لا تختلف سوريا عن باقي دول المنطقة العربية في كونها مقبلة على تحديات صعبة في مواجهة ندرة المياه،المنطقة العربية فقيرة مائياً إلى حدود أن الثروة المائية التي تحوزها فرنسا لوحدها تعادل كل كميات المياه في جميع الدول العربية. بل يترافق ذلك مع احتمالية لصراعات مستقبلية على موارد المياه المشتركة مع دول الجوار، وعلى رأسها تركيا التي تتقاسم معها ومع العراق نهر الفرات، الذي يعد عصب السياسات المائية المتبعة في البلاد. على أن مركزية الفرات لا تلغي احتمالية التنازع مع الأردن وإسرائيل على منابع مياه أقل أهمية في خارطة التوظيف السورية الحالية للمياه، حيث تمتد معظم مساحات البلاد في مناطق جافة أو شبه جافة، وتتسم بمعدل تزايد سكاني سريع، لا سيما خلال العقود الخمسة الأخيرة، ما أدى إلى انخفاض حاد ومستمر في حصة الفرد الواحد من المياه، وإلى زيادة الضغط على مصادر المياه غير المتجددة، إذ تظهر أرقام منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن نسبة الإجهاد المائيالإجهاد المائي، كما تعرفه منظمة الفاو، هو النسبة بين إجمالي المياه العذبة المسحوبة حسب القطاعات الاقتصادية الرئيسية ومجموع موارد المياه العذبة المتجددة، بعد مراعاة متطلبات المياه البيئية. في سوريا قد بلغت، في الحدود الدنيا، 124.4 بالمئة خلال العشرين عاماً الفائتة، ووصلت أحياناً إلى 145.7 بالمئة كما هو الحال في عام 2002، علماً بأن مستوى الإجهاد المائي عالمياً ما يزال عند نسبة 18.4 بالمئة.

وتعد الزراعة أكبر مستهلك لموارد المياه في سوريا، ويزيد التطور العمراني وتركز السكان في دمشق وحلب من استنزاف الموارد المائية غير القابلة للتجديد. كما أن التركز السكاني، بدرجة أقل، على طول الساحل يزيد أيضاً من الطلب على المياه ومن كمية المياه العذبة التي يتم تصريفها في البحر، رغم أن بعض مناطق الساحل ذات هطولات مطرية مرتفعة بالمقارنة مع بقية أرجاء البلاد. وقد رشح عن التوزّع غير المتكافئمن مثال ذلك أن مساحة محافظات الجزيرة السورية تتجاوز 40 بالمئة من إجمالي مساحة الأراضي السورية، لا يعيش فيها أكثر من 17 بالمئة من السكان بحسب تقديرات المكتب المركزي للإحصاء في عام 2011. للسكان اتباع الحكومات السورية سياسات تنموية غير منصفة، عادت بالضرر على كامل موارد البلاد المائية، لا سيما في المناطق المهملة تنموياً.

لمحة عامة

توجد في سوريا 10 مناطق زراعية تعتمد على هطول الأمطار، وتقع المناطق الرطبة في الغرب على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، بينما تمتد المناطق الجافة وشبه الجافة في الشرق والشمال والجنوب. وتتسم هطولات الأمطار في سوريا بتباين موسمي كبير، مع اقتصارها على فترة محدودة من الشتاء، تمتد غالباً من شهر كانون الأول (ديسمبر) إلى آذار (مارس). وتقسم المناطق المطرية إلى خمس، تتراوح فيها كمية الهطولات، مجتمعةً، ما بين 30-50 مليار متر مكعب في السنة،الأمن المائي في سورية: دراسة تحليلية لواقع الموارد المائية المتاحة، محمد العبد الله، عمران للدراسات الاستراتيجية. ما يظهر وجود تفاوت سنوي في كميات الأمطار. وينخفض هطول الأمطار السنوي من حوالي 900 ملم وسطياً على مناطق الساحل، إلى حوالي 60 ملم في أجزاء واسعة من المنطقة الشرقية.

ويمكن تقسيم البلاد إلى سبعة أحواض مائية رئيسية، هي: بردى والأعوج، اليرموك، العاصي، دجلة والخابور، الفرات وحلب، البادية، وحوض الساحل. وتضم البلاد 21 نهراً رئيسياً، 12 منها مشتركة مع دول أخرى، في حين أن بعض هذه الأنهار لا يعدو كونه عبارة عن تيارات موسمية. وتضم البلاد تسع بحيرات رئيسية، هي، وبحسب تسمياتها المعتمدة لدى الدولة السورية: الأسد والجبول وقطينة وتشرين والعتيبة والخاتونية ومزيريب والبعث ومسعدة. وتعد بحيرة الأسد الصناعية (خلف سد الفرات) هي الأكبر (674 كم مربع)، بينما بحيرة مسعدة هي الأصغر (1 كم مربع). ويوجد في سوريا سد كبير واحد هو الفرات، وسبعة سدود متوسطة، هي: الرستن وقطينة وتشرين والبعث والكبير الشمالي وباسل الأسد ومحردة. كما يوجد حوالي 140 سداً سطحياً منتشرةً فوق الأحواض، تقوم بحصد مياه الأمطار للاستخدامات المنزلية والزراعية.Syrian Water Resources between the Present and the Future, Mourad and Berndtsson, November 2011:4, Air, Soil and Water Research.

وبالنسبة للمياه الجوفية، يقدر متوسط التدفق الربيعي السنوي بحوالي 1350 مليون متر مكعب، وإجمالي الكمية السنوية من المياه الجوفية المتجددة بحوالي 4811 مليون متر مكعب، بما يشمل تقريباً جميع الينابيع والآبار القانونية. وعلى صعيد المياه الجوفية أيضاً، يدخل سوريا حوالي 1200 مليون متر مكعب من تركيا، و130 مليون متر مكعب من لبنان، في حين يغادر حوالي 90 مليون متر مكعب إلى الأردن و250 مليون متر مكعب نحو الجولان المحتل.

ويبلغ متوسط ​​الزيادة السنوية في مساحة الأراضي المزروعة بحسب إحصائية شملت الأعوام 1978-2007 حوالي 1 بالمئة، في حين بلغ معدل الزيادة السنوية في الأراضي المروية لنفس الفترة حوالي 3 بالمئة، مما يعكس حقيقة أن التوسع في المساحات المزروعة لا يعتمد بشكل أساسي على مياه الأمطار. أما بالنسبة للقطاع الصناعي، فلا توجد بيانات شاملة حول كمية المياه المستخدمة فيه، غير أن المكتب المركزي للإحصاء قدّر الطلب بحوالي 623 مليون متر مكعب في عام 2008، فيما تشير إحصاءات أخرى إلى أن الصناعة لا تستهلك أكثر من 3 بالمئة من إجمالي الاستهلاك.

ويتراوح نطاق استهلاك المياه المنزلي من 100 إلى 200 لتر للفرد في اليوم، وذلك تبعاً لنمط الحياة ودرجة توافر المياه. وبسبب استخدام شبكات نقل مياه قديمة ومتهالكة في بعض الأحيان، فقد بلغت الخسائر في نظام مياه الشرب، وسطياً، حوالي 25 بالمئة من إجمالي ما يتم ضخه في الشبكات، بينما ترتفع معدلات الخسائر إلى حوالي 50 بالمئة في محافظة ريف دمشق. وبلغ متوسط ​​استهلاك الفرد اليومي في سوريا، بما في ذلك الفاقد من المياه، 163 لتراً (المياه المُنتجة بالكامل مقسومة على عدد السكان) عندما كان عدد سكان سوريا أقل بقليل من 20 مليون نسمة عام 2009، وكان من المتوقع أن يصل عدد سكان سوريا إلى 39.6 مليون نسمة عام 2050، مع استهلاك يومي للفرد من المياه مقدر بحوالي 125 لتراً. وتشير التقديرات إلى أنه في العام 2050 سيكون 80 بالمئة من الاستهلاك للزراعة، و11 بالمئة للاستخدام المنزلي، و9 بالمئة للصناعي.المصدر السابق.

مياه السوريين (2): الاستنزاف إمكانيات وعقبات تلبية الطلب

ارتباط الأمن المائي السوري بتركيا

إن 67 بالمئة من مصادر المياه العربية تقع في أراض أجنبية، وهو ما ينذر بأن المياه ستكون، بلا شك، سلعة استراتيجية في مستقبل الشرق الأوسط، وهو ما نجد ترجمته حالياً في أزمة سد النهضة على نهر النيل والحبس التركي المتكرر لمياه الفرات.مستقبل المياه في العالم العربي، حمدي الطاهري، 2017، دار نهضة مصر. بما يتعلق بالشق السوري، لا تحبس تركيا المياه نتيجة حاجة ملحة أو نقص لا يمكن تعويضه من مصادر أخرى، بل لإجراءات ذات طابع تنموي، وهذا حق طبيعي للدول شريطة أن يكون توظيف المياه الدولية مراعياً لمبدأ عدم الإضرار بالدول المُشاطئة. إلا أنه من غير الممكن إغفال التوظيف التركي للمياه كأداة سياسية مهددة لمصالح دول الجوار.

في نهاية الأربعينات، قامت تركيا، وهي أغنى دول المنطقة بالينابيع والأنهار والبحيرات وذات مناخ جاذب للأمطار، بتحويل مجرى نهر قويق الذي ينبع من أراضيها نحو سوريا، وقبل تحويل مجراه كانت حلب تعتمد عليه في مياه الشرب وري مساحات من الحقول الزراعية. وبذلك صار إيصال المياه إلى حلب عبر تعزيز الاستفادة من نهر الفرات ومد أنابيب ضخمة بطول 200 كم أمراً لا بد منه، وهو ما حدث في الستينات ليؤثر لاحقاً على توظيفات نهر الفرات في المناطق التي يمر فيها، خاصةً بعد أن حددت تركيا حصة سوريا والعراق في وثيقة التفاهم عام 1987 بمقدار 500 متر مكعب من المياه في الثانية.يمكن الرجوع لتفاصيل أوفى حول النزاع السوري التركي على المياه في مقال «الاستيلاء التركي على مياه الفرات» المنشور في الجمهورية.نت.

التوظيف السياسي التركي للمياه كان مشفوعاً بخطط اقتصادية لبيع المياه لدول العالم العربي، إذ كان التخطيط لمشروع أنابيب السلام قائماً منذ عام 1986، بعد تعاقد الحكومة التركية مع شركة براون آند روت الدولية بغرض دراسة الجدوى الاقتصادية والفنية للمشروع، وتبيان الشركة إمكانية تنفيذه من الناحية الفنية ومن ناحية جدواه الاقتصادية.مشروع أنابيب مياه السلام التركي والمواقف العربية منه 1987م – 1999م، هشام فوزي عبد العزيز،المنارة، المجلد 14، العدد 2، 2008.

وكان الهدف من المشروع إنشاء خط للأنابيب الناقلة للمياه، يتفرع عند مدينة حماه السورية إلى خطين، على أن ينقل هذان الخطان، يومياً، 6 ملايين متر مكعب من مياه نهري شيحان وجيحان في هضبة الأناضول لتغذية دول الهلال الخصيب (بما فيها إسرائيل) ودول الخليج العربي. لاحقاً، جرى الرجوع عن البدء بتنفيذ المشروع لضخامة تكلفته، ولكن ذلك لا يعني أنه صار طي النسيان، لا سيما في ظل تدهور موارد المياه غير المتجددة في هذه الدول والنمو السكاني والاقتصادي.

أهمية المياه المشتركة مع تركيا، رغم الربط التركي للسياسات المائية بملفات السياسة والأمن، سيتطلب من سوريا مستقبلاً الكثير من الجهود كي لا يصبح نقص المياه مهدداً بالعطش واتساع مساحات الفقر، ففي الأعوام من 2005 إلى 2010، ورغم استقرار البلاد الأمني والسياسي، ونسبياً الاقتصادي، أدت موجة الجفاف إلى نزوح داخلي من مناطق الجزيرة السورية وإلى ظهور مخيمات في الجنوب. حيث تضرر 1.3 مليون مزارع، وقدّرت الأمم المتحدة أن أكثر من 65 ألف عائلة، أو ما يقارب 300 ألف شخص، نزحوا من قراهم في الشمال الشرقي.

ولا يمكن لنهري العاصي واليرموك تغطية أي نقص في الفرات بما يجنب البلاد العطش، لا سيما بعد جفاف بردى واستنزاف الخابور بشكل كبير جداً، كما أن سوريا غير ذات حقوق تذكر في دجلة، وقويق تم تحويل مجراه قبل قرابة قرن من الزمان، وسيطرة إسرائيل على مياه مرتفعات الجولان. مثال آخر على ارتباط الأمن المائي السوري بتركيا هو أزمة العام 1990، عندما حبست تركيا مياه الفرات بحجة ملء السدود ظاهرياً، ولكن نتيجة أزمة سياسية في الحقيقة. استمر الحبس شهراً واحداً (من 13 يناير إلى 12 فبراير) فخسرت سوريا في ذلك العام، الذي صادف أنه عام جفاف، أكثر من ثلث إنتاجها الزراعي.مستقبل المياه في العالم العربي، 2017.

مؤشرات الاستنزاف وطبيعته

تقع سوريا في منطقة جافة وشبه جافة، حيث 75 بالمئة من مساحتها يتصف بالجفاف. وأدى النمو السكاني المتزايد فيها ومشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية إلى زيادات متعاظمة في الطلب على المياه وفي استنزاف الموارد المائية، لا سيما خلال العقود الخمس الأخيرة مع تكثيف اعتماد موازنات البلاد على الزراعة. وكانت استعمالات المياه، أو ما يعرف بالطلب الكلي، تزداد مع الزمن بشكل شبه ثابت، إذ ازدادت من 12.769 مليون متر مكعب عام 1992-1993 إلى 17.757 مليون متر مكعب عام 2011-2012، وشكلت الزراعة المروية المستهلك الأكبر للمياه بنسبة 88.4 بالمئة وسطياً من إجمالي المياه المستخدمة فعلياً، في حين بلغت المياه المستهلكة في الشرب حوالي 8.5 بالمئة وفي الصناعة 3 بالمئة.دراسة تحليلية لأسباب الاختلال في المسألة المائية السورية، حبيب محمود وكارول الصايغ، مجلة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، 2015.

وكانت كمية الموارد المائية المتاحة تتأرجح حول قيمة محددة، فهي تزيد أو تنقص عن قيمة ثابتة تقريباً هي 15 مليار متر مكعب سنوياً، وذلك تبعاً لموسم الأمطار، مما يظهر عدم وجود زيادة ملحوظة أو دائمة فيها رغم كل الجهود التي جرى التسويق لها عن تنمية الموارد التقليدية، وخاصة السطحية منها.

العجز

عانى الميزان المائي السوري في معظم السنوات من العجز، الذي بلغ مقداره السنوي خلال الفترة 1992-2012 حوالي (-1256.6) مليون متر مكعب. وكان حوض الخابور الأكثر عجزاً مع الوقت، بحيث صار من الصعب تصحيح وضعه.

يعكس هذا العجز المائي اختلال التوازن بين الموارد المائية المتجددة المتاحة والطلب المتزايد عليها، ومحدودية الموارد المائية. والعجز المائي هو الحالة التي يقل فيها نصيب الفرد السنوي من المياه عن 1000 متر مكعب، ذلك على اعتبار أن هذه الكمية تمثل حد الفقر عالمياً. وتتعلق حصة الفرد السنوية من المياه بوفرتها وبحجم الاستخدام المنزلي وبمقدار الاستثمارات الصناعية والزراعية في البلد فضلاً عن درجة التحضر السكاني.يرفض بعد المختصين من مناهضي الرأسمالية مفهوم الفقر المائي وندرة المياه، ويعتبرون أن الأرقام المتبعة في هذا السياق وضعت لتتماشى مع النمط الاستهلاكي السائد في العالم.

العام

نصيب الفرد السوري من الموارد المائية المتجددة

1982

1760

1987

1491

1992

1286

1997

1131

2002

990.4

2007

869.5

2008

855.5

2009

838.4

2011

809

عن الورقة المعنونة «دراسة تحليلية لأسباب الاختلال في المسألة المائية السورية» بالاعتماد على بيانات مركز الإحصاءات وقواعد البيانات SERTCIC

إن حصة الفرد من إجمالي الموارد المائية السورية المتجددة، بحسب الجدول أعلاه، قد انخفضت خلال الفترة 1982-2011، أي أن سوريا صنفت ضمن الفترة 1982-1997 ضمن الدول التي تعاني من الإجهاد المائي، واستمر نصيب الفرد من الموارد المائية بالانخفاض حتى بلغ 809 متر مكعب في العام 2011، فصارت سوريا في عداد الدول التي تعاني من العجز المائي وذات الندرة المائية،تقسم الدول بحسب مفهوم محدودية المياه إلى أربعة مستويات تبعاً لنصيب الفرد السنوي من المياه: 1- دول الوفرة المائية، وفيها نصيب الفرد يزيد على 2000 متر مكعب سنوياً 2- دول الإجهاد المائي، وفيها نصيب الفرد بين 1.000 و1.700 متر مكعب سنوياً 3- دول الندرة، وفيها نصيب الفرد أقل من 1000 متر مكعب سنوياً 4- دول الندرة المطلقة، وفيها نصيب الفرد أقل من 500 متر مكعب سنوياً. وهذا الرقم كان في طريقه إلى التناقص مع تزايد أعداد السكان والنمو الاقتصادي وتغيرات المناخ.لا شك أن نصيب الفرد من المياه اختلف كثيراً بعد العام 2011 نتيجة تهجير أكثر من ربع سكان البلاد خارج الحدود، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة تحسن الرقم بالنظر إلى الضرر الكبير الذي لحق بمصادر المياه وتلوثها والاستهلاك الجائر في بعض الأحيان.

وتشير توقعات الأمن المائي لعام 2050 أن نصيب الفرد من الموارد المائية السورية المتجددة سيبلغ نحو 454 متر مكعب كحد أدنى و667 كحد أقصى. بينما أشارت توقعات المنتدى العربي للبيئة والتنمية AFED إلى أن نصيب الفرد السوري سيبلغ 650 متر مكعب من المياه عام 2015، وسينخفض إلى 550 متر مكعب عام 2025. أما توقعات الإسكوا فكانت أكثر تفاؤلاً، مقدرةً نصيب الفرد السنوي بـ 732 متر مكعب عام 2025، سيتناقص إلى 600 متر مكعب سنوياً بحلول عام 2050.

الضغط على المياه الجوفية

إن محدودية الموارد المائية التي سبقت الإشارة إليها تؤدي إلى تعرض أحواض المياه الجوفية للاستنزاف بسبب معدلات الضخ العالية والسحب غير الآمن وضعف التغذية المائية لها بفعل موجات الجفاف المتكررة، ما يعني أن المياه الجوفية التي يتم استنزافها بأشكال غير «منصفة» تجعل من الصعب تعويضها. يمكن التدليل على ذلك بمثالين راهنين: الأول يتعلق بمنطقة الجزيرة السورية التي تعاني من قطع متكرر للمياه يستغرق أسابيع متواصلة بسبب خلافات قوات سوريا الديمقراطية مع الجانب التركي والجيش الوطني المدعوم تركياً حول الضخ من محطة علوك وآلية تغذيتها بالتيار الكهربائي،حتى شهر آب (أغسطس) الماضي توقفت المحطة عن ضخ المياه 26 مرة. بما أدى إلى حفر آبار منزلية على نحو واسع لتلبية الاحتياجات الحياتية دون أي ضوابط، فضلاً عن قيام «مديرية المياه في لجنة البلديات والبيئة بمقاطعة الحسكة» بحفر مجموعة من الآبار السطحية في مناطق مختلفة من المحافظة. هذا التوجه المفرط والاضطراري نحو سحب المياه الجوفية يتركز في منطقة فقيرة أصلاً بالمياه السطحية والجوفية ومياه الأمطار، وذات طبيعة زراعية لها المساهمة الأكبر في المحاصيل الاستراتيجية، ما يعني أن ضرر السحب الجائر سيكون له تبعات سلبية على المدى الطويل.

المثال الثاني في إدلب، إذ تظهر إحصائية نشرتها جريدة تشرين الرسمية في تموز (يوليو) 2011، نقلاً عن المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في إدلب، وجود 3.158 بئراً غير مرخص في عموم المحافظة، يقابلها 8.933 بئراً مرخصاً، يشكل الاستهلاك الزراعي 87 بالمئة منها، ثم ازدادت هذه الأرقام سريعاً ليصل العدد الإجمالي عام 2016 إلى نحو 17.000 بئراً، منها 8000 بئر غير مرخص، وذلك بحسب تقارير عديدة جمعتها الجمهورية.نت عام 2018.

وكان يجري الاستخدام الجائر وغير المستدام للموارد المائية الجوفية، وما يزال، دون أدنى شعور بحق الأجيال القادمة، بهدف تأمين القمح كمحصول استراتيجي بصرف النظر عن موارد المياه واستدامتها. في موسم 2012-2013 بلغت المساحة الإجمالية للأراضي المروية في سوريا 1.566.995 هكتار، 55 بالمئة منها خصصت لزراعة القمح، واعتمدت نسبة 60 بالمئة منها على الري من مياه الآبار، مقابل 27 بالمئة من المشاريع الحكومية و13 بالمئة على مياه الأنهار والينابيع. وتركز القسم الأكبر من الاستنزاف على حوض الخابور الذي سبق أن أشرنا إلى صعوبة إصلاح وضعه بعد الضرر الذي لحق به.

نوعية المياه وجودتها

أدى النمو الصناعي والتوسع الزراعي وزيادة العمران ومتطلبات تخديمه وما رافق ذلك من تزايد الأنشطة البشرية، إلى تلوث المياه واستنزافها بسبب تصريف مياه الصرف الصحي والصناعي إلى الأنهار التي تؤمن 41 بالمئة من مياه الشرب، كما أن الإفراط في استخدام الأسمدة تسبّب بتلويث المياه الجوفية. بدوره، عاد النمو السكاني بزيادة طبيعية في الطلب على المياه؛ للاستهلاك وتغطية الزيادة في النشاطات الاقتصادية، مما سبب بدوره زيادة أخرى في تلوث المياه وتدني نوعيتها وخروج كميات كبيرة من الاستخدام لعدم صلاحيتها. وزاد تحسن مستوى المعيشة في سوريا منذ السبعينات، قياساً بما قبلها في البلد نفسه، من استهلاك الفرد اليومي للسلع المنزلية والمصنعة ونصف المصنعة والزراعية والحيوانية التي يكون الماء مكوناً أساسياً في تصنيعها أو إنتاجها.

هنا لا بد من الوقوف عند معدل النمو السكاني في سوريا وما يشكله من ضغط على الموارد المائية، فهو مرتفع جداً بحيث يتضاعف عدد السكان مرةً كل 25 عاماً. وقد بلغ عدد سكان سوريا عام 1937 قرابة 2.192 مليون نسمة، وفي عام 1960 حوالي 5.456 مليون نسمة، وفي عام 1981 حوالي 9.064 مليون نسمة، وفي عام 2001 بلغ حوالي 16.72 مليون، ليصل عام 2011 إلى حوالي 21.124 مليون نسمة. وعليه فإن نظام النمو السكاني الانفجاري الذي تشهده سوريا، بنسبة وصلت وسطياً إلى 3.34 بالمئة سنوياً طوال النصف الثاني من القرن الماضي، انخفضت إلى 2.5 بالمئة في أول عقد من الألفية الثالثة، يتطلب نفس الزيادة في الإنتاج الزراعي وزيادة مشابهة في احتياج الزراعة للمياه. هذه الزيادة الانفجارية في عدد السكان تعني زيادة الاستهلاك 25 بالمئة بمرور 10 سنوات و50 بالمئة بمرور عشرين عاماً، وذلك كله في ظل أمن مائي مهدد من قبل الوصول إلى هذه الزيادات السكانية.خصصت الجمهورية.نت أول مقالات سلسلة «مياه السوريين» للحديث بشكل مفصل عن تلوث المياه وتداخل شبكات الصرف الصحي مع شبكات مياه الشرب ومصادر تغذيتها.

التوزع الديمغرافي غير المتوازن

لا يمكن تجاهل عمليات التنمية التي تمت في سوريا خلال العقدين السابقين لانطلاقة الثورة السورية وما أحدثته من تغييرات، إلا أنه من بين أبرز عيوبها الكثيرة هو تركّز الجهد الاقتصادي بجوانبه الصناعية والتجارية والزراعية والمالية كافة في قطبي المحور الاقتصادي الفعال (دمشق وحلب) بسبب سهولة وسرعة التشييد التنموي نتيجة توفر البنى التحتية فيها.مرجع سابق. وأدى التوزع الديمغرافي غير المتوازن إلى توزيع غير متوازن بين مصادر المياه ومناطق الاستهلاك على مستوى سوريا، ما دفع لاستثمار الطبقات المائية على نحو يستنزفها ويدهور نوعية المياه ويخرّب البيئة ويزيد من تصحر الأراضي الخصبة وموت البساتين تدريجياً، لا سيما في غوطة دمشق، حيث تضاعف عدد سكان حوض دمشق المستهلكين لمياهه بمقدار 1.09 مرةً في الفترة من 2002 إلى 2012، مما أدى إلى انعدام التوازن بين الكتلة البشرية والثروة المائية لهذا الحوض.

سياسة الأمن الغذائي

المكون الأساسي لزيادة الطلب على المياه هو من نصيب الزراعة كما سبق أن أشرنا، وهي تستأثر بنسبة 88.4 بالمئة من إجمالي الاستهلاك. تقوم السياسات المائية السورية على تحقيق الأمن الغذائي، غير أن الموارد المائية ليست كافية لتحصيل هذا الأمان، لا سيما في ظل تقنيات الري المستخدمة حالياً، والتي أقل ما يقال في حقها إنها متخلفة. لذا فإن «الأمن الغذائي» هو المتسبب الأول والرئيس في العجز المائي. رغم ذلك، لم تصل سوريا يوماً إلى الأمن الغذائي، فالموارد المائية المتاحة غير كافية لتحقيقه من مصادر المياه المتجددة، مما دفع إلى استنزاف موارد المياه الجوفية الأحفورية والإفراط في سحبها، وإلى الضغط على قطاع المحروقات المدعوم من موازنة الدولة رغم أن سوريا دولة غير نفطية. وفي المحصلة، ارتفع استهلاك الحبوب في الفترة الممتدة من عام 2000 إلى 2012 بنسبة 38 بالمئة، في حين لم تتجاوز نسبة ارتفاع إنتاج محاصيل الحبوب 31 بالمئة. ولسد الفارق المتزايد بين العرض والطلب ازداد الاستيراد على الحبوب، فبين عامي 2000 و2010 سجلت واردات الحبوب ارتفاعاً بنسبة 53،7 بالمئة. وازدادت نسبة الاعتماد على واردات الحبوب إلى 34.2 بالمئة في الفترة 2000-2012.

كفاءة الاستخدام

لا تتجاوز نسبة كفاءة الاستخدام في قطاع الزراعة 40-45 بالمئة بحسب تقديرات البنك الدولي، لا سيما أن مساحات الأراضي المروية بالطرق الحديثة (تنقيط، رش، رذاذ، سطحي مطور،..) لا تتجاوز 20 بالمئة من مساحة الأراضي المخطط ريها وفق أرقام العام 2013. وقد بلغت نسبة الفاقد في القطاع المنزلي والصناعي بين 30-35 بالمئة. كما قدرت وزارة الموارد المائية السورية حجم الفاقد في شبكات مياه الشرب بنحو 33 بالمئة في عام 2013. وأشار تقرير الإسكوا إلى أن 40 بالمئة من فاقد المياه في سوريا، في العموم، يعود إلى سوء إدارة قطاع المياه وضعف السياسات المائية السورية.