ليس من غير المألوف وقوع العين على خبر متكرر في الإعلام من قبيل محاولة الهروب من أحد السجون. شهدَ العالم ويشهد عشرات الآلاف من هذه العمليات، فالمحاولة أو النجاح في الهروب من الاعتقال -أياً يكن هذا الاعتقال- هو رد فعل بشري طبيعي غير مُستغرَب، حتّى أن بعض التشريعات الحديثة لا ترتب أي عقوبة على هذا الفعل.

يأتي مثل هذا الخبر عادة في الخلف من العناوين الكبرى، حتى أن عمليات أكثر هوليودية كنجاح باسكال باييت في الهروب مرتين من سجون فرنسا باستخدام طائرة مروحية، أو محاولات الهروب من سجن ألكاتراز الفيدرالي الأميركي الواقع في عرض البحر، لم تتعدَ أحياناً أن تكون خبراً محلياً في تلك البلاد. لكنّ قدرة الفعل ذاته فلسطينياً على إزاحة الملفات الدولية الكبرى عن واجهة الإعلام والجلوس مكانها يشير حتماً إلى استبطانه أموراً تتجاوز الفعل نفسه، بل وتتجاوز حتى النتائج المباشرة المترتبة عليه مهما كانت هذه النتائج.

«رأيتُ عربياً في المكان، يجب عليكم فحص الأمر»

تختصر هذه العبارة المفتاحية الأحداث وتُفسّرها في الوقت نفسه. لقد استغربَ مواطن إسرائيلي عادي وجودَ رجل عربي يمشي في وقت مبكر من الصباح على جانب الطريق؛ «مكانهم الطبيعي داخل السجن وليس قربه»، ربما قال لنفسه وهو يخرج هاتفه من جيبه ليتصل بالشرطة.

حسابات اللاوعي مسبقة الصنع هذه التي بُرمِجَ المواطنون الإسرائيليون عليها كانت أوّل من كشف عن عملية الهروب، وربما سرّعت عملية القبض عليهم. بإمكان آباء الدولة الصهيونية الاعتزاز بنجاحهم في تحويل معظم اليهود العاديين إلى مخبرين في إسرائيل، ولكن لحظة! لم ينته الأمر هنا، لن تستطيع آلة الدعاية مواصلة اللعب على الحبال إلى ما لا نهاية، فالدولة الإسرائيلية لم تستطع تحويل مواطنيها إلى عين ساهرة على حركة الفلسطينيين إلا بعد أن أقنعتهم برواية أخرى.

رواية طافحة بنرجسية امتلاك القوة والأخلاق معاً:

الجيش الذي لا يقهر، والذي صنع أكثر الاحتلالات إنسانية في التاريخ. المخابرات الأكثر قدرة على الوصول إلى أعدائها في أي مكان على الأرض، لكنها جاهزة للتضحية بأرواح عناصرها كي لا تؤذي المدنيين. السجون الأكثر حصانة من الهروب والأكثر رفاهية في الوقت نفسه. «يكفي مثلاً أن تقول بأنّ الجيش الإسرائيلي هو ثاني أكثر جيش في التاريخ التزاما بالأخلاق كي تنهال عليك السيوف في اسرائيل»؛ كتب الصحافي المرموق جدعون ليفي. لقد بلغت تلك الرواية حد الإشباع، حتى أنّ سؤالاً عن سبب تولي جهاز الموساد مهمة الحصول على لقاحات الكوفيد لم يُسأل جديّاً هناك.

ولأنّ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تدرك جيداً ما يسببه اهتزاز صورتها أمام جمهورها مع كل حدث يدفع إلى التشكيك في عقيدة التفوق الإسرائيلي، كانت تسارع فوراً لتقديم رواية مختلفة، لا تلبث المؤسسات الإعلامية المؤيدة لها حول العالم أن تنضمّ إليها في عملية صيانة اللاوعي الإسرائيلي داخلياً، وترميم صورة الضحية الشامخة التي ما انفكت تقاوم من يحاول إعادتها إلى أوشفيتز خارجياً. وهذا بدوره يصنع حرب سرديات مع كل حدث مهما كان حجمه، وفي الوقت نفسه يفسّر قدرة الفعل الفلسطيني دائماً على العودة إلى واجهة الأحداث.

لقد سلبت عملية الهروب هذه بعضاً مما يحيط به الإسرائيليون صورتهم من تجريد. ولم تهدر الحكومة الإسرائيلية شيئاً من الوقت، فاستصدرت قراراً قضائياً بحظر النشر بسرعة تفوق سرعة تعديل الدساتير العربية (لا يعترض أحد القرّاء على هذه المقارنة، فالناطقون الرسميون الإسرائيليون أنفسهم كثيراً ما تغريهم هذه المقارنة للاستخدام)، واقتصرت المعلومات في الساعات الأولى على ما تقوله الحكومة بشكل رسمي، وقد جاء على الشكل التالي:

«مكالمة تلفونية أدّت لاكتشاف هروب ثلاثة مساجين قبل ثلاث ساعات»، ومن ثم عُدل الخبر ليصبح «بعد إجراء الإحصاء الصباحي تمّ اكتشاف هروب ستة مساجين»، ثم «الهاربون تلقوا مساعدة كبيرة من الخارج حيث تولت ثلاث سيارات نقلهم من المكان»، ثم «حفرتهم كانت تحت برج الحراسة تماماً لكنّ الحارسة كانت نائمة»، ثم «الهاربون وجدوا مساعدة في الداخل من بعض الحراس»، ثم «الشركة التي قامت ببناء السجن قامت بنشر مخططات البناء على الانترنت مما مكَّنهم من حفر النفق»، ثم «تم إلقاء القبض على بعض أقارب الهاربين للاشتباه بتقديم المساعدة لهم»، ثم «قد يكون بعضهم خرج من البلاد ما يؤكد على وجود مساعدة خارجية»، ثم «بعد مكالمة من مواطن عربي في الناصرة تم إلقاء القبض على اثنين من الفارين»، ثم «إلقاء القبض على اثنين آخرين قرب جبل الطور»، ثم «من الواضح أن لا مساعدة خارجية قدمت للهاربين».

ليس مهماً إن كان حظر النشر ما زال سارياً حتى الآن، وعلى الرغم من الحكايات القابلة للمماطلة التي أصدرها وسيصدرها الرقيب العسكري، فقد هربوا من جلبوع ولن تستطيع جميع البطولات التي سيرويها إعلامهم عن عملية إلقاء القبض عليهم إصلاح الجهة المكسورة من اللوحة؛ لقد خسرت إسرائيل حرب السرديات هذه المرة.

قبيل الانتفاضة الأولى، بقليل استطاع فدائيان بواسطة طائرة شراعية انطلقت من منطقة المطلة في جنوب لبنان الإغارة على قاعدة غيبور العسكرية قرب مستوطنة كريات شمونة، ولكن الصحف الإسرائيلية والمعلقين لم يرمش لهم جفن وهم يصفون الفدائيين بالجبناء. صحفي إيرلندي شهير يومها لم يتمالك نفسه حين قاطع المتحدث العسكري: «جبناء! أنت تقول جبناء! رجلان هاجما وحدهما قاعدة عسكرية بطائرة شراعية وتقول جبناء! قد يكونوا إرهابيين لكن ليسوا جبناء».

«النازيون نفذوا عمليات مشابهة ولا يمكنني وصفهم سوى بالجبناء»؛ ردَّ الناطق العسكري الإسرائيلي.

وبُعيد الحرب الأخيرة على غزة بقليل وقف أحد القادة العسكريين الفلسطينيين، من الذين طالبت الصحف الإسرائيلية علناً باغتيالهم، ليتحدى الطائرات على الهواء مباشرة قائلاً إنه سيعود على قدميه إلى بيته. وقد فعل، لكن مع ذلك وجد بعض المعلقين في اليمين الإسرائيلي الجرأة في أنفسهم ليصفوه بالجبان.

حاولتُ البحث عن مدى استعداد الإعلام الإسرائيلي هذه المرة لاستخدام المفردة ذاتها، التي لم يتوقفوا يوماً عن استخدامها ضد أي فلسطيني يقاومهم، ولم أجدها. بالمقابل، كان هناك الكثير من السخرية وخصوصاً لتزامُن الحدث مع هزيمة المنتخب الإسرائيلي أمام الدنماركي صفر لخمسة:

يديعوت: لو كانت النتيجة ستة لصفر لوزّعوا البقلاوة في جنين.

هآرتس: بالأمس في جلبوع ستة واليوم خمسة ماذا عن الغد.

إسرائيل اليوم: لدينا حراس مرمى كحراس جلبوع.

حسناً، ببطء شديد ربما، ولكن يبدأ الإسرائيليين بإدراك خصمهم جيداً.

لقد كشفت عملية الهروب هذه عن ركاكة اللغة التي صُنعت منها رواية التفوق الاسرائيلية، وهذا يكفي كي يشعر هؤلاء الرجال في زنازينهم المنفردة -التي سيقضون فيها فترة طويلة على ما يبدو- بأنّ ما فعلوه كان يستحق المحاولة، ولكي يتأكد الإسرائيليون تماماً بأن أعتى الزنازين لن تقنع الفلسطينيين بالدخول طوعاً في الغياب.

قال نتنياهو يوماً إن «إسرائيل يجب أن لا تكذب على نفسها بأنها لن تبقى إلا بحدّ السيف حتى الأبد». لقد ساعد هؤلاء الشبان الستة نتنياهو في البرهان على صدق مقولته أمام الإسرائيليين، أمّا الفلسطينيون فلا حاجة لهم للبراهين، إسرائيل بما هي عليه، لن تبقى إلا بحدّ السيف.

بالمناسبة، القادة الإسرائيليون يعتقدون، مثل أقرانهم العرب، بأنّ الأبد أيضاً يعمل تحت خدمتهم.

«الناصرة لم تنصرهم، لقد كانت اسماً على غير مسمى»

ليست هذه المحاولة الأولى للهروب من الأسر، بل سبقتها محاولات فلسطينية مماثلة، إحداها كانت من السجن ذاته. الجديد هذه المرة هو حالة شبه الفراغ في القيادة وعجز الفصائل الفلسطينية عن الاتفاق على مشروع نضالي موحد (في الحقيقة هم مختلفون على كل شيء). والجديد أيضاً هو قدرة العين المجردة على إدراك الحركة العنيفة التي حكمت انتقال المزاج العام المهتم بالحادثة فلسطينياً وعربياً من أقصى حالات النشوة والكبرياء بداية إلى أدنى حالات الخيبة وعدم الثقة لاحقاً.

استيقظ الفلسطينيون فجراً على صورة لجنود الاحتلال حائرين أمام حفرة بحجم زهرة عباد شمس كبيرة، مع شعاع ممتدّ يجعل من يراه يغمض عينيه وكأنه يرى الشمس مباشرة.

من عادات الفلسطينيين -قد يكون من آلياتهم الدفاعية- النظر لأي انتصار على أنه قصيدة أو أغنية -يفعلون هذا مع الهزائم أحياناً-، وعلى الرغم من بعض المعارك الجانبية التي حكمت بتجريم كل من استخدام مفردة هروب لوصف ما حصل أو شبّهه بالأفلام السينمائية، فقد ارتفع النرجس الفلسطيني ليصبح أعلى من نبتة الفاصولياء التي زرعها جاك في الحكاية الشعبية الإنكليزية.

لم يَطُل الأمر كثيراً على ما هو عليه، ثم كان خبر اكتشاف مكان أربعة أسرى واعتقالهم. «أحد سكان الناصرة وشى بهم»، أتمّ الرقيب العسكري خبره.

يشهد المزاج العام الفلسطيني في العادة تقلبات بائسة من حين لآخر، لكنّ أسوأ أعراض الهوس الاكتئابي التي قد تصيب مهندس المزاج الفلسطيني تعجز عن مضاهاة فعل هذا الانتقال القاسي، من ذلك الكبرياء الذي أثاره مشهد الشمس قرب سور السجن إلى اتهام الناصرة بالطريقة التي حصلت.

الناصرة!

هي التي خذلت الأسرى؟!

الناصرة؟! الشاهد الوحيد المتبقى على المدينة الفلسطينية بعد النكبة، خذلت الأسرى وأصبحت اسماً على غير مسمى؟!

لن تعجز وسائل الشيطان التي يمتلكها الاحتلال عن إيجاد نقطة الضعف في قلب أحدهم هنا أو هناك. العملاء هم القاسم المشترك لجميع الاحتلالات، والفلسطينيون ليسوا استثناء. قد يكون، بل من المستحيل ألّا يكون، هناك عملاء فلسطينيون يحاولون كشف مكان الأسرى، ورغم ذلك لا شيء يدفعنا لنصدق رواية الاحتلال بهذه السرعة.

لقد سقط وسم «الناصرة خذلت الأسرى» بأسرع مما صعد، لكن بمرارة و بأي خيال مشوه استطاع البعض التحوّلَ طوعاً إلى ذباب إلكتروني لدى الاحتلال وهو يردد هذه العبارة، كيف طاوعهم قلبهم؟!

نعرف أن الإسرائيليين يجندون كل شيء في الحرب، حتى أنّ صحيفة رصينة بالنسبة لقرّاء العبرية من الفلسطينيين، مثل هآرتس، بإمكانها التحول فوراً إلى واحدة من أدوات الدعاية الاسرائيلية حين تصدر نشرتها تحت عنوان عريض يقول إن «الخط الأخضر لم يكن أكثر سماكة مما هو عليه اليوم». تناسى كاتب المقال بأن الخط الأخضر قد اختفى منذ وقت طويل، تحت أساسات الجدار العنصري الذي بنته دولته بأبعاد مضاعفة طولاً وعرضاً وسُمكاً عن جدار برلين الشهير سيء السمعة.

الناصرة وأهلها لا يحتاجون أحداً ليدافع عنهم، يعرفهم وشاهدهم الجميع في الحرب الأخيرة وفي الانتفاضات التي سبقتها، وليس الفلسطينيون في الداخل بحاجة إلى هآرتس لتشرح لهم عن سماكة الخط الأخضر، فلم يمض وقت طويل على آخر مرة داسوه باتجاه الشيخ جراح. ولكن، أليس أجدى للفلسطينيين أن يجدوا طريقة لتوزيع أعباء الهمّ الوطني بينهم بدلاً من توزيع الاتهامات؟

قبل أشهر قليلة كانت غزة تأكل النار صامدةً عابسة، فلسطين كلها انتفضت في الداخل والخارج لأجل القدس، ولكن هل دفع الجميع الثمن نفسه بالتساوي؟ ولماذا يكون من المشروع الحديث أحياناً عن بعض الفوائد «الوطنية» التي قد يحققها التنسيق الأمني في الضفة، في الوقت الذي يُستنكر فيه على أهالي الداخل الخوف على أنفسهم وعلى أحوالهم؟

لقد فتح هؤلاء الستة المستعصون على الهزيمة طريقاً مستحيلاً نحو حريتهم، حاولوا… ولكن ماذا بعد؟ هل ننتظر بقية الأسرى كي يحفروا أنفاقاً من أجل أن يتحرروا؟ هل أصبحت مهمة تحرير الأسرى تقع على عاتقهم هم أنفسهم؟

لقد كشفت عملية الهروب من السجن عن الصدأ المتراكم في تفاصيل الرواية الإسرائيلية، وعن مدى قابليتها للكسر، ولكنها في الوقت نفسه برهنت، كما قال إميل حبيبي على لسان سعيده المتشائل قبل خمسين عاماً، على أنّ إسرائيل لن ترضى للفلسطينيّ بين النهر والبحر أن يكون إلّا أسيراً للاحتلال، يُعامَل بالطريقة نفسها، ولا يغير في الأمر شيئاً إن كان موجوداً داخل جدران السجن أم خارجها.

بقي شيء واحد:

كيف استطاعت قلوبهم تحمل هذا الفرح وهم يخرجون؟ كيف يسيطرون على غرورهم بعد الآن وهم الذين من عتمة زنزانتهم قرروا الزمان والمكان والعدسة وحتى الإضاءة ليجعلوا الدنيا كلها تنظر نحوهم؟