون ويتعلمون في المدارس، ويتزوجون ويبتهجون في الحفلات والسهرات، ويقرأون الكتب ويشاهدون التليفزيون ومباريات كأس العالم… إلخ. وما المشكلة في بقاء بشار الأسد في الحكم إلى أن يوافيه الأجل، ويرثه أحد أولاده من بعده؟ وهل من قد يحكمون لو انتصرت الثورة سيكونون بأفضل منه؟
بصرف النظر عن هذا التحايل على العقل والضمير، يمكن الرد على هذا المنطق بطريقة مماثلة لنقول: «ليته لم يكن». أعني ليت وطناً اسمه سورية الأسد لم يكن. أما وطن السوريين فهو ما يستحق الثورة للحصول عليه؛ أي لصناعته.
والثورات أحداث غير عقلانية؛ هي لحظات جنون جمعي. لا أحد من الأفراد يرغب باندلاعها، لأنها تقلب حيواتهم المستقرة وتدخلهم في المجهول والمخاطر. هذا من البديهيات التي لا جدوى من إعادة تأكيدها. ليت الحكام يُصلِحون من شأن حكمهم كلما لمسوا تململاً لدى محكوميهم، فيتجنب الطرفان الثورات. هذه هي الليتَ المشروعة، وإن كانت مثل شقيقتها الأخرى لا تقدم ولا تؤخر، فما حدث قد حدث في كلا الحالين. ما يتبقى هو وجوب النظر إلى الأمام، لا التثبت المَرضي على وطنٍ ليته لم يكن بالنسبة للبعض، أو ثورة ليتها لم تكن بالنسبة لبعض آخر.
حين فكرت بالكتابة عن سميرة ورزان ووائل وناظم الذين ابتلعهم حوت جيش الإسلام، وجدت نفسي أبدأ بهذا المدخل السجالي. ربما سبب ذلك أن هناك من يلوم ضحايا الإخفاء القسري هؤلاء، وغيرهم، وضحايا المقتلة السورية عموماً، على ما أصابهم، بدلاً من تحميل المسؤولية للجهات المسؤولة عن مصيرهم: النظام الأسدي الذي وجدوا أنفسهم مرغمين على الهروب من مناطق سيطرته، بسبب موقفهم الثوري، وجيش الإسلام الذي كان قوة أمر واقع في دوما حين هربوا إليها. استمد «جيش الإسلام» هذا «مشروعيته» الشعبية من ثورة آذار التي تموّه بها، ليغدر بها لاحقاً، ويظهر وجهه الحقيقي المعادي للثورة وقيمها.
القصد أن مَن يلومون ضحايا الإخفاء القسري هؤلاء هم أنفسهم من يلومون الثورة لأنها قامت.
أما نحن، فنرى في سميرة ورزان ووائل وناظم رفاقاً لنا على درب الحرية، دفعوا ثمناً لم نشاركهم فيه، تم تغييبهم لثماني سنوات كاملة إلى الآن، وما زلنا على أمل عودتهم في أقرب وقت.
لا أعرف وائل حمادة ولا ناظم حمادي شخصياً. لذلك أود أن أخص سميرة ورزان بكلمات إضافية بحكم أنهما صديقتان شخصيتان عزيزتان.
سميرة، بالنسبة لي، هي الصديقة الودودة الجميلة التي تملك قدرة مدهشة على الدخول إلى القلب. ببساطةٍ تخفي براعتها في نسج العلاقات مع الناس، تجعلك سميرة لا تشعر بأي غربة معها. وجهها الباسم، كرم ضيافتها، موهبتها الاجتماعية، يجعلونك بسرعة صديقاً لصديقةٍ بالفطرة. بيت سميرة وياسين كان بيتي كلما زرت دمشق.
رزان المحامية وناشطة حقوق الإنسان، لا تعرف، حين تلتقي بها، كيف تميز بين حرفيتها في مجالها وبين طبعها الودود الصادق، واندفاعها في الدفاع عما تؤمن به، فتشعر أنها تتبنى قضيتك الخاصة كصديقة مقربة قبل أن تكون ناشطة مدنية.
لا أستطيع أن أسامح يوماً خاطفي سميرة ورزان ووائل وناظم، سواء أولئك الفاعلين المباشرين أو جيش الإسلام الذي يقف وراءهم، أو نظام الأسد الذي هو السبب الأول لكل ما أصاب سوريا من خراب.