ماركوس، حدثنا عن نفسك؟

اسمي ماركوس بيسوا، برازيلي ومدرّس في ثانوية دون بوسكو في سلفادور، في منطقة باهيا. أعمل كمدرّس منذ 25 عاماً. حاصل على دكتوراه في التربية والدراسات المعاصرة من الجامعة الحكومية في باهيا وعلى دكتوراه في العلوم التربوية من جامعة باريس الثامنة في فرنسا. وإلى جانب عملي كمدرّس للغة البرتغالية، أعمل كمدرّب للمدرّسين الآخرين، حالياً أشتغل في البحث بين مجالي علم النفس والتربية.

ما هو عملك بالضبط في مجال التربية والتعليم وأي مستوى تعلّم، وهل هناك خصوصية لمتعلميك؟

في الأساس، أنا مدرّس لغة برتغالية. وتأهيلي كمدرّس بدأ منذ سن صغيرة جداً. فأمي أيضاً مدرّسة لغة برتغالية، ومنذ الصغر كنت أقع على كتب القواعد والآداب التي تتلقاها أمي من الناشرين. وكانت تصحبني معها إلى العمل كي لا أبقى لوحدي في المنزل في الأيام التي كانت تعلّم فيها بعد الظهر. كنت أقضي أوقاتي بين المكتبة وصالة المدرّسين، وهكذا يمكنني القول أني عشت وسط المدرّسين. حين دخلت لأول مرة إلى صف بصفتي مدرّساً كان عمري 19 عاماً، وكنت في سنتي الجامعية الثانية في كلية الآداب وغير مطلّع إلا فيما ندر على المناهج البيداغوجية. قضيت أربع سنوات في نفس الثانوية أدرّس الأدب البرازيلي والقواعد البرتغالية، وكانت تجربة مهمة وملفتة في حياتي، ويمكن القول أن هذه المدرسة علّمتني أن أكون مدرّساً بشكل عملي.

اليوم أنا واعٍ تماماً لأنني حينئذ لم أكن مُحضَّراً على الإطلاق لهذه المهمة. لم تكن لدي أي فكرة عن تعقيد التعليم. قلّدت أساتذتي، بكل بساطة. حاولت أن أكررالأشياء التي رأيتهم يقومون بها حين كنت طالباً، أكرر الأشياء التي أعجبتني. ولكن مع مرور الزمن، علّمني الاتصال مع تلاميذي الكثير عن مهنة التعليم. ما زلت أحتفظ بالكثير من أساتذتي، ولكن يمكنني القول أني صنعت أسلوبي الخاص كمعلّم طوال الخمس وعشرين عاماً التي درّست فيها.

عملت لزمن طويل مع الصغار حصراً، في المدارس الخاصة والحكومية للسلفادور ولعاصمة المنطقة، في التعليم الابتدائي والثانوي. ولكني بدأت منذ عام 2013 أعمل في التعليم العالي في الحلقة الأولى والدراسات العليا. وحالياً أدرّس الصفوف الاختصاصية (ماستر 1) في مجال العلوم التربوية. في هذا الإطار، أعمل على تأهيل المدرّسين في مختلف المستويات. منذ سنتين رجعت إلى التعليم الأساسي، وأكرّس جلّ يومي لتعليم قواعد اللغة البرتغالية لطلاب ثانوي، وكذلك أشرف على ما يسمى «مشروع حياة» لطلاب مدرسة في شبكة السالازيان التربوية، وهي مؤسسة تربوية كاثوليكية كبيرة في السلفادور. أحاول ألا تغيب عن بالي التربية الأساسية، وأن أبقى على صلة مع الناشئة، فهذا جوهري وأساسي إن أردنا تغييراً مجتمعياً.

ماركوس بيسوا

ماركوس بيسوا

كبرازيلي ومدرّس، كيف ترى عملياً كل هذه النظريات والتجارب التي تحاول إعادة التفكير بالتربية؟ كيف تقيّمها؟

للكلام على النظريات والتجارب التي حاولت إعادة التفكير في التربية والتعليم، من الضروري استعادة سياق التعليم في البرازيل سريعاً من أجل القرّاء. يُقال أن بداية تاريخ التعليم في البرازيل ارتبطت ببعثات اليسوعيين الأولى في القرن السادس عشر. وكان هدف اليسوعيين هو تبشير السكان الأصليين وحثهم على اعتناق المسيحية الكاثوليكية، وللوصول إلى ذلك كان لا بد من مسار تعليمي لمحو الأمية وتعريف السكان الأصليين على بعض عناصر الثقافة الأوروبية الكاثوليكية. في نفس الوقت، كانت هناك مدارس لأطفال المستعمِرين يديرها اليسوعيون كذلك. فيما بعد، ومع وصول البلاط البرتغالي الإمبراطوري، ومن ثم بعد استقلال البرازيل عن البرتغال، أُسّست المدارس وأصبح التعليم الأساسي الابتدائي مجانياً وحقاً للشعب.

ينبغي القول أنه، ومنذ التعليم اليسوعي، لم يكن هناك أي منظور لتعليم نقدي، خلّاق أو تحرري. وكان وصول البرازيليين إلى المدرسة محدوداً جداً. في عام 1900 على سبيل المثال، 35 بالمئة من السكان فقط كانوا يجيدون القراءة.

بعد حربين عالميتين، بدأ العالم مرحلة جديدة في التصنيع، واستثمرت البرازيل في المدارس المهنية والتقنية. مرة أخرى، اتجهت المدرسة نحو الاستجابة لمصالح أخرى غير تكوين المواطن النقدي. ولكن من المهم أن نقول أنه في هذه المرحلة أيضاً ظهر لدينا منظّرون ممتازون ينظرون إلى التعليم والتربية في البرازيل بمنظور آخر، مثل أنيزيو تيشيرا وباولو فريري. فظهرت خلال القرن الماضي أهم النظريات التي تفكر بمدرسة جديدة نقدية وبتعليم واسع يشمل كل السكان. كانت هذه الرؤية مهمة جداً، ليس للبرازيليين فحسب ولكن لكل سياق يتطلع إلى التحرر التربوي. ليس غريباً إذاً أن يكون باولو فريري أحد أهم الكتّاب الذين يتم البحث عنهم في العلوم التربوية. ولكن المدرسة البرازيلية بقيت (وما زالت) قاصرة ودون تطور حقيقي، ويمكن القول أن السياسات الحكومية لم تطوّر شيئاً في مفهوم المدرسة منذئذ .

في النصف الثاني من القرن العشرين، تلقى المجتمع البرازيلي ضربة قوية بسبب قوى الجيش، وبالتالي تأثر التعليم بهذا التراجع، من قبيل الرقابة في المدارس والجامعات وضمور واختفاء مواد مثل الفلسفة وعلم الاجتماع، والهجوم الذي تعرض له الطلاب والمفكرون البرازيليون. كل ذلك طبع المجتمع البرازيلي، حتى أن باولو فريري نفسه طُرد من البرازيل. من وقت ليس ببعيد، كان فعل التفكير بحد ذاته خطراً. بطريقة ما، ما زلنا نحمل هذا الرضّ الجمعي، ولذلك أعتقد أن النظريات الجديدة في التعليم ما زالت مهمة بالنسبة لنا، نحن البرازيليين، بما تحمله لشعبنا من حس نقدي وخلّاق ومحرّر. التقدم في الحوار بين التربية والتعليم من جهة، ومجالات أخرى مثل علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم العصبية، والتطورات التكنولوجية لا يمكن نكرانها، ولكن ينبغي ألا يغيب عن بالنا أبداً أن التعليم، فضلاً عن خدمته لمصالح المجتمع، عليه أن يكوّن الذات الفردية بطريقة شاملة، أي بأوجهها الإداركية والبنوية والعاطفية والعلائقية.

اليوم، مثلاً، أنا من المتحمسين للتقنيات الرقمية في مجال التربية والتعليم. خلال فترة الجائحة التي نمر بها، كان على المدرّسين والمدارس أن يعيدوا اختراع أنفسهم – بما تيسّر – للتصدي لتعليم الناشئة، وكان للتقنيات الرقمية الحديثة دور كبير لجزء من السكان، وللأسف ليس لدى كل سكان البرازيل إمكانية الوصول للحواسب وشبكة الإنترنت. هذا ما أتاح لنا أن ندرك الهوة الشاسعة التي تفصل تعليم الأغنياء عن تعليم الفقراء في بلدنا. أعتقد (في مهنتي لا نتوقف عن الإيمان والاعتقاد بالطوباويات)، أن للتقنيات الرقمية إمكانية كبيرة، ويمكن أن تكون حليفاً حقيقياً في مجال التعليم من منظور تربوي حواري، يبتعد عن سياسات كبرى شاملة، ولكن ذلك يتعلق بنوايا مصممي السياسات والذين يفكرون بهذه السيرورة.

في القرون الماضية، كنّا نعتقد أنه ينبغي على الطبقة العاملة الاستحواذ على وسائل الإنتاج، وكان ينبغي التفكير بالبنية التحتية أولاً ليتم التفكير بالبنية الفوقية فقط فيما بعد. اليوم، ما لا يقبل الشكّ هو أن الأجندات الثقافية والتربوية تشكل حقلاً حقيقياً للفعل السياسي من أجل تحول اجتماعي حقيقي. الجامعات البرازيلية طورت أبحاثاً مهمة في هذا المجال، ولكن من المهم أن ننقل ونعمّم هذه التطورات إلى آلاف المدارس على أراضينا.

ما هي برأيك فائدة التربية والتعليم في زمننا الحاضر؟ 

يبدو هذا السؤال وكأنه يقارب شيئاً واحداً فيما أعتقد أنه شيء معقد متعدد. يمكننا أن نفكر من منظور اتجاهات عالمية، ويمكننا أن نفكر أيضاً من منظور سياسات عامة لبلد ما، أو بشكل أكثر خصوصية، من منظور الفعل التربوي الأصغر، أي العلاقة بين الأستاذ والتلميذ. إن وسّعنا الرؤية لتشمل صورة بانورامية للتربية والتعليم في العالم اليوم، يمكننا أن نرى تعليماً ينحو باتجاه إدامة الوضع القائم. عموماً، لطالما سعت التربية إلى هذا الهدف، أي إدامة الوضع القائم. وكمثال على إدامة الوضع القائم هذه، من السهل أن نرى الفرق الهائل بين التعليم الذي تقدمه دول الشمال والتعليم الذي تقدمه دول الجنوب، وذلك رغم أن التعليم العام الحكومي ذا الجودة العالية أوسع بكثير في بلدان الشمال. ومن السهل كذلك أن نستنتج أن الناشئة في بلدان العالم الأول، في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، يتلقون بشكل منتظم التعليم والتربية التي تتيح لهم أن يبقوا ويحافظوا على مناصب ومواقع مهيمنة في المجتمع، والناشئة في بلدان النصف الجنوبي يُهيَّأون ليبقوا في مواقع هشة ومُهيمَن عليها نسبة للأوائل. في البرازيل نجد سياسة تربوية حكومية تعزز التمايزات في المواقع الاجتماعية. من الواضح جداً أن هناك بعض المدارس المقدر لها أن تبني وتؤهل القادة، بينما عموم المدارس العامّة تؤهل الأيدي العاملة.

من حسن الحظ أن التربية تتم باللقاء، وهذا اللقاء بين الأفراد غالباً ما يخبىء المفاجآت. لا أحب أن أختزل التربية والتعليم إلى سياسات الدول والأمم. أحبّ أن أفكر على مستوى ملموس وصغير وقريب من المعاش. أحبّ أن أزوّم العدسة لتتيح لي أن أرى الوحدة العلائقية التي تعطي للتربية أساسها ومعناها، أي العلاقة بين شخصين، غالباً بين بالغ وطفل. الفعل التربوي بحد ذاته يتجاوز غالباً التوصيات ومصالح السياسات العامّة والاتجاهات الكبرى الشاملة في مجال التعليم، لأن هذا الفعل لا يمكن أن يُسيطر عليه بشكل كلّي بفعل نيّة ومقصد المعلم أو المدرسة أو المجالس التعليمية والتربوية في المدارس. لأن هناك عنصراً في هذه اللعبة يقلب كل شيء، ألا وهو المحبة.

كيف ترى التعليم انطلاقاً من سياق مرتبط بحاجات ومعطيات خاصة ومحددة؟

من الأشياء الأساسية التي تعلمتها من باولو فريري هي أن كل تعليم وتربية ينطلقان من سياق محدد. انطلاقاً من حاجات محددة لكل مجموعة بشرية ولكل فرد، على العملية التعليمية أن تقترح وتتدخل. ولهذا لا يمكن أن نفكر بالتعليم إلا كفعل سياسي. أعتقد أن هذا أكبر إرث يمكن أن نتعلمه من تاريخ التعليم في البرازيل. على المربّي ألا يغفل عن هذه النقطة ولا لحظة. لقد اشتغل باولو فريري محلياً، ولكن فكره كان كونياً، أو على الأقل سديداً في تلك المجتمعات التي فيها قاهر ومقهور. يتحدث كثيرون عن منهج باولو فريري، ولكنه في الواقع تحدث عن مبادئ. مثلاً: إحدى المبادئ الأكثر حضوراً في كتبه هي أن نعتبر المعارف التي يحملها الطالب في نفسه إلى قاعة الصف عنصراً أساسياً في التفكير في العملية التربوية. وبذلك فهو يقترح تجاوز التعليم التلقيني الناقل باتجاه واحد، نحو تعليم نقدي واستبصاري. يكرّس المعلم وقتاً مع مجموعة التلاميذ للتفكير بالمشاكل الاجتماعية التي يعيشها الطلاب وبطريقة حلها. في هذه اللحظات، يدرك التلاميذ أن فعل التفكير بحدّ ذاته يجعل التحول الاجتماعي ممكناً. هل تفهمين أهمية التربية في فكر باولو فريري الآن؟ أعتقد مثلاً أن مبادئ فريري يمكنها أن تساهم بشكل ذي معنى في التربية والتعليم ضمن مجتمع في حالة حرب أو حالات قصوى حديّة. طبعاً هو لم يكتب بشكل مباشر عن هكذا سياق على حد علمي، لكن ما يقوله عن التعليم التحرري يمكن أن يشكّل منظوراً مهماً لكل السياقات الديستوبية. هو يعرف أنه من الضروري تغيير الناس، وأن التعليم والتربية ضروريان لذلك كي يتم التحول الاجتماعي. أترين؟ لا يتعلق الموضوع بتجاوز اللحظة الحاضرة الصعبة بكل بساطة، بل العكس تماماً، يتعلق الموضوع بفهم اللحظة التاريخية بطريقة نقدية لاستخلاص الدروس وفهم المشاكل ومن ثم تجاوزها.

في سياق صراعات وحروب مسلحة، كما في بعض بلدان الشرق الأوسط حيث الموت حاضر طوال الوقت، من الصعب جداً أن تعتبر التربية أولوية. مع ذلك، لا أعتقد بإمكانية حصول أي تغيير اجتماعي دون تعليم وتربية. انتبهي. أنا هنا لا أتحدث عن تربية ومدرسة ما بعد النزاع، بل أتحدث عن مدرسة وعن تعليم يُسهم بشكل ذي معنى في تجاوز ظرف النزاع والقهر. ينبغي أن تُفهم التربية قبل كل شيء كفعل مقاومة، مقاومة الحياة في مواجهة الموت. ففريري على سبيل المثال لا يقترح تربية لزمن لاحق، ولكن تربية يفكر يها كتغيير للحظة راهنة.

إن طرحه حول «قراءة العالم» هو المثال عما أقوله. لقد انشغل هذا المربي لسنوات بمسألة محو أمّية البالغين، لكنه فهم أن محو الأمية لا ينبغي أن يقوم على فك الكلمات وحسب، بل من الضروري تحسين قراءة العالم. يجمع الكلام التجربة ويركّزها في آنٍ معاً، تجربة المُعاش، والذات والآخرين والعالم، وهذا ما يعزز الحوار.

في البدء، على المعلم أن يستمع جيداً إلى الرسائل التي تصله من تلاميذه، ولكني حين أتحدث عن استماع وإصغاء متيقظ، لا أعني فقط الأذنين، بل العينين كذلك وكل الحواس، عليه أن ينتبه ويتيقظ لكل التفاصيل التي يُظهرها التلميذ من نفسه، وعليه أن ينتبه لسمات وخصال مجموعة التلاميذ كي يقدّم تعليماً يغيّر.

بالإصغاء الجيّد للرسائل التي يرسلها المتعلمون التلاميذ، يمكن للمعلم أن يتجنب تكرار وإعادة مضامين لا تأخذ الظرف الخاص في كل فعل تربوي بعين الاعتبار. أعتقد أن المنظور الحِرَفي اليدوي (artisanal) لكل معلم هو منظور أهم، وهو المنظور الذي يركّز على العلاقة بين المعلم والتلاميذ من مجموعة سكان في منطقة معينة. وهنا لا أفكر بالضرورة بسياسات حكومية. التغيير يحدث هنا في البنية الفوقية، بين أفراد. تلاميذ وطلاب لهم سماتهم وحاجاتهم المختلفة عن حاجات وسمات مجموعات أخرى من أماكن أخرى. بهذا يعمل المعلم كحِرَفي، يحمل معارفه وأبحاثه وتقنياته وتجاربه السابقة، ولكنه يستعمل هذا المخزون لينتج شيئاً فريداً في كل تجربة يقوم بها.

ما هي فكرة «مشروع حياة» التي تعمل عليها مع تلاميذك؟

«مشروع حياة» (Projeto de Vida) هو جزء من منهاج في اقتراح جديد تم حديثاً ضمن الثانويات. عام 2017 إن لم تخني الذاكرة، نشرت الحكومة الفيدرالية وثيقة تشكل قاعدة مشتركة للبرامج المدرسية لكل مدارس الأراضي البرازيلية. كما تعرفين تمتد البرازيل في أبعاد قاريّة، ولطالما كان تحدياً للحكومات البرازيلية أن تؤمّن برنامج دراسة موحداً لكل مدارس أراضينا الشاسعة. وهذه الوثيقة تقترح قاعدة موحدة للمناهج وإصلاحاً للتعليم الثانوي على كامل الأراضي، في المنشآت الحكومية والخاصة. الإصلاح المنشود يرى، ضمن أشياء أخرى، زيادة في عدد الساعات التي يقضيها الطالب في المدرسة. في الصيغة الحالية، يقضي الطلاب البرازيليون ما يعادل 800 ساعة في الصف خلال السنة. ما يُرتأى حالياً هو زيادة هذا العدد إلى 1000 ساعة. وستُضم بعض المواد إلى البرنامج ومن بينها مادة «مشروع حياة». والمدرسة التي أدرّس فيها ابتدأت هذا البرنامج في بداية العام الدراسي. في «مشروع حياة» نعمل على زيادة وعي كل تلميذ لذاته، من خلال النشاطات التي نقترحها والتي تحفّز تفكير التلميذ حول أصوله وقيمه وإمكانياته الكامنة. نتطرق كذلك لمخططات المستقبل، والمهن، والمشاريع الاجتماعية والحياة ضمن الجماعة الاجتماعية من بين أشياء أخرى.

بالنسبة لي، يكتسب هذا المشروع أهمية خاصة وجوهرية، لأنه يسمح للتلميذ بأن يلتفت إلى ذاته ويستبصر في نفسه، في مشاعره، ليتقدم نحو تحديات الحياة وخياراته فيها. هذا مُلحّ في مجتمعنا الحالي، حيث نجد أناساً مؤهلين تماماً على المستوى المعرفي ولكنهم غير قادرين على إدارة مشاعرهم. «مشروع حياة» يهدف إلى تربية أكثر شمولاً، يُعتبر التلميذ فيها كلّاً وليس دماغاً وحسب. ونعزز كذلك الجوانب الاجتماعية والذاتية والروحية للتلاميذ. أعتقد أن تأهيلي في التحليل النفسي وفي التربية يساهم بشكل ملحوظ في هذا الاستماع المتيقظ للفتيان والفتيات الذين أعمل معهم في إطار مشروع الحياة هذا. في لقاءاتنا، نعيش مواقف غنية في مجال معرفة الذات. كل حصّة دراسية هي لقاء متجدد. لقاء مع الآخر ومع أنفسنا كذلك. وبصفتي مدرساً فإن عليّ أن أنتبه لكل ما يحصل ويُفرَز خلال الصف. تلك التفاصيل الصغيرة التي تحصل كفعل، هنا في غرفة الصف، هي تفاصيل سحرية بكل معنى الكلمة. في اجتماعنا الأخير، على سبيل المثال، أمكنني أن أشهد واحدة من تلك اللحظات خلال حصّة تناولنا فيها الجذور العائلية وكيف يمكنها أن تشكل الأسس التي تسند وتحمي كل واحد فينا. في إطار المشروع المدرسي علينا أن ننتج بودكاست نهائي مع مضامين ينتجها التلاميذ أنفسهم ومثيرة للاهتمام فعلاً.. المهم: هناك تلميذة عمرها 16 سنة، وكانت من أكثر المنخرطين في المشروع منذ البداية، وأثناء هذا الاجتماع حول العائلة، تكلمتْ عن إعجابها بجدها الذي كان كاتب سيناريو ومذيعاً في الراديو. أثناء حديثها عن جدها، توقفت قليلاً وانتبهت أنها في تلك اللحظة كانت تعمل مثل جدها تماماً، في الراديو. قلت في نفسي : «بنغو! ها هي». لقد أظهرتْ هذه التلميذة أنها خلقتْ في تلك اللحظة، عبر قصة حياتها، صلة مع جذورها، وأضفتْ معنىً على ما تقوم به مع زملائها في الصف. عليّ أن أقول أن هكذا لحظات أعيشها مع تلاميذي، وكذلك مشروع الحياة، هي التي تدفعني لأقوم بهذا العمل مع تلاميذي.

كيف ترى طبيعة العلاقة بين المدرّسين والمتعلمين؟ هل ينبغي أن تكون علاقات أفقية؟ أم أن العلاقة التربوية، وخاصة في الحالات القصوى، أي التعليم عند الدرجة صفر، تستلزم التلقين المباشر والصارم؟ كل شيء يكمن في الـ«كيف» كما تعرف.

أعتقد أن العلاقة بين التلاميذ والمعلمين ينبغي أن تكون قوية ولصيقة حيث تسود المحبة والاحترام المتبادل، وكذلك الثقة. لكن لا ينبغي على الإطلاق أن تكون أفقية. العلاقة بين المدرّس والتلميذ يجب أن تبقى علاقة تراتبية (تماماً كما العلاقة بين الأهل والأطفال). من المهم أن يجد الأطفال في معلمهم شخصاً مختلفاً عن الآخرين، وأن يحمل في نفسه شيئاً لا يحمله التلاميذ. لا يمكن أن يكون هناك علاقة تربوية حقيقة إلا بهذه الطريقة. كيف يمكن استثارة اهتمام التلاميذ في الصف إن لم يكن يُنظَر إلى المعلم كشخص يحوز على معرفة مهمة بالنسبة لهم. غالباً ما أقول للمدرّسين أن الأستاذ ليس صديق التلميذ. في البداية، كانوا يجدون أقوالي غريبة لأنها تناقض الاتجاهات الحالية في تدريب الأساتذة، ولكنهم في النهاية يفهمون أنه على الأستاذ أن يأخذ تموضعه في الاقتصاد النفسي للتعليم في مكان مختلف عن الزملاء والأصدقاء، وهذا أساسي. لا أقصد أن يصطنع المعلم مسافة كبيرة بينه وبين تلميذه، بل على العكس، عليه أن يكون أقرب ما يمكن من تلميذه، دون أن يمحو هذا القرب موقع الأستاذ. شخصياً أعتبر نفسي قريباً جداً من طلابي، ويتحدثون معي بانفتاح واسترخاء في دروسي. الجو مناسب دائماً للحوار وللصدق ولكني لم أعد طالباً وعليهم أن يروني بهذه الطريقة، كشخص مختلف ولديهم ما يكتشفونه ويكتسبونه من خلالي. دون ذلك لا يمكننا التحدث عن تعليم.