يبدأ ألبوم كاني ويست الجديد بمقطع قصير لا تتجاوز مدته الدقيقة الواحدة، تتداخل فيه الإيقاعات والموسيقى قبل أن تتلاشى، مع ترديد مطوّل لكلمة واحدة: «دوندا»؛ اسم والدة كاني ويست التي فارقت الحياة عام 2007، يتردد الاسم دون انقطاع وكأن طفلاً يتعلم به التهجئة، برتمٍ سريع ومن ثم برتمٍ أبطأ، يعاد الاسم مراراً وتكراراً إلى أن يمتد ويتلاشى مع الصمت المطلق.
البداية غير النمطية تولّد سيلاً من الأسئلة التي ستقودنا لا محالة للسؤال عن سبب اختيار كانيه ويست لاسم أمه عنواناً للألبوم الجديد. لماذا يفعل ذلك بهذا التوقيت، بعد مرور 14 عاماً على غيابها؟ هل انفصاله عن كيم كارداشيان قاده إلى إعادة التفكير في مفهوم عائلته المفككة وحياته المبكرة مع أمه التي انفصلت عن أبيه حين كان عمره لا يتجاوز الثلاث سنوات؟ لعل الغالبية ستنحاز لهذه الفرضية، فهي بالطبع الأكثر جاذبية؛ لكن نظرة إلى السياق الزمني لإطلاق الألبوم – والذي كان ذاته سبباً باختلاق هذه الفرضية وتداولها على السوشال ميديا – ستجعلنا نرى كم هي غير منطقية، فانفصال ويست عن كارداشيان حدث شهر فبراير الماضي، بينما بدأ ويست بالعمل على إنتاج ألبومه قبل عامين وكان من المقرر أن يصدر الألبوم قبل 14 شهر من تاريخ إصداره لولا جائحة كورونا. وحتى لو افترضنا وجود فوارق زمنية كبيرة بين تاريخ حدوث الطلاق وتاريخ الإعلان عنه، فإن ذلك لا يجعل ما نسمعه في الألبوم منطقياً؛ فلا يوجد منطق يبرر افتتاح ألبوم راب بترديد اسم والدة المغني لدقيقة كاملة. فعلياً إن ما يجعل هذه الافتتاحية تكتسب نوعاً خاصاً من الجاذبية هو عبثيتها ولا منطقيتها.
«دوندا» هو عاشر ألبومات كانيه ويست الفردية وأطولها، إذ تصل مدته إلى 109 دقائق موزعة على 27 مقطع صوتي. وكما هي العادة في ألبومات ويست، فإن «دوندا» حافل بالشراكات الفنية، التي تحوّل الألبوم إلى مهرجان صغير للراب، يشارك فيه نخبة من أفضل الرابرز وأكثرهم شهرة، من أمثال يونغ ثاغ وجاي زيد بالإضافة للشراكات التي تجمعه بنجوم البوب البديل من أمثال «ذا ويك إيند»؛ هذه الخاصية التي تلازم ألبومات ويست وتزيد من إقبال الجمهور عليها، لا تبدو ملائمة كثيراً للطابع الشخصي الذي يحاول ويست أن يضفيه على «دوندا»، حيث تشعر بثقل الأصوات المتعددة وكسرها للحالة الشعورية التي يرسمها ويست من خلال كلماته التي تتدفق بانسيابية عالية، تسمح رغم شعريتها بالولوج إلى حالة نفسية تبدو مفهومة إلى حد كبير إذا ما استعنا بالإرشادات العامة المحيطة بظرف إنتاج الألبوم وإذا ما فهمنا الجانب الإنجيلي الجديد من شخصية كانيه ويست، وهو جانبٌ لم يظهر في الألبوم بشكل مفاجئ. هذه الحالة تبدو متعارضة بشكل كبير مع العبارات التي يؤديها جاي زيد أو فوري أو حتى ليل دارك، التي تقدم فكراً معارضاً لها في سياق غريب يجمع بين الأضداد. ذلك ما نشعر به في العديد من العبارات التي ترد على ألسنة الآخرين والتي نلتمس بها حساً ساخراً من الفكر المسيحي، كما هو الحال في أغنية Jail، التي يقول فيها جاي زيد: «الله في زنزاني\ خليتي…يستخدم جاي زيد كلمة cell التي تحمل معنى مزدوج، “الخلية” و”الزنزانة”، ليتلاعب بالألفاظ ويسخر من ماهية الإنسان بعلاقتها مع ماهية الله صُنعت على صورة الله، أنها صورة سيلفي»، هذه الجملة وغيرها من الجمل التي تأتي بأصوات الآخرين، تبدو أنها مستمدة من العقيدة المسيحية لكنها تتلاعب بالألفاظ لتخرج بأفكار ساخرة.
ظاهرياً هكذا يبدو الأمر، أن كانيه ويست يسعى في ألبومه الجديد لتقديم نسخته النظيفة من فن الراب، بفكر يتوافق مع إيمانه بالأفكار الإنجيلية التي أنشأته أمه عليها. مع الإشارة إلى أن المسيحية لعبت دوراً مباشراً في إنتاجات ويست في الأعوام الأخيرة، منذ أن أنتج ألبوم Jesus Is King عام 2019 على أقل تقدير، دون أن نغفل وجود بذور سابقة لهذه الأفكار في ألبوم The Life Of Pablo، الذي سعى للربط بين شخصياتٍ مثل «بول» الرسول وزعيم المخدرات بابلو إسكوبار والفنان الثوري بابلو بيكاسو؛ لقد كان ألبوم «بابلو» تحفة إبداعية لا يختلف على جودتها الكثيرين، لكنه كان أيضاً بداية خط التحول الذي نقل ويست بين طرفي النقيض، لتتجلى آثار هذا التحول سنة 2019 بألبوماته الإنجيلية وإعلانه أنه سيتوقف عن الشتائم في أغانيه تماماً، الإعلان الذي تزامن مع إعادة ويست تسجيل نسخ نظيفة من أغانيه الكلاسيكية. لذا فإن «دوندا» بالنسخة المتاحة الحالية هو مثال على الراب الإنجيلي النظيف، أو بالأحرى الراب الإنجيلي على مذهب كانيه ويست، الذي ينتقي ما يحلو له من التعاليم المسيحية ويسمح لأصوات مناهضة له باختراق السياق وتحريفه.
تأثير الإنجيلية يتعدى الكلمة في ألبوم ويست ليتغلغل في الإنتاج الموسيقي لعدد كبير من الأغاني، التي تعتمد على أصوات الجوقات برسم الأجواء العامة بدلاً من الاستناد إلى المؤثرات الصوتية الإلكترونية التي كانت تلازم أغاني ويست منذ بداياته. فعلياً يبلغ الإبداع بصياغة الموسيقى ذروته عندما يزاوج ويست بين النمطين، ولاسيما في أغنية Hurricane التي يشارك فيها ذا ويكايند وليل بابي ويمكن الإشارة إليها بوصفها الأغنية الأبرز في الألبوم في رصد التحول الذي طرأ على أغاني ويست في طريقها نحو التناغم مع موسيقى البوب الإلكترونية الحديثة.
على الرغم من التباين بأساليب الإنتاج المستخدمة، لكن ستشعر طيلة الوقت أن الألبوم هو وحدة واحدة، إنه يبدو كخطاب محافظ جديد يُلقى بنبرة حادة، تستثمر به بعض القضايا الجذابة لزيادة شحنة العاطفة فيه دون الانغماس فيها؛ هكذا تمر العبارات التي تلمّح لقضايا دائمة الحضور في المجتمع الأمريكي، كالعنصرية ضد السود والنظرة الدونية لهم، دون أن تشكل هذه العبارات تضاداً مع السياق العام المهادن؛ فتمر بأغنية Off The Grid عبارات مثيرة للجدل مثل: «يقول البعض أن آدم لا يمكن أن يكون أسود اللون، لأن الرجل الأسود من المستحيل أن يشاركَ ضلعاً». إلا أن عباراتٍ كهذه ستنصهر في بوتقة الخطاب المحافظ دون أن تحول مساره.
هكذا إذاً تشعر أن ويست قد استفاد من الأصوات المتعددة في الألبوم ليضعها في سياق يبرز فيه صوته بوصفه الأكثر إتزاناً وفقاً لمعايير المجتمعات المحافظة، ليغني عن مفهوم العائلة التي أضاعها مرتين في حياته وعن علاقته باللّه والوجود، لينجح بذلك في تقديم صورة يتغرب فيها عن نفسه؛ صورة ما كان لأحد أن يتخيلها قبل عدة أعوام، عندما كان ويست يخوض حروباً علنية ضد نجوم البوب ويثير الجدل بتصرفاته المريبة مع تايلور سويفت مثلاً؛ فاليوم نراه يبكي في الفيديوهات ويكسب تعاطف الملايين وكأنه لايزال مرشحاً للانتخابات الأمريكية يبحث عن الصورة المثالية التي يرغب الجموع بمشاهدتها. أما جمهور الراب الذي سيستمع لـ«دوندا» بحثاً عن هوية كانيه الضائعة سيخيب أمله إلى حد بعيد، ولن يخفف من الصدمة سوى جودة إنتاج الموسيقى والمداخلات الجيدة التي تكسر السياق بأصوات الآخرين.