يحضر الكلام عن التهريب عند الكلام على الهروب من البلاد. لم أقم بأي جهد خلال هذا النص محاولاً استقصاء طرق التهريب، بل حاولت نبش الذاكرة علني أرسم خطاً لمفهوم التهريب في ذاكرتي، والتي أعتقد أنها تشترك مع الذاكرة الجمعية لجيل الثمانينات الذي أنتمي إليه.

خلال طفولتي، كان التهريب يعني بالنسبة لي البسكويت والشوكولا التي كانت تصل تهريباً إلى الأزقة التي نعيش فيها في محيط دمشق. أمام نافذة بيتنا الكاشفة لتحركات الجيران في الحارة، كنا أنا وأخواتي نقف متسمرين أمام النافذة عند عودة جارنا العسكري، نوّاف، من قطعته المتمركزة في لبنان، بداية التسعينات، وذلك لرؤية البضائع المهربة التي كان ينقلها من لبنان إلى سوريا بسيارته العسكرية المفيَّمة.

فخلال اجتماع القهوة الصباحية تبدأ زوجة نوّاف بترويج تلك البضائع وإقناع النسوة بها، ليحظَين بمكنسة كهربائية أو تلفاز صغير، يتم عرضه في صدر البيت، بنوع من التباهي باقتناء تلك البضائع التي تتفوق على المنتجات المحلية بالجودة العالية والسعر الأعلى.

كان بسكويت غندور، إضافة إلى الموز، أكثر ما يلفت انتباهنا كأطفال، فكانت تكافئنا به والدتي فقط عندما ترغب، قبل أن ترفعه إلى رفّ تعجز عن الوصول إليه أيادينا الصغيرة.

المهرَّبات التي تتنوع بين الأواني الزجاجية، والأدوات الكهربائية والهواتف، وصولاً إلى علب الجبنة والبسكويت، كان محصوراً تداولها ضمن دوائر سرية، رغم وصولها للعاصمة بالسيارات العسكرية، مع ملاحقة التجار الذين يقومون بعرضها من قبل دوريات الجمارك. كانت هذه الدوريات تضيّق الخناق على تجار المفرق عند بيعهم تلك المواد المهرَّبة، وتزجّهم في السجن بتهم الإتجار بتلك المهربات، ليتعايش السوريون مع التهريب بعلاقة غير معلنة، تبقى فيها البضائع متخفية داخل الدروج – دون عرضها على الواجهة – بانتظار أن تتلاقى بالزبون الدسم.

كانت المهربات تُعرَض على البسطات، أو عن طريق باعة متجولين يَهرُبون من أعين الجمارك، كان جزء من المهرَّبات الألبسة الأوربية المستعملة، التي كانت تتسلل من لبنان مجتازةً الطرق الوعرة دون ترخيص، لتُفرَد على عربات في محيط باب الجابية والإطفائية وسط دمشق. كانت الملابس المستعملة تباع بأسعار أرخص من التي تعرضها محلات بيع الملابس الأوروبية المستعملة والمعروفة باسم محلات البالة.

تتوارى تلك العربات في أزقة دمشق الضيقة خوفاً من دوريات الجمارك، والتي تضع التاجر إما أمام دفع إتاوات للمصالحة عليها، أو مصادرة العربة مع البضاعة، في حال لم يستطع الهرب وإخفاء بضاعته عن تلك الحملات.

كانت القبضة الأمنية لملاحقة المهربات تتراخى كلما اتجهنا خارج العاصمة دمشق، وخصوصاً باتجاه القرى الحدودية التي اقترن اسم عدد منها بالتهريب. فقد اقترن بالتهريب اسم مضايا وسرغايا، القريتين الحدوديتين الواقعتين في جبال القلمون. أمي التي كانت تعمل في ثمانينات القرن الماضي في «مدرسة سرغايا للبنات» لا زالت تحتفظ بعدد من البضائع المهرَّبة التي اشترتها من تلك القرية أثناء عملها، حيث كانت المدرِّسات يتنقلن من بيت إلى آخر بهدف شراء قطع ثياب أو أوانٍ زجاجية، أو راديو صغير في أحسن الأحوال، ليتم إخفاء كل ذلك في حقائبهن أثناء عودتهن إلى دمشق خوفاً من نقاط تفتيش الهجانة (حرس الحدود) عند الزبداني، والتي كانت تنشر حواجزها هناك منعاً من دخول المهربات إلى البلاد.

كان التهريب لأفراد الطبقة الوسطى يعني فتحة عيش للوصول إلى نمط استهلاكي كانوا محرومين منه، بفعل السلطة المركزية على الاقتصاد والعقوبات التي فُرضت على النظام بعد مجازر حماة.

علنية المهربات

بقيت المهرَّبات حتى عام 2000 تتواجد بشكل متوارٍ في دمشق، مع حالات ملاحقة كانت في كثير من الأماكن صورية.

في عام 2000 ومع تسلم الأسد الابن للسلطة، بدأ يظهر أول سوق علني للمهربات يعرض فيه تجار صغار على بسطاتهم عدداً من الأدوات الكهربائية وألعاب الفيديو وماكينات الحلاقة، إضافة إلى بعض أدوات التجميل. كانت هذه البسطات تفرش بضائعها في منطقة البرامكة من الساعة الثالثة عصراً، بعد انتهاء الدوام الرسمي لموظفي الحكومة، وحتى العاشرة مساءً، وكانت دوريات الجمارك تغض الطرف عنها.

كان للبوصلة السياسية للنظام تأثير على سوق المهرَّبات، فبعد التقارب التركي-السوري في العام نفسه، والإعلان عن جعل الحدود نقطة توافق بين البلدين لا نقطة خلاف، غرق السوق السوري بالبضائع التركية، الداخلة بالطرق الشرعية أو عن طريق التهريب. سوق المهرَّبات التركية كان يبدأ عند الحادية عشرة ليلاً، بعد أن يغلق سوق باب توما أبواب متاجره عملاً بالتوقيت الليلي للمدينة، ليبدأ السوق الثاني بالعمل. الفانات والسيارات الرباعية تُفرغ حمولتها من البضائع التركية، والتي كان جلّها ملابس وأحذية حديثة بأسعار منافسة لأسعار المنتجات المرخَّصة.

صارت المهرَّبات أكثر وضوحاً في حياتنا، وانسحب ذلك على المواد الغذائية وأنواع السگائر، وأصبحت المهربات أكثر ظهوراً في المحلات، حيث صارت توضع على الرفوف دون توريتها أو إخفائها عن أعين التفتيش.

بيوت التهريب

ولدت في منزل بناه أبي في سبعينات القرن الماضي على أرض زراعية في محيط العاصمة، وذلك بعدما ما اقتلعت منها أشجارها وزرعت بالأسمنت. بعدما كبرنا أنا وأخواتي وضاق بنا المنزل، قرر والدي أن يبني غرفة لنا على السطح. لم يكن لدينا أي خيار سوى «التهريب» لزيادة مساحة المنزل، فالقوانين لا تسمح بالبناء في هذه «الأراضي الزراعية»، والتي لم يبق فيها من الزراعة سوى اسمها في السجلات الرسمية.

قام والدي برفع الجدران لمسافة تعلو عن ارتفاع السقف، وفي اليوم الثاني من عيد الفطر، وهو يوم عطلة رسمية، وضع سقفاً للغرفة الجديدة، ثم وضعنا السجاد على الجدران في الخارج كي تخفي السقف الذي ولد ليلاً بأقل قدر من الضجيج. بقي السجاد ثلاثة أيام منشوراً على الجدران الخارجية، فقد خشينا من دوريات المحافظة التي كانت تهدّ المخالفات كما يخشى المطلوبون أعين المخابرات والأمن. لم يكن هدّ وتكسير المخالفات فقط تحطيماً للحجر بل تحطيماً للحلم أيضاً، إذا قد يستغرق الفقراء أعواماً كي يستطيعوا تجميع ثمن بناء تلك الغرفة، ليتمتعوا في النهاية بمساحة عيش أقل ضيقاً سرقوها بالتهريب متوارين عن أعين البلدية ومخبريها. لا أنسى الخوف الذي لازمنا من اكتشاف أمر الغرفة الجديدة، والتي انضمت إلى أخواتها من غرف المنزل بعد ثلاثين عاماً من الانتظار. الناظر إلى دمشق من جبل قاسيون يرى طغيان التهريب والمخالفات في البناء على مظهر المدينة البعيد، ولا سيما لدى مقارنة المدينة اليوم بصورها من خمسينات القرن الماضي.

لقد تسلّقت أبنية التهريب وقضمت جبل قاسيون، وطوّقت محيط العاصمة من الناحية الجنوبية بعشوائيات تمتد من حي القدم والتضامن وحتى حي الكباس في شرق جنوب العاصمة. لكل بيت حكاية كان التهريب بطلاً من أبطالها بشكل وبآخر.

الثورة والتهريب

كان عدد من سكان العشوائيات المحيطة في العاصمة – مثل أحياء المزة-بساتين والتضامن – قد ولدوا في بيوت مبنية عن طريق التهريب. وقد تحول هؤلاء بعد الثورة إلى سلعة للتهريب بعد بدء عمليات ممنهجة لتدمير أحيائهم الثائرة. فقد خرج العديد من المطلوبين أمنياً يشقون الجبال، مهرِّبين أرواحهم في أجسادهم عبر طرق وعرة للخروج من المقتلة. وتفيد منظمة اللاجئون الإقليميون أن أكثر من 7 ملايين لاجئ سوري عاش مرحلة انتقال إجباري نحو مناطق جديدة داخل البلاد، فيما لا يزال 5 مليون آخرون عالقين في دول الجوار.

خلال رحلة تهريب السوريين لأرواحهم خارج الحدود، كانت أبدانهم تنتقل من مهرّب لآخر بغية النجاة. منهم من واجه الموت قبل أن ينجح بالوصول إلى المنطقة التي يرومها، فبحسب مركز توثيق الانتهاكات شمال سوريا، بلغ عدد من قتُلوا على الحدود التركية خلال رحلة التهريب الخاصة بهم 487 شخص، جميعهم فشلوا في الهرب من المقتلة السورية، وبعضهم لم يحالفهم الحظ حتى في خط تهريب يحفظ له حياته.

أحد من خذلهم طريق التهريب فعادوا إلى دمشق نادية، 42 عاماً، والتي تسكن في إحدى عشوائيات العاصمة. بعدما باعت بيتها المبني بالتهريب بعيداً عن أعين السلطات، عادت نادية إلى حارتها نفسها. تتكلم نادية وهي تستعرض صور بيتها القديم على هاتفها.

في 2017، قررت نادية وزوجها بيع البيت والخروج في أول رحلة إلى الشمال السوري، بدايةً إلى مدينة سلمية كما اتفقا مع أحد المهربين، ومن ثم إلى جرابلس في ريف حلب مع مهرب. تنقل الزوجان بين عدد من المهربين، قبل أن يدخلوا الأراضي التركية. تستعرض نادية في جوالها ما يزيد عن عشرين رقماً لمهربين تنقلت هي وزوجها بينهم. وبعدما نجح زوجها في الوصول إلى أوروبا، بقيت نادية في اليونان، لتقرر العودة إلى سوريا عبر شبكة من المهربين أيضاً، ومن ثم إلى حارتها التي خسرت فيها منزلاً.

ومن الطرق التي اختارها السوريون هرباً من القتل لبنان، والذي أعلن فيه المجلس الأعلى للدفاع وجود 124 معبر غير شرعي بين البلدين.

قبل فترة انتشر إعلان على تويتر لطريق تهريب عبر سيارات أمنية تمر على الحواجز دون أي تفتيش. تتشابه عمليات التهريب في تسعينات القرن الماضي مع عمليات التهريب التي غادر عبرها الناشطون خوفاً من القتل والتعذيب، مع اختلافين أساسيَّين: أن عملية التهريب ليست إلى الداخل هذه المرة بل إلى الخارج، وأن المهربات ليست بضائع بل أرواح السوريين الباحثة عن مخرج من المقتلة.

التهريب وكورونا

بقيت عمليات التهريب تأخذ اتجاهاً واحداً من سوريا إلى لبنان في أغلب الأحيان، حتى شلّ «الجنرال كورونا» حركة الكرة الأرضية، وبدأت الأزمة الاقتصادية التي تضرب لبنان تضغط على السوريين فيه، مع إقفال الحدود ومنع حركة التجول.

في زمن الحجر الكوروني، ومع إقفال الحدود بين البلدين، اضطُر العديد من السوريين في لبنان إلى العودة إلى سوريا بسبب عدم قدرتهم على مواصلة العيش في لبنان.

أحد الذين التقتهم الجمهورية.نت في دمشق كان صهيب، الذي يعمل في لبنان منذ عام 2012 واتخذه ملاذاً آمناً من الحرب. لكن مع تردي الأوضاع الاقتصادية في لبنان بداية 2020، ومن ثم إقفال الحدود بين سوريا ولبنان، لم يعد أمام صهيب إلا العودة عن طريق التهريب من البلد الذي هرب إليه عام 2012. لم يكن صهيب يستطيع اجتياز الحدود إلا ضمن قوافل حزب الله، التي لم تمنعها ظروف الحجْر من التنقل بين لبنان وسوريا. جمع صهيب أغراضه وانتظر سيارة تابعة للحزب تستطيع أن تشق الشوارع الفارغة دون أن يوقفها أحد. تنقل صهيب عبر أربع سيارات، حتى وصل إلى حمص ومن ثم إلى دمشق مقابل 800 دولار.

مرت سيارة تهريب البشر من أمام الحواجز دون أن يوقفها أحد أو يفتشها، وعاد صهيب بطريق معاكس لطريق التهريب المعتاد.

التهريب في الدراما

لم يقتصر تعايش السوريين مع التهريب على تعاملاتهم اليومية أو مشاهداتهم للمهرَّبات على رفوف وبسطات الباعة تنافس المنتجات المحلية، بل تسرب التهريب إلى موروثهم الغنائي. ففي منطقة القلمون المحاذية لسلسلة جبال لبنان، يزدهر نمط «اللالا» الغنائي الذي يتكلم عن سيارات وحمولات التهريب من لبنان إلى سوريا.

ولم ينحصر التهريب بالأغاني الشعبية، بل ترسخ حضوره في عدد من الأعمال الدرامية، مثل مسلسل الطير (1998) الذي يتناول بيئة المهربين، والعلاقات الهرمية والصراعات التي تدور بينهم. «الطير» هو بطل المسلسل الخفي وقائد شبكة المهرّبين، وقد لعب دوره الراحل عبد الرحمن آل رشي، مجسداً شخصية الزعيم والقائد الأمني النادر الظهور، والذي يتكلم كلاماً حازماً يخشاه الجميع ويجعلهم يطلبون رضاه.

وقد جاء تقديم شخصية زعيم التهريب كشخصية خيرة، تسعى لمساعدة الآخرين والدفاع عنهم، ليعكس حضور مفهوم التهريب والقصص التي تروى عن أبطاله، والتي تختلط فيها المبالغات مع الواقع، وليعكس أيضاً عمق أثر التهريب في الوعي السوري. فالفترة الزمنية التي عُرض فيها المسلسل تزامنت مع غضّ دوريات الجمارك نظرها عن شبكات التهريب، وهو ما زاد الظهور العلني للمهرَّبات وزاد مبيعاتها في العاصمة دمشق.

كان التهريب حاضراً أيضاً في مسلسل ضيعة ضايعة، والذي أُنتِج قبل الثورة السورية بعام. صوَّر المسلسل التهريب كعنصر أساسي من عناصر الحياة في القرية الواقعة في جبال اللاذقية، وقد لعب الممثل محمد حداقي شخصية المهرِّب الذي يمارس التشبيح على جميع أهالي القرية، كما تربطه علاقات قوية مع رجال الأمن والمخابرات. تناول المسلسل أيضاً قضايا تتعلق بتهريب البشر، حيث قرر رجال القرية في إحدى الحلقات اجتياز البحر للوصول إلى حياة كريمة، وكان بين هؤلاء مُخبِر قرر هو أيضاً الخروج والهرب من الواقع المعيشي السيء. أما نهاية الحياة في القرية فتأتي على يد شخص يهرِّب مواد كيماوية إلى القرية، ليموت الجميع في آخر المسلسل.

يدلّ هذا الحضور الكثيف للتهريب في الدراما السورية، ولعلاقات المهرِّبين وأصحاب النفوذ، على تعايش متأصّل بين السوريين والتهريب، وعلى التقاء مصالح متبين بين المهرِّبين ورجال السلطة.

التهريب والترهيب

منتصف شهر آذار (مارس) الماضي، بدأ مجلس الشعب السوري مناقشة قانون لمنع تهريب الأشخاص والإتجار بالبشر. طالبت مناقشات المجلس بإنزال العقوبات على كل من يتورط بجرم تهريب الأشخاص، فيما أغفلت السبب الرئيس الذي يدفع الناس للهرب من البلاد.

تتطابق كلمتا التهريب والترهيب بالأحرف مع اختلاف بسيط بالترتيب. لعل لهذا التقارب اللفظي بين الكلمتين معنى دلالياً هاماً، فلجوء السوريين للتهريب كان في معظم الأحيان هروباً من أزمة اقتصادية، أو بحثاً عن مساحة آمنة يلوذون بها، أو نجاةً بالنفس من آلة قتل تلاحقهم بسبب اختلافهم بالرأي مع المنظومة الحاكمة في البلاد.

توحي كلمة التهريب بفعل حركة، على اعتبارها آتية من فعل الهرب، أي الفرار. ولكن مع استعصاء الحل السياسي في سوريا، وازدياد صعوبة خروج السوريين من وطنهم، وبقاء آلاف المطلوبين للأجهزة الأمنية وللخدمة العسكرية الإلزامية عالقين فيه لا يستطيعون الخروج منه، يعيشون متخفّين متوارين عن أعين النظام. يعيش هؤلاء التهريب كحالة سكون، فيُبقون أجسادهم بين جدران بيوتهم، ويتخفَّون في الأزقة الضيقة هرباً من شبح الموت المتجسد في حواجز النظام ودورياته الطيّارة.