كان تراجع النظام السوري خلال السنوات الأولى للثورة سبباً رئيسياً في تقارب مختلف القوى السياسية المعارضة له، من أحزاب وتجمعات قديمة ومجالس ثورية جديدة. بالطريقة نفسها، ساهمت سيطرة النظام لاحقاً على مساحات واسعة من البلد، بدعم روسي أساساً، في إضعاف قوة الجذب التي ساعدت على تشكيل الأجسام الجامعة للمعارضة السياسية؛ مثل المجلس الوطني وائتلاف قوى الثورة والمعارضة، ولاحقاً، الهيئة العليا للمفاوضات.
ضمن هذه الأجواء، بدا وكأن العمل السياسي السوري يدخل مرحلة جديدة. بدلاً من التكتلات الكبرى، المترهلة والمكشوفة أمام الصراعات الإقليمية والدولية، بات بعض المهتمين بالعمل السياسي، في الشتات خاصة، يقومون بتشكيل مجموعات صغيرة أكثر حيوية وتجانساً على الصعيد الفكري أو الإيديولوجي. وحتى القوى السياسية والتيارات المنضوية رسمياً في مؤسسات المعارضة الائتلافية، عادت للتحدث باسمها الخاص وإصدار بياناتها المستقلة.
وفي حين غلب الفكر القومي واليساري والإسلامي على مراحل سابقة من تشكل الأحزاب السياسية في سوريا، تبرز الحساسيات والمبادئ الليبرالية الديمقراطية كمرجع فكري وازن لدى جل الفاعلين والفاعلات في هذه المبادرات الجديدة، دون أن تحضر دوماً كعقيدة مسماة بالاسم. هل يعني هذا أننا بتنا اليوم أمام «تيار ليبرالي» حقيقي في سوريا؟ ما هي حصيلة هذه التجارب اليافعة على صعيد الأفكار والتنظيم؟ ولماذا يتردد البعض في استعمال كلمة «ليبرالية» لتوصيف مشاريعهم السياسية في حين يجاهر البعض الآخر بها؟ وهل تكفي الإحالات العامة إلى مبادئ الحرية والمواطنة لبناء تصور متكامل وتفصيلي لأحزاب سياسية في بلد معقد ومنقسم مثل سوريا؟
قد يكون ما يحصل اليوم من نشاط ضمن هذه الأوساط بذرة لنمو أوسع لهذا التيار. وبالمقابل، فإنّ ظروف العمل السياسي خارج سوريا، وصغر حجم تلك المجموعات، يعدّ تحديّاً كبيراً بالنسبة لهذه التجارب الوليدة.
أحزاب وتجمعات
قد تكون حركة ضمير، التي تأسست في ربيع العام 2016، أولى التحركات من هذا النوع في مرحلة ما بعد تأسيس ائتلافات المعارضة الرسمية. ضمّت ضمير عدداً من الشخصيات الثقافية مثل المخرج هيثم حقي والمغني والملحن سميح شقير والمخرجة هالة محمد، وركزت نشاطاتها ضمن المجال الثقافي بشكل أساسي دون أن تترك السياسة بشكل كامل. وتُعرِّفُ ضمير عن نفسها بأنّها «حركة مدنية ثقافية ذات موقف سياسي منطلقه أهداف الثورة السورية السلمية: حرية – كرامة – دولة مواطنة. تعمل على ترسيخ الطابع المدني والعلماني والديمقراطي للثورة السورية، ولسوريا المستقبل».
وفي شهر شباط (فبراير) عام 2018، بدأت مجموعة أخرى من الناشطين السياسيين السوريين اجتماعات، رعتها منظمة أرضي (ARDI) في ألمانيا وفرنسا، من أجل تبادل الخبرات والأفكار حول العمل السياسي في سوريا، لتقود تلك الاجتماعات إلى تشكيل مجموعة سياسية جديدة باسم نواة، أُعلنَ عنها رسمياً في آذار (مارس) 2019. حسب موقعها الرسمي، تؤمن نواة «بالعمل المشترك مع مختلف الأفراد والتكوينات التي تتقاطع معها على التصور الاستراتيجي العام المرتكز على الوطنية والديمقراطية والعلمانية، وتسعى لتكون جسر تواصل بينهم نحو تشكيل هيئة سياسية سورية مستقلة جامعة». انقسمت نواة بعد ذلك إلى مجموعتين هما: نواة سوريا التي ترأسها اليوم الأكاديمية وعضوة اللجنة الدستورية سميرة المبيض، ونواة وطن التي تضم عدداً من الكتاب والمعارضين من بينهم الكاتب والمعتقل السياسي راتب شعبو، في حين تبقى الوثائق الموجودة على الموقع الرسمي متبناة من الطرفين اللذين شارك أعضاؤهما في صياغتها.
أما في بداية العام الماضي 2020، فقد أُعلِن عن تأسيس حزب أحرار (الحزب الليبرالي السوري)، ليكون أول حزب سوري معارض يتبنى الأفكار الليبرالية علناً. وتشير الوثائق التي نشرها الحزب على موقعه الرسمي إلى أنّه «حزب سياسي يتكوّن من مواطنين سوريّين اجتمعوا على قيم وأهداف ورؤى مشتركة، ويسعون لتحقيقها بالوسائل السلمية. يتبنى حزب أحرار الفكر التحرري الاجتماعي، الذي يؤمن بحرية الفرد أولاً وحقه في السعي الحر للوصول إلى السعادة». ترأسُ الحزبَ منذ تأسيسه الكاتبة والناشطة ياسمين مرعي، وهو يضمّ عدداً من المعارضين والباحثين في الشأن السوري مثل داني البعّاج وبسام القوتلي وخالد بيطار ورفيف جويجاتي.
لم ترتبط تلك التجارب بأشخاص بعينهم، وقد استطاعت خلال الفترة الماضية تحقيق حضور إلى درجة ما بين الجمهور السوري. بالمقابل، ظهرت مبادرات أخرى كانت أكثر التصاقاً بأسماء محددة، ومن دون وجود تفاصيل ومعلومات كثيرة متاحة للعموم عنها فيما عدا التغطيات الصحفية. في بداية العام الجاري أعلن رجل الأعمال فراس طلاس عن تأسيس «الحزب الوطني السوري» في بيان تم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي وتناقلته وسائل الإعلام، لكن من دون وجود إشاراتٍ واضحة إلى الطبيعة التنظيمية للحزب أو وجود مُعرّفات خاصة به. إلا أنّ الحزب قد تبنى الأفكار الليبرالية صراحةً بحسب البيان الذي نشره طلاس حول الموضوع. أيضاً، في شهر أيار (مايو) الماضي، وجّه المعارض السوري خلدون أسود دعوة لعقد مؤتمر وطني للجالية السورية في الولايات المتحدة، وهو ما يمكن اعتباره مؤشراً على حراك للتيار الليبرالي، الذي ينتمي إليه أسود، في صفوف الجالية السورية التي بدأت تنشط سياسياً في الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية.
قد يكون ابتعاد المجموعات الجديدة عن العمل مع مؤسسات المعارضة العلامةَ الأبرز التي تميزها عن المجموعات الأقدم، التي تشكّلت خلال السنين الأولى من انطلاقة الثورة السورية، مثل تيار مواطنة ومنبر النداء الديمقراطي وتيار الديموقراطيين السوريين. فقد شاركت تلك التجمعات والتيارات بشكل رسمي، أو عبر شخصيات بارزة فيها، ضمن مؤسسات المعارضة السورية مثل الائتلاف ومنصة القاهرة. وفي حين لم تُظهر التجمعات الجديدة رفضاً قاطعاً وصريحاً للعمل مع مؤسسات المعارضة، إلّا أن المسافة الواضحة التي اتخذتها تشير إلى أن الفاعلين في التجمعات الجديدة يعتبرون أن الأفق مسدود أمام أي عمل سياسي ينطلق من مؤسسات المعارضة الائتلافية.
أربعة تجارب، أفكار متنوعة عن التحرر
من مكتبه في اسطنبول، يتحدث إليَّ بسام القوتلي عبر تطبيق زووم عن نشأة حزب أحرار: «بعد سقوط حلب، أصبح هناك رغبة أكبر بين السوريين بالعمل السياسي. بدأنا أولاً كمجموعة للمناصرة ومن ثمّ تحولنا تدريجياً إلى العمل السياسي خارج إطار المعارضة التقليدية. كان هناك تحفظات لدى جزء من المجموعة على هذا التحوّل، أما من أرادوا العمل السياسي، فقد أسّسنا معاً حزب أحرار».
في الحادية والخمسين من عمره، يقوم القوتلي بإدارة مكتب العلاقات العامة للحزب، ويحاول خلق صلات جديدة مع الأحزاب والقوى السياسية السورية وفي الدول المحيطة بها. لم يفضل أن يعرف نفسه بصلة قرابة بعيدة تجمعه برئيس سوريا السابق الراحل شكري القوتلي، أو إلى ما يمكن أن تكون أصولاً برجوازية دمشقية لديه، بل من خلال انتمائه إلى عائلة والده المخرج المسرحي وليد قوتلي في بيئة أقرب لليسار الديمقراطي، إذ نشأ في دمشق ضمن عائلة متوسطة الحال قبل أن ينتقل إلى كندا ويبدأ عملاً في مجال استشارات الهجرة. لم يكن بسام القوتلي خلال حديثنا يحمل أوهاماً حول هوامش العمل الحقيقية لمشروعهم: «كان هناك ضرورة للتنظيم والدخول في صيغة العمل الحزبي. على الرغم من عدم وجود حياة حزبية فعلية في سوريا، لكن في الوقت نفسه هناك ضرورة لبدء هذه التجربة والتمرن على أدواتها وطرق العمل الجماعي، حتى لا نبدأ من الصفر عندما تكون هناك فرصة حقيقية للعمل السياسي في البلاد».
يوافق راتب شعبو (59 عاماً) على أنّ المساحات الممكنة للعمل السياسي اليوم في سوريا ضيقة للغاية، دون أن يمنع ذلك من الاستمرار في هذا النشاط. تحدّثتُ إلى شعبو بوصفه أحد مؤسسي تجمع نواة وأحد أعضاء مجموعة نواة وطن، إلّا أنّ الصحفي والكاتب كان يطغى أحياناً على السياسي خلال حديثنا، فهو يحاول أن يرى سبل التغيير الممكنة في سوريا؛ التغيير الذي دفع من أجله ستّة عشر عاماً كمعتقلٍ سياسي خلال فترة حكم الأسد الأب، وذلك نتيجة انتمائه إلى رابطة العمل الشيوعي التي ستصبح لاحقاً حزب العمل الشيوعي، والتي جمعت منذ السبعينات حلقات ماركسية رفضت ديكتاتورية نظام الأسد كما رفضت التفسيرات السوفييتية التقليدية لليسار.
أثناء إقامته المستمرة حتى الآن في فرنسا بمدينة ليل، استطاع شعبو تدوين تاريخ حزب العمل خلال الربع الأخير من القرن العشرين في كتاب شهير نُشر العام الماضي. وخلال حديثنا، كان يؤكد على أهمية وجود جسمٍ سياسي أكثر مرونةً كحلٍّ للوضع الراهن: «كتلة ليّنة على عكس الأحزاب ذات النظام الداخلي الحديدي» كما يصف الجسم المأمول، مستمراً في تبني تقليد بدأته الرابطة في رفض النموذج الستاليني الشيوعي للحزب السياسي. لذلك، يتوقع شعبو من تجمع نواة أن يكون أكثر مرونة من الأحزاب التقليدية، مع موقف واضح من القضايا الرئيسية التي تفرض أسئلتها على السوريين اليوم.
الدكتورة سميرة المبيّض أيضاً من المؤسسين في تجمّع نواة، وهي تؤكّد على انتمائها الأساسي لمجال العمل المدني، الذي تعتبره مدخلها إلى العمل السياسي. تحدثت إلى د.المبيض، التي تقيم اليوم في باريس، عن تأثير قصة عائلتها والظلم الواقع عليها في اتخاذها قرار الدخول في العمل العام: «ربما يشرح كتابي “الشهيدة الأولى، تاريخ عائلة مسيحية تحت اضطهاد حكم الأسد” الكثير من أسباب انخراطي في العمل العام. لقد كان لتاريخ عائلتي، منذ تهجيرها من لواء اسكندرون في الفترة بين عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وحتى تعرّض عدد من أفرادها للقتل أو الاعتقال نتيجة انخراطهم في العمل السياسي المعارض، تأثيرٌ كبيرٌ عليَّ وعلى وعيي للأوضاع السياسية في سوريا. بالذات قصة عمتي التي أحمل اسمها سميرة المبيض، والتي قتلت على يد أحد فروع الأمن خلال فترة السبعينات نتيجة انتمائها السياسي. كل ذلك كان سبباً لدخولي مجال العمل البحثي والأكاديمي حول سوريا، ولاحقاً عندما انطلقت الاحتجاجات في ربيع العام 2011 معلنةً بدء الثورة في سوريا، كان انحيازي الطبيعي لخيار الناس ومطالبهم».
تحاول المبيض (44 عاماً) اليوم العمل والتأثير في السياسة المرتبطة بسوريا من خلال عدة مستويات: «ركزتُ على العمل المدني والأكاديمي، وحاولتُ عدم الانخراط المباشر مع هيئات المعارضة الرسمية مثل الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات، رغم تفاعلي معها سواءً بكتابة المقالات أو بحضور اجتماع وحيد للهيئة العليا، الذي انسحبت بعده من أي اجتماعات لهذه الهيئة نتيجة ما رأيته من عدم اهتمام حقيقي لدى عدد كبير من الموجودين بمصير الشعب السوري».
على الرغم من إصرارها على اتخاذ مسافة من العمل السياسي التقليدي، إلا أنّ سميرة المبيض إحدى النساء المؤثرات في العمل العام في سوريا اليوم، سواء في دورها كرئيسة لتجمّع نواة سوريا، أو في مشاركتها ضمن قائمة المجتمع المدني في أعمال اللجنة الدستورية، مشيرةً إلى أهمية صياغة دستور جديد لسوريا باعتباره ضرورة سياسية للوصول إلى دولة ديمقراطية.
على عكس القوتلي وشعبو والمبيّض، لم تساهم جمانة قدور في تأسيس مجموعة سياسية محددة، لكنها تمثل بتجربتها شريحة مهمة من الشتات السوري تبدو مرشحة للعب دور متزايد في الحراك السياسي ليبرالي الطابع، وهي الجالية السورية في الولايات المتحدة، التي يربو عددها على 187 ألف نسمة. فضّلت جمانة (38 عاماً) التحدث بالإنجليزية خلال لقائنا، لكنّها وبطريقة غير مقصودة على الأغلب كانت تنتقل إلى العربية عند الحديث عن عائلتها أو علاقتها بسوريا قبل الثورة. ولدت في البلد، لكنّ عائلتها انتقلت إلى الولايات المتحدة عندما كانت طفلة. لم تنقطع علاقتها مع سوريا أو مع عائلتها الممتدة فيها خلال تلك السنين، حتى أنها حرصت على زيارتها بشكلٍ دوري عندما أصبحت قادرة على ذلك.
«حاول الجيل الأول من المهاجرين السوريين خلق سوريا جديدة هنا، بما يتضمنه ذلك من محاسن ومساوئ» تقول قدّور، وهو ما كان يعني بالنسبة لها أنّها ستتعرض للضغوط الاجتماعية المحافظة ذاتها التي قد تواجهها أي فتاة في سوريا تقريباً. تغيّر كل شيء «عندما رأيتُ الناس في سوريا يواجهون واحداً من أسوأ الطغاة عبر التاريخ»؛ تشرح جمانة قدّور أنها تأثرت بشجاعة السوريين داخل البلد، وواجهت تحدياتها الأصغر في الولايات المتحدة، وتمكنت من تجاوز كثير من القيود التي تفرضها الأجواء التقليدية المحافظة.
شاركت قدّور في تأسيس منظمة عمل إنساني وتحالفات ضمت العديد من السوريين في الولايات المتحدة، وذلك من أجل تقديم الدعم للعمل الإنساني خلال السنوات الماضية التي شهدت موجات من النزوح ومن استهداف المدنيين. على الرغم من ذلك، ترى بأنّ دورها يشمل أيضاً إيصال صوت السوريين إلى صانعي القرار في الولايات المتحدة. انخرطت قدّور في مبادرات مدنية ومؤسسات عديدة في الولايات المتحدة للدفاع عن وجود صوت متحرّر في سوريا، وهو ما يشكل مساهمتها الأهم في هذا السياق. شاركت أيضاً في قائمة المجتمع المدني في أعمال اللجنة الدستورية، وأكّدت أكثر من مرة خلال حديثنا أنّ حضورها هناك آتٍ من إحساسها بوجود ما يمكن تقديمه ضمن هذا الإطار بناءً على اختصاصها الأكاديمي.
على الرغم من الاختلافات في مسار حياة قدّور والمبيّض والقوتلي وشعبو، ستلتقي مسارات الأربعة في العمل السياسي من أجل سوريا. عدّة أجيال ووجهات نظر متنوعة، لكنها تتفق بطريقة أو بأخرى على أنّ مبادئ الديمقراطية والقيَم التحررية هي الطريقة الأنسب لصياغة مستقبل سوريا.
في النظر إلى المسائل الاقتصادية والسياسية
تمتلك الحريات السياسية المكانة الأساسية في وثائق الأحزاب والتجمعات الديمقراطية السورية المتاحة للعموم، وقد جرى التركيز عليها بشكلٍ أساسي وأحياناً بشكلٍ شبه حصري، خاصةً في الوثائق التي تعود إلى السنوات الأولى من اندلاع الثورة السورية. بينما تبدأ وثائق التجمعات والأحزاب الجديدة بالحديث عن أنماط الحكم والإدارة بتفصيلٍ أكبر يتجاوز مبادئ الديمقراطية العمومية، كما يبدأ الحديث عن حقوق اجتماعية وحقوق فئات بعينها مثل النساء بالظهور ضمن الوثائق الأكثر حداثة أيضاً.
تميلُ الأحزاب والتجمعات الجديدة إلى وجود دورٍ حِمائي للدولة في المجتمع من الناحية الاقتصادية، فعلى الرغم من أنّ وثائق حزب أحرار تتبنى مبدأ اقتصاد السوق، إلّا أنّها تحدد عدداً من الشروط التي يجب توفرها من بينها القضاء على الفساد والاحتكار الاقتصادي، والمساواة في الفرص ودعم الإنتاج المحلي، وحماية الفئات الأضعف: «قد نلتقي في توجهنا مع اليسار الديمقراطي، لكنّ المنطلق لدينا هو الفرد وحريته. نحن ننظر إلى تلك الحريات باعتبارها مقدسة يجب الحفاظ عليها بكل الوسائل، لكن أيضاً مع التأكيد على أنّ الحقوق الاقتصادية للأفراد في المجتمع هي جزءٌ أساسي من توجهنا» يقول بسام القوتلي. وفي حين لا تشير وثائق مجموعة نواة بشكلٍ صريح إلى النظام الاقتصادي الذي تتطلع إليه، فإنّ الكاتب راتب شعبو يختصر رؤية تجمع نواة وطن حول الموضوع: «يجب أن تتدخل الدولة لحماية الشرائح الأضعف» مؤكداً انحيازه لصالح قيم العدالة الاجتماعية التي تتبناها الاشتراكية الديموقراطية.
باستثناء حزب أحرار (الحزب الليبرالي السوري) والحزب الوطني السوري، لم تتبنَ أي من أحزاب وتجمعات المعارضة المذكورة الأفكار الليبرالية علناً بالاسم. مع ذلك، فقد تضمنت وثائق تلك الأحزاب والتجمعات العديد من أفكار الديمقراطية الليبرالية سواءً بالنسبة للنظام السياسي أو الاقتصادي. ويمكن تفسير ذلك بعلاقة المعارضين السوريين الأقدم، والآتين من خلفيات يسارية، مع المصطلح الذي قد يحيل إلى نظام اقتصادي لا يحقق ضمانات اجتماعية للفئات الأضعف والأفقر، في حين ساعد تبني الديمقراطية في مواجهة استبداد النظام منذ السبعينات على توطين مصطلح الديمقراطية في الخطاب السياسي المعارض.
في كل الأحوال، لن تنضم هذه الأحزاب والتجمعات الجديدة إلى سابقاتها في طريقة تبني الإيديولوجيا باعتبارها تعريفاً نهائياً للحزب، إذ يبدو اليوم أنّها تحاول تقديم نفسها كمبادرات سياسية بعيدة عن الدوغما وأقرب إلى تجارب برامج العمل السياسي التي تتعامل مع الوقائع أكثر من تعاملها مع الأفكار الكبرى. وربما تكون التجربة السياسية لبسام القوتلي وجمانة قدّور، المتأثرة بالإقامة الطويلة في أميركا الشمالية حيث الارتباط الواضح بين التيار الليبرالي والاشتراكية الديموقراطية، هي ما سمح لهما بتجاوز هذا التردد والإشارة بشكل مباشرٍ إلى أفكارهما الليبرالية. تقول قدّور في حديثها للجمهورية: «أرجو بالتأكيد أن أكون ليبرالية في السياسة السورية. في الحقيقة ما يخيفني هو عدد الأشخاص والأطراف غير الليبراليين المنخرطين في الشأن السوري. في إحدى مقابلاتي مع الأكاديمي العراقي زيد العلي قال لي: لا تتوقعي ممن هم ليسوا ديمقراطيين أن ينشئوا بلداً ديموقراطياً. برأيي إذا لم ننظر إلى الأمور بأنّ هناك مساحة لنا جميعاً للنمو والاستفادة والفوز، وبأن الدولة ملكنا جميعاً حتى وإن كنا نختلف في الآراء، فإننا سنواجه مشاكل كبيرة. لذلك، بالتأكيد سأكون ليبرالية ديمقراطية في سوريا لأنّ هذا جزء من تعريفي عن نفسي». أما القوتلي فهو يؤكد إضافةً إلى ذلك على أهمية الشفافية والوضوح خلال التواصل مع الجمهور السوري: «نحن نتوجه اليوم إلى الجمهور المؤمن بهذه المبادئ. هذا الجمهور يستحق وضوحاً في الطرح (…) هل أنت علماني أم لا هل أنت ليبرالي أم لا؟ هذه أسئلة يجب الإجابة عنها عند تأسيس حزب سياسي».
من جهته، كان راتب شعبو الأكثر تحفظاً في التعاطي مع المصطلح، والذي يراه باعتباره طريقة: «لإعادة التوازن بين الدولة والمجتمع» في بلد تغولت الدولة فيه على المجتمع كأحد مظاهر الديكتاتورية التي صنعها نظام الأسد طوال الخمسين عاماً الماضية. فيما حاولت سميرة المبيض أن لا تجيب بصراحة عن موقف تجمع نواة (المجموعة التي تقودها حالياً) من الأفكار الليبرالية، من خلال تأكيدها على حرص تجمع نواة على تحديد خطوط عامة تسمح بالعمل مع مختلف التيارات السياسية: «حاولنا في تجمع نواة في بداية العمل عدم وضع أوراق تفصيلية والاكتفاء بالخطوط العامة الرئيسية الموضحة اليوم على موقع التجمع، من أجل إفساح المجال أمام التفاعل مع المجموعات السياسية في سوريا لتشكيل إطار للعمل السياسي بروافع مدنية، قادرة على العمل مع مختلف التيارات السياسية».
أما فيما يخص الحقوق القومية في سوريا فإنّ الحديث عنها لم يرَ النور كثيراً ضمن وثائق الأحزاب والتيارات السورية الديمقراطية الصاعدة حديثاً؛ ففي وثائق حزب أحرار على سبيل المثال تندرج الحقوق القومية ضمن سياق منع التمييز: «يجب أن يعزز التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع القوميات والطوائف والأديان» تقول الفقرة الأخيرة من المادة 23 في ميثاق حريات الحزب. أما وثيقة إطلاق المرحلة التأسيسية، فيقول أحد بنودها المندرجة ضمن المبادئ العامة: «يحقّ لأيّ مواطن أن يشغل جميع المناصب في الدولة، بما فيها منصب رئيس الجمهوريّة، بغض النظر عن دينه أو قوميّته». ولم تتم الإشارة إلى الأكراد أو قوميات أخرى في وثائق الحزب إلّا عند الحديث عن وجوب أن تكون اللغة الكردية إلى جانب التركمانية لغات وطنية سورية، بعد أن أشار إلى أن اللغة العربية يجب أن تكون لغة رسمية. فيما يغيب الموضوع تماماً عن وثائق باقي التجمعات والأحزاب مثل نواة أو ضمير.
يرى راتب شعبو أنّ شعوراً بالمرارة «يبقى لدى القومية التي لم تستطع أن تقرر مصيرها بإنشاء دولتها. وتميل مثل هذه القومية، بطبيعة الحال، إلى النضال في سبيل تقرير مصيرها وإلى مواجهة ما يعيقها على هذا الطريق. ينطبق هذا الكلام على الكرد وعلى العرب الذين يعيشون معاً في ظل دولة لا تلبي طموح هؤلاء ولا أولئك. المشكلة أن الواقع يعاند طموح أبناء القوميتين، ويطرح عليهم خياراً بديلاً هو “الوطنية السورية”. هذا الخيار يقلب المعادلة، فيجعل الوطنية السورية غالبة على القومية. لا الكرد يمتلكون المقدمات الكافية لتقرير مصيرهم، ولا العرب أيضاً. يزداد تعقيد الأمر أكثر عندما نلاحظ أن التواجد الكردي في سوريا متقطع جغرافياً وديموغرافياً، مما يزيد من صعوبة “الإدارة الذاتية” على أساس قومي. في كل حال، نرى أن إعطاء الأولوية للوطنية السورية هو الخيار الأفضل للعرب كما للكرد، مع احترام حقوق القوميات جميعاً في ظل هذا الإطار الوطني التشاركي. وهو كما نرى خيار سياسي، أي إنه لا يقوم على تنظيرات ولا يكترث بالنبش التاريخي والصراع على الحقوق القومية».
بطريقة مشابهة ترى جمانة قدّور أنّ المسألة القومية في سوريا مرتبطة أيضاً بالحقوق السياسية والمساواة السياسية الكاملة بين السوريين: «يجب أن يحس الجميع، بالذات الأكراد، أنّهم مواطنون كاملو المواطنة، وهو شيء افتقدناه لزمنٍ طويل. أعتقد أن تَمَثُّل الحقوق القومية من الناحية السياسية في سوريا يجب أن يترك لأهالي البلد تقرير ما يناسبهم وفق الطرق الديمقراطية».
أما سميرة المبيض فتشير إلى أنّ تجمع نواة «حاولَ صياغة موقف بالتشارك مع التجمعات السياسية والمنظمات المدنية الكردية حول القضية الكردية في سوريا، والوصول إلى ورقة جامعة حول الموضوع، وبالطبع المجموعة موقفها واضح مع الاعتراف بكافة الحقوق لمختلف القوميات الموجودة في سوريا، لكن مع ترجيح للحالة المدنية من خلال الابتعاد عن تقاسم السلطة بناءً على الانتماء القومي».
هكذا تصبح الحقوق القومية متضمنةً في بنود المساواة بين المواطنين، وهو ما تتبناه الأفكار الليبرالية الأكثر كلاسيكيةً حيث كل المواطنين متساوون أمام القانون والدولة. إلّا هذه المقاربة العامة تطرح أسئلة حول جدواها في مواجهة التمييز العميق الذي تجذَّرَ نتيجة عوامل عديدة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سوريا، والذي لا يبدو أنّه سيجد نهايته بتبني مبدأ المساواة السياسية باعتباره حلّاً وحيداً للتمييز الحاصل. القضية الكردية في البلاد على سبيل المثال ليست مسألة نصوص حقوقية عن الحريات في الدستور فقط، وليست مقتصرةً على كونها مسألة ثقافية ترتبط بممارسة الهوية الثقافية، ما يطرح أسئلةً لن تجد إجاباتها في نصوص دستورية فقط.
وخلافاً للإشارة العامة إلى مسألة الحقوق القومية، تذهب وثائق كل من حزب أحرار (الحزب الليبرالي السوري) وتجمّع نواة خطوة أبعد من ذلك بقليل. «النساء متساويات مع الرجال، ولا يجوز التراجع عن أيّ مكتسبات لحقوقهنّ. ويضمن الدستور المؤقت إزالة كافّة أشكال التمييز ضد المرأة، ويسعى لخلق المناخ التشريعي والقانوني الذي يؤمّن تمكينها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فيما يتفق مع كلّ المواثيق الدوليّة ذات الصلة، وبما يتناغم مع الثقافة المجتمعية» تقول وثيقة إطلاق المرحلة التأسيسية لحزب أحرار. فيما تشير الوثيقة التأسيسية لمجموعة نواة إلى أنّ « التغيير الجذري لواقع المرأة يتطلب تغيير النظرة المجتمعية بالدرجة الأولى، فعلى الرغم من وجود القواعد القانونية والإنسانية الدولية، والتي يُفترض احترامها والالتزام بنصوصها، لكن الواقع في سوريا يُظهر تأخراً كبيراً في هذا المجال، فالمرأة تُحرم من أبسط الحقوق الأساسية للإنسان في كثير من الحالات».
عن هذه المسألة تقول جمانة قدور: «لن أتوهم بأنّ كل شيء سيكون على ما يرام في ليلة واحدة بما يخص حقوق النساء والأقليات، لكن يجب ان تكون هناك مؤسسات تضمن لنا الحق بالنضال السلمي من أجل هذه الحقوق. وأتخيل أننا في سوريا سنبدأ أولاً بإتاحة قانون مدني ومحاكم مدنية للأحوال الشخصية. هناك بعض الحقوق الأساسية التي ستترك الباب مفتوحاً لتحصيل حقوقٍ غيرها، كما حدث في المثال البوسني، فقد تبنى الدستور البوسني قرابة الثلاثة عشر اتفاقاً دولياً لحماية حقوق الإنسان. مثل هذا النوع من الاتفاقات سيفتح الباب أمام المطالبة بكل الحقوق. في سوريا اليوم هناك العديد من الأمور الأساسية غير الموجودة، ويجب العمل على بنائها».
في هذا الشأن، تؤكد سميرة المبيض على أهمية وجود مرجعية رئيسية للنظر في الحقوق الاجتماعية، وهي الحقوق الأساسية المعترف بها في الاتفاقات الدولية: «مجموعة نواة تؤمن بالحقوق الكاملة للمرأة من الناحية السياسية والاجتماعية والمساواة الكاملة بكل مناحي الحياة، إذ إنه طالما يتم إبعاد النساء عن صناعة القرار، فإنّ النتيجة ستكون مزيداً من الظلم والتمييز. لم يتم التعمق في مسألة الحريات المجتمعية في أوراق نواة، لكني قادرة على إبداء رأيي الشخصي الذي أقف فيه مع حماية كامل الحقوق الاجتماعية والسياسية المقتبسة من حقوق الإنسان، من خلال الحوار مع التيارات السياسية التي قد تكون متحفظة على بعض منها، إذ يجب أن تكون اليد العليا في مثل هذا النقاش لشرعة حقوق الإنسان».
وحده حزب أحرار يشير في وثائقه إلى حرية التوجه الجنسي، وهي خطوة تعتبر الأولى في تاريخ الأحزاب السياسية في سوريا. ليس هناك وثيقة سياسيةٌ أخرى تشير إلى هذا الأمر، ما يعطي مؤشراً إلى أنه يتم اعتماد حلٍّ وحيد لعدد من القضايا المتشابكة، بالاستناد إلى مفاهيم المواطنة والمساواة السياسية العامة، وهو ما قد يفتح المجال أمام عدم قول شيء بخصوص مسائل بعينها، أو ربما عدم تقديم حلول واضحة المعالم من الناحية السياسية لتلك المسائل، إذ وكما يظهر الآن ليس هناك حل وحيد وبسيط لما يجري في سوريا على مختلف المستويات.
* * * * *
تواجه التجمعات والأحزاب الجديدة ذات التوجهات العلمانية والديموقراطية الليبرالية تحديّات كبيرة لتبقى على قيد الحياة. على سبيل المثال، شهدت مجموعة نواة انقساماً إلى مجموعتين كما ذكرنا سابقاً، أما حزب أحرار فقد كان هو نفسه نتيجة انقسام ضمن مجموعة العمل من أجل سوريا. تدفع تلك الانقسامات المجموعات السياسية الجديدة إلى أن تصبح مجموعات صغيرة للغاية، أنويةً غير مستقرة لا يمكن التنبؤ بقدرتها على البقاء. كذلك يترك التناقض بين العيش في المنفى والعمل السياسي من أجل سوريا أثره على كل مجموعات العمل السياسي السورية في الخارج اليوم.
«السياسة عرجاء في سوريا. من هم داخل البلاد غير قادرين على ممارسة السياسة بالحد الأدنى من الحريات، أما من هم خارجها فلا يستطيعون التأثير في بلادهم» يقول راتب شعبو عند سؤاله عن مستقبل مجموعة نواة وطن. يشير شعبو أيضاً إلى أنّ «محاولات البعض للتفرد بالقرار، الخاص بمجموعة كاملة، يؤدي إلى إشكالات تقود عملياً إلى تفتيت المجموعات السياسية وانقسامها». أما سميرة المبيض فترى أنّ تاريخ التجربة السياسية التقليدية في سوريا يترك أثراً سلبياً على التجارب الجديدة: «عملت المجموعة لفترة طويلة دون انقسام، لكن أظن أن موروث العمل السياسي للمعارضة التقليدية في سوريا، التي لم تعطِ أدواراً قيادية للمرأة، قد ترك أثراً أدى لهذا الانشقاق. ذلك بالإضافة إلى الفرق بين التوجهات الإيديولوجية والتوجهات المدنية، التي دفعت إلى تشكيل تكتلات ضمن المجموعة. لقد كانت حالة سلبية، لكنني الآن أنظرُ إليها باعتبارها درساً لي في العمل العام». من جهته، لا يرى بسام القوتلي مشكلة كبيرة في الانقسامات ضمن المجموعات السياسية، ويرى أنّها من طبيعة الأشياء في العمل السياسي، كما أنّها تنتج في النهاية مجموعات أكثر توافقاً حول المواقف السياسية الرئيسي والأكثر أهمية.
اعتمدت الأحزاب الليبرالية تاريخياً في سوريا، وبالتحديد حزب الشعب، على النخب الاقتصادية والصناعية، بكلمة أخرى على البرجوازية المدينية، في بناء تحالفاتها السياسية. ثم جاءت المحاولات لخلق تيار ليبرالي مطلع الألفية الحالية بالتوازي مع حراك ربيع دمشق ضمن اتجاهين؛ حاول أحدهما استعادة ذلك الماضي بطريقةٍ ما، فيما أتى الثاني من خلفيات يسارية. أما اليوم، فتعمل الأحزاب والمجموعات الديمقراطية العلمانية، والتي تتبنى الأفكار الليبرالية، لبناء تحالفاتها في أوساط يسارية شبابية، وبين أبناء وبنات الطبقة الوسطى. إذن، ليست هذه المحاولات بأي طريقة استنساخاً لتجارب الأحزاب التي رافقت استقلال البلاد خلال القرن الماضي، بل تبدو أكثر حداثةً ومرونة. وفي حين لا يوجد صندوق اقتراع حقيقي في سوريا لنعرف وزن هذا التوجه السياسي في البلد، فإن مراقبة تلك التجارب ستكون أمراً مهماً لمن يريد النظر إلى مستقبل التغيير السياسي في سوريا.