في كل أزمنة اللغة العربية وأماكنها، لا تكاد كلمة تنازع «عين» للدلالة على عضو الإبصار في وجوهنا، ولا يكاد حرف يقترن بكلمة قدر اقتران حرف العين بها، ومع هذا، فنادراً ما تشير دروس تعليم الحروف للأطفال لهذا الاقتران؛ أجد «عين مثل عصا» و«عين مثل عصفور»، ولا أجد «عين مثل عين».
أتفهّم هذا بالمناسبة، فأنا نفسي، وخوفاً من إرباك المخ الصغير لابنتي، أحجمت كثيراً عن عقد هذا الرباط.
أما تفصيل القصة كما أفهمها، فهي أن أفراداً ساميين، كنعانيين ربما، نظروا للكتابة المصرية حولهم ذات يوم، ورأوا فيها عيناً مفتوحة، فأعادوا رسمها لتصير رمزاً صوتياً يعبّر لديهم عن الـ«ع»، مسمّين إياها، وبشكل بديهي، بـ«العين».
وفي حوالي 1850 قبل الميلاد، تواجد بعضهم في معبد حتحور بسرابيط الخادم بسيناء، أمسكوا بتمثال للإلهة المصرية المصورة على شكل بقرة، ونقشوا عليه عدداً من الكلمات بخط بدائي ورديء، كان من أول ما فُك شفرته منها هو إهداء كتبوه للبعلة: لبعلت.
سواء كانوا يقرأون الهيريطيقية أم مجرد أميين أعجبتهم رموزها فاستوحوها دون فهم، سواء كتبوا لقب إلهتهم البعلة على تمثال حتحور تقديساً للأخيرة أم استهزاء بها، فسيشكّل نقشهم هذا دليلاً إلى أول أبجدية في العالم؛ الأبجدية السينائية.
رسم الشباب وقتها حرف العين، الثالث في كلمتهم، على هيئة عين بشرية واضحة أشد الوضوح حتى لتكاد حدقة تطل من داخلها، قبل أن يتغيّر شكل الحرف كثيراً بعدها، يستدير تماماً في الفينيقية وفي العربية الجنوبية «ثم في اليونانية والقبطية»، ثم يضيع وراء متاهة من الاستنساخات في اللغات الأخرى.
في العربية الآن مثلاً لا نكاد نجد له أثراً، سوى في بعض الخطوط الهامشية، التي ترسمه، بالأساس إن كان مشبوكاً، على هيئة مربَّع لا يستقر على قاعدته وإنما على أحد زواياه، أي على هيئة «معيَّن»، والمأخوذ اسمه من العين هو الآخر.
* * * * *
في سياق معزول عن رسم الحرف، كان ساميون كثر قد استقروا على ابتداء كلمات كثيرة لديهم، متعلقة بالنور والظلام والإبصار، بحرف العين؛ في العربية هناك العمى والعوار والعشية والعسس، رجال الشرطة القادرون على الإبصار في الظلام، وفي العبرية هناك الـ«عوّير» أي الأعمى، وهناك الـ«هعاراه» أي الإيقاظ، ومن ثم التنبيه، ومن ثم الهوامش بأسفل الصفحة.
قد لا يكون اسم «المسيح الدجال» في التراث الإسلامي سوى ترجمة لـ«المسحاء الكذبة» الذين يملؤون التراثين اليهودي والمسيحي، ولكن في كل الأحوال فإن أول ما يخطر على بال أي منا بخصوص الرجل هو عينه العوراء، حتى أرجع الكثيرين اسمه، كـ«مسيح»، لكونه ممسوح العين.
يقول مثل مصري إن نصف العمى أحسن من العمى كله، ويقول آخر إن الأعور بين العميان ملك، ولكن الصور الذهنية لا تتمتع بنفس التسامح الحسابي مع العوار، إذ على قدر ما يأخذ الأعمى، في القصص والأفلام، دور الحكيم أو العراف، فإن الأعور يكون مناط الشر الغروتسكي القبيح، نحب رسم القرصان كشخص ذي عين واحدة، ويرعبنا السيكلوپ عندما يهاجم أوديسيوس وغيره من الأبطال الخيّرين، وعندما نسمع اسم موشيه ديان فإن أول ما نفكّر فيه، كعرب، هو الرقعة الجلدية فوق عينه اليسرى، وبينما يشكّل عمى العدالة رمزاً لنزاهتها المطلقة، فإن «عوار القانون» يشير لنقص فادح وفاضح ومفضوح فيه.
,
* * * * *
ليس المعنى الأصلي للجذر، إن كان ثمة شيء كهذا، إلا مرحلة واحدة من تكونه، وتأتي بعدها جذور أخرى، قريبة صوتياً، لتشع عليه بعضاً من معانيها حتى يتلوّن بها إلى الأبد، وإذا كنا نتحدث عن حرف العين فنحن نتحدث، ولو جزئياً، عن حرف الغين، ويفيض الأول على الثاني في معاني الظلام، في مثل «غسق» و«غش» و«غشاء» و«غبشة»، وحتى في «النظر المدغشش» المصرية؛ ولكن ما يلفتني أكثر من غيره هو فيضانه عليه في معاني الغيرة والدناءة أيضاً، «الغور» والنقص والانخفاض.
لا وجود في المحكية المصرية، فيما أعرف، للفعل «عار»، ولكن هناك «عوّر»، أي «جرح»، ولا يزال يدهشني اشتراك البلطجية مع الأباء والأمهات في استخدامه بكل أريحية، كأن مجالين لغويين متنافرين توحّدا في ساعة صفاء مع اللغة؛ ابني عنده تعويرة في إيده أو تعويرة الوش مافيهاش معلش.
يقال في البلاغة المصرية الحديثة «عوّرته في سيجارة»، أي أخذت منه سيجارة، حفرت فيه جرحاً بحجم سيجارة، وبحسب لسان العرب فإن «عَوَّرتَ الرجل إذا استسقاك فلم تسقه»، ومن هنا نصل إلى اشتقاق «الاستعارة»، بمعنى الاقتراض، ويكاد يكون الاشتقاق التقني الوحيد بين سائر الاشتقاقات الفاضحة للجذر، وكأن ثمة معنيين يردان على بعضهما هنا، تأخذ من الرجل شيئاً أي تستعير منه، وترفض تلبية طلبه، يستسقيك فلا تسقيه، أي تعوِّره.
يشيع كثيرً تشبيه المهبل بالجرح أو التعويرة، ولكن بنظرة أطول إليه قد نرى عيناً غائرة للداخل، ومن نظر متمعّنة كهذه قد يكون كل مفهوم «العورة» قد اختُرع، بدءاً من الجرح بين ساقي المرأة، إلى أن يسري على جسمها كله ما عدا سنتيمترات، ومنه إلى لمحات من عورة الرجل، ثم يهيم بعدها في رحاب المجاز؛ «إن بيوتنا عورة»، أي غير حصينة، وكلُّك عورات وللناس ألسن.
«الأعور» هو واحد من تسميات القضيب بالمناسبة، ولكن في الأغلب الأعم قد لا تكون هذه، فضلاً عن فكاهيتها وهامشيتها، سوى تسمية متأخرة، إذ لا أحد في الحقيقة يهتم بعورة الرجل، لا أحد يراه أصلاً في هذه المنطقة، ولم يدخل الجسد الرجولي في مفهوم «العورة» الفقهي إلا لنوازع طيبة ولكن محدودة الأثر، أما العورة الحقيقية، الجرح الغائر الأصلي، فيبدأ، وفق هذا الفهم، من العين العوراء لدى المرأة، قبل أن ينطلق أخيراً ليهيمن على فضاء «العار» كله.