يتداول ناشطون وسكان محليون من سوريا والعراق صوراً كثيرة تُظهِر انخفاض مناسيب مياه نهر الفرات بشكل واضح في كلا البلدين، نتيجة حبس مياهه من المنبع في تركيا. وقد صرّح موظفون في الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا، التي تسيطر على مساحات واسعة يمرّ فيها نهر الفرات في سوريا، أنّ كميات المياه المتدفقة عند الحدود السورية-التركية لا تتجاوز 200 متر مكعب في الثانية، بمعدل انخفاض يبلغ 60 بالمئة من كمية التدفّق المتفق عليها في البروتوكول الموقَّع بين سوريا وتركيا عام 1987، والذي يقضي بتدفق مقداره 500 متر مكعب من المياه في الثانية على الحدود المشتركة بين البلدين.
وتسبب هذا الانخفاض بأضرار جسيمة على المزارعين في سوريا، وتالياً على الأمن الغذائي المتدهور أصلاً لسكان البلاد، فالمناطق الزراعية المعتمدة على نهر الفرات في شرق سوريا هي سلّة البلاد من المحاصيل الاستراتيجية، وعلى رأسها القمح. كما أدى الانخفاض إلى زيادة نسب الملوحة والتلوث في مياه النهر، وحرمان مدن وقرى كثيرة من الساعات القليلة التي توفرها السدود من التيار الكهربائي، وذلك بعد انخفاض مستويات التخزين الاسمية في بُحيرتي سدَّي الفرات وتشرين، ووصولها – تقريباً – إلى ما يُعرف بـ«المنسوب الميت»، الذي يعني إيقاف عمل السدّين بشكل كامل، بغية الحفاظ على مياه الشرب بشكل أساسي، وتخصيص بعض الكميات لري الأراضي.
كما دفع الانخفاض في مناسيب المياه القائمين على السدود في سوريا إلى تخفيض حصة العراق من مياه الفرات، ما جعل مشاهد النهر وتوظيفاته في العراق لا تقل سوءاً. وتزامناً مع اليوم العالمي للبيئة، قال الرئيس العراقي برهم صالح، في مقال نشرته صحيفة الشرق الأوسط، إنّ السدود على نهري دجلة والفرات في دولة المنبع قد أدت «إلى نقص متزايد في المياه الإروائية، ما يهدّد إنتاجنا الزراعي، بل حتى تزويد المدن والقرى بمياه الشرب». ونقل صالح عن وزير الموارد المائية العراقي أنّ البلاد «قد تواجه عجزاً يصل إلى 10.8 مليار متر مكعب من المياه سنوياً بحلول عام 2035».
من المعلوم أنّ مياه الفرات تتغذى من هطول الأمطار وذوبان الثلوج خلال فترة الربيع، وترتفع كميات المياه من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) حتى نيسان (أبريل)، ثم تنخفض اعتباراً من شهر أيار (مايو) ولغاية تشرين الأول (أكتوبر). غير أنّ انخفاض معدلات النهر حالياً ليس طبيعياً، ولا نتيجة التفاوت الموسمي وتبخُّر المياه بسبب ارتفاع درجات الحرارة، ولكنه دليل على أنّ كميات المياه كانت تتناقص طوال الشهور الماضية، إذ بدأ رصد انخفاض معدلات المياه في سوريا منذ كانون الثاني (يناير) 2021.
ستستعرض السطور التالية، وبشيء من التفصيل، أهمية نهر الفرات بالنسبة للسوريين، وتاريخ المفاوضات والتوترات السورية-التركية المتصلة بكميات المياه المتدفقة في نهر الفرات على الحدود بين البلدين. وعلى الرغم من أهمية الموقع العراقي في المعادلة، والتعريج مراراً في هذا النص على الموقف العراقي، إلا أننا سنركز على الجانبين السوري والتركي بشكل أوسع، وذلك لأنّ سوريا هي أولى دول المصب، وكانت على الدوام رأس الحربة الأكثر نشاطاً في مواجهة السياسات المائية التركية.
الفرات وأمن سوريا المائي المهدَّد
ينبع نهر الفرات من جنوب شرق تركيا، ويبلغ طوله 2,781 كيلومتر، بمساحة حوض تبلغ 444 ألف كيلومتر مربع، يقع 28 بالمئة منها في تركيا، و17,1 بالمئة في سوريا، و39,9 بالمئة في العراق. وتشكّل مياه هذا النهر نسبة 80-85 بالمئة من الموارد المائية لسوريا، ليكون بذلك عصب البلاد المائي، وأهم مزوِّد بمياه الشرب والري، لا سيما أنّ المساحات الأكبر من سوريا قليلة الهطولات المطرية، وفقيرة بالمياه الجوفية الصالحة للشرب. كما أنّ عوائد الزراعة كانت تشكل، في الحدود الدنيا، ما يزيد على 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهي تُعتبر المستهلك الأساسي للمياه، بنسبة 87 بالمئة من إجمالي استهلاك البلد وفق أرقام العام 2012. وتتركز الأراضي المروية بشكل أساسي في حوض الفرات.
لا شكّ أنّ الأمن المائي لسوريا هو أحد الهواجس التي ينبغي الالتفات إليها بشدة، حالياً ومستقبلاً، وعلى المستويين الشعبي والرسمي، إذ قُدّر متوسط موارد المياه المتجددة السنوية في البلاد بحوالي 16 مليار متر مكعب بين عامي 1992 و2012. في حين بلغ العجز الوطني في الفترة ذاتها نحو 1.25 مليار متر مكعب. ومن المتوقع أن يكون لتغيُّر المناخ شديدُ الأثر على موارد المياه في سوريا، مما سيقلل من إجمالي المياه المتاحة سنوياً بنسبة 32 بالمئة في عام 2050، في حين سيزداد الطلب على المياه بنسبة 15 بالمئة، بفعل النمو السكاني ومتطلبات التنمية الاقتصادية،لا تأخذ هذه النسب في الحسبان موجات اللجوء الواسعة ولا الضرر الكبير الذي لحق بالبنى التحتية المائية في البلاد أو الاستخدام الجائر للموارد المائية غير المتجددة وتلوثها بفعل العمليات القتالية وعدم وجود سلطات رقابية. مما سيؤدّي إلى زيادة إجمالي العجز في المياه إلى أكثر من 6 مليار متر مكعب سنوياً، وذلك في حال لم تتخذ السلطات السورية إجراءات ناجعة لتجنُّب هذا السيناريو. ولا يشمل هذا السيناريو، بطبيعة الحال، الكلفة الهائلة الناتجة عن تضرُّر البنى التحتية وموارد المياه غير المتجددة التي فُقدت أو تضرّرت خلال سنوات الحرب، مما يجعل الوصول إلى الأمن المائي أكثر تعقيداً، ويحتاج جهوداً وأموالاً مضاعفة.
وتأتي الأهمية المُضاعفة لحوض الفرات مستقبلاً من أنه سيتم استنزاف موارد المياه في خمسة أحواض مائية أخرى رئيسية في البلاد: بردى والأعوج، والعاصي، والسهوب، ودجلة والخابور، واليرموك. وتشير الإحصاءات إلى أن آخر متوسط محسوب لنقص المياه في سوريا يبلغ 1.727 مليون متر مكعب سنوياً، وسيصل هذا النقص إلى 6.2 مليار متر مكعب في 2050، وذلك نتيجة الاستهلاك المتزايد وسوء إدارة الموارد غير المتجددة وبدائية أساليب الري، بالإضافة إلى النمو السكاني ومتطلبات النمو الاقتصادي كما سبق أن أشرنا. كما سيؤدي انخفاض الهطول المطري أو تغير معدلاته إلى تفاقم هذا الوضع، وإلى انخفاض مستويات المياه الجوفية وجفاف بعض الينابيع وانخفاض تصريف بعض الأنهار، وتعرّض بعض الموارد المائية المستخدمة حالياً للتلوث.
وينبع أكثر من 70 بالمئة من مياه سوريا من خارج حدودها السياسية، غير أنّ الحكومات المتعاقبة لم توقّع أية اتفاقيات مُلزمة لتقاسم المياه مع جيرانها (باستثناء بروتوكول معقَّد لتقاسم نهر الفرات عام 1987، وسنأتي على تفصيله لاحقاً).
ولا تقتصر أزمة المياه في سوريا على النقص، بل تتعداها إلى المُلُوحة والتلوث، إذ يعاني نهر الفرات، الذي أشرنا سابقاً إلى أنه يغطي 80-85 بالمئة من احتياجات المياه في البلاد، من ملوحة مرتفعة، وخصوصاً خلال مواسم سقاية المحاصيل الأساسية: القمح والشعير والقطن، وذلك بسبب طبيعة تصريف مياه الري. وفي حين تبلغ نسبة الملوحة 400 مل سيمنز لكل سم في نقطة التدفق الأولى في جرابلس على الحدود السورية-التركية، فإنها ترتفع إلى أكثر من 1,000 مل سيمنز لكل سم في البوكمال على الحدود العراقية، وهي نقطة خروج النهر من سوريا. وينتج عن هذه الملوحة العالية انخفاض في إنتاجية المحاصيل وتملّح التربة، خصوصاً في فترات الجفاف. كما يعاني الفرات في سوريا من تلوّث جرثومي نتيجة طرح مياه الصرف الصحي داخله، لا سيما في دير الزور التي تُصَبُّ فضلاتها مباشرةً في مياه النهر، وداخل المناطق الحضرية.هذه النسب مأخوذة من مجموعة مقالات ودراسات منشورة على موقع «Fanack حول المياه»، في القسم المخصص لسوريا، وهي مستقاة من أرقام منشورة من قبل جهات رسمية محلية ودولية، فضلاً عن مجموعة من الدراسات المتخصصة.
مشروع الگاب والتهديد المائي لسوريا والعراق
تعد تركيا اليوم قوة ناهضة في إقليمها وعلى مستوى العالم، مما يجعلها في حاجة مستمرة إلى تثبيت موقعها الاقتصادي والعسكري والديموغرافي، فهي تملك اقتصاداً يقع في المرتبة السادسة عشرة على مستوى العالم، كما أنها عضوة في مجموعة العشرين. ومع حلول عام 2025، يكون عدد سكانها قد تجاوز 87 مليون نسمة (وصل إلى 82 مليون نسمة وفق إحصاء العام 2019). كل هذه العوامل تخلق حاجةً متزايدة إلى تعزيز البنية التحتية وإمدادات الطاقة المستدامة في البلاد، حتى تكون في خدمة الاقتصاد والنمو السكاني المتناميين. لذلك ومنذ وضع خطوطه الأولى في العام 1930، ترى تركيا في مشروع الگاب وما يرشح عنه من مشاريع تنمية زراعية وهيدروليكية كبرى ضرورة حتمية للحفاظ على الآمال التنموية، ولكنّ هذه الآمال كانت دائماً تتجاهل وجود العراق وسوريا، بوصفهما دولتين مشاطئتين لها في دجلة والفرات، وأنّ مشاريعها الهيدروليكية والزراعية العملاقة تهدّد بعمق إمدادات المياه في هذه البلدان الزراعية ذات المناخ شبه الصحراوي، الذي يتطلب الكثير من المياه.يمر نهر دجلة من إيران أيضاً، ولكنّ المجال لا يتسع هنا لهذا المبحث، رغم أنّ جزءاً رئيسياً من مشروع الگاب مُقام على نهر دجلة.
ويشمل مشروع الگاب (جنوب شرق الأناضول)، من بين مشاريع بنى تحتية فرعية متعلقة به، بناء 22 سداً على نهري الفرات ودجلة، اكتمل منها حتى الآن – رغم جميع العثرات التي مرّ بها المشروع – 17 سداً، فضلاً عن 19 محطة توليد هيدروكهربائية، وهو واحد من أكبر مشاريع التنمية الإقليمية في العالم. وينقسم الگاب إلى 13 مشروعاً كبيراً: ستة مشاريع في حوض دجلة وسبعة في حوض الفرات. وبمجرد الانتهاء من المشروع، سيكون من الممكن إنتاج 27 مليار كيلوواط ساعي في السنة الواحدة، مع قدرة مركّبة تبلغ 7,500 ميغاواط، وما يضمن القدرة على ري 1.82 مليون هكتار من الأراضي في جنوب البلاد. ويعد الهدف الرئيسي من مشروع الگاب بالنسبة للحكومات التركية المتعاقبة تقليص فجوات التنمية بين المناطق المختلفة، لا سيما أن مناطق الجنوب التركي أقل تنميةً من مناطق أخرى من البلاد، بالإضافة إلى أنّ تصدير كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية والطاقة الكهربائية النظيفة وقليلة التكلفة إلى الخارج سيعود بمنافع كبيرة على اقتصادها الناشئ. ورغم كل ما يحققه المشروع للجانب التركي من مكاسب، فإنه عند اكتمال بناء السدود بالكامل، ستخسر دول المصبّ في هذين النهرين 70 بالمئة من التدفق الطبيعي لنهر الفرات و50 بالمئة من التدفق الطبيعي لنهر دجلة.
وكانت العديد من الدول الأوروبية تعتبر مشروع الگاب التركي على قدر عالٍ من الأهمية، وذلك بسبب موقعه الاستراتيجي والقريب منها، وهو ما من شأنه السماح لهذه الدول بتحسين أمنها الطاقي وإمداداتها الزراعية. وكانت على رأس الدول المتحمّسة للمشروع بريطانيا وسويسرا، اللتان ساهمتا في مرحلة ما في تمويل المشروع، قبل أن تتوقفا مع الضغوط التي مارستها منظمات بيئية دولية غير حكومية دعمتها سوريا، ونظراً إلى المخاوف من الصراعات التي قد تتولد عن هذا المشروع، وعلى رأسها الجانب المتعلّق بتقاسم المياه مع سوريا والعراق. ونفس هذه العوامل أدت إلى تراجع البنك الدولي عن منح تركيا قروضاً للمضي قدماً في المشروع.
محطات رئيسية في النزاع على الفرات
كانت النقطة الأساسية التي ترتكز إليها تركيا في المفاوضات، التي سنأتي على ذكر تفاصيلها، هي نزع صفة الطابع الدولي عن نهرَي دجلة والفرات، وذلك وفق تفسير أحادي لقواعد الاستخدام العادل والمعقول للمياه، وفي سلوك لا يحترم حدود الدول المشاطئة لها واحتياجات سكانها.
وانطلقت باكورة الاجتماعات التي عَقَدها الأتراك مع حكومات سوريا والعراق حول حصص البلدين من مياه الفرات ودجلة عام 1962، وجرت مع كل دولة على حدة، وظلت من دون نتائج حتى العام 1980، حين وقّعت تركيا اتفاقية ثنائية مع العراق دون أن تشمل سوريا. هذه الاتفاقية لم تكن ذات معنى، ولم يرشح عنها أية نتائج، خصوصاً لجهة ما يتعلق بنهر الفرات، كونها لم تشمل أولى دول المصب.
ومنذ بدء التفاوض في 1962 فصاعداً، تبلورت مواقف مختلفة تدريجياً حيال مشروع الگاب وتقاسم مياه الفرات بين تركيا ودول المصب. واعتباراً من شهر أيار (مايو) 1982 وحتى تشرين الأول (أكتوبر) 1992، نظّمت سوريا والعراق 16 جلسة مناقشات مع تركيا، إما بشكل ثنائي أو ثلاثي. وكان الهدف الأساسي من هذه المناقشات، التي حملت صفة «الفنية»، هو تبادل البيانات الهيدروليكية بما يعزّز التعاون بين الدول الثلاثة. وشهدت المفاوضات ذروتين للتصعيد في عامي 1974 و1990. الذروة الأولى في كانون الثاني (يناير) 1974، وكانت خلافاً عراقياً مع كل من سوريا وتركيا، إذ تزامن ذلك مع ملء السدود التركية والسورية، أما في عام 1990 فكانت سوريا، والعراق بشكل أقل نتيجة انشغاله بحرب الخليج الثانية، في مواجهة تركيا مع ملء بحيرة سد أتاتورك العملاقة.
وسبق ذلك في العام 1987 أن «وافقت» تركيا على توقيع بروتوكول ثنائي مع سوريا (بروتوكول عام 1987 بشأن المسائل المتعلقة بالتعاون الاقتصادي بين الجمهورية العربية السورية وجمهورية تركيا)، يضمن حداً أدنى من تدفّق نهر الفرات على الحدود بمقدار 500 متر مكعب في الثانية، وهو ما يعادل 56.2 بالمئة من التدفق الطبيعي على الحدود، وذلك «خلال فترة ملء خزان أتاتورك وبانتظار إبرام اتفاقية ثلاثية». جاءت هذه الاتفاقية على صيغة «موافقة تركية»، لأن أنقرة اعتبرتها نابعة من «تفهّم» تركي لاحتياجات دول المصب، وليست أبداً استجابة لأي حق سوري أو عراقي في نهر الفرات. في الواقع، لم يُوقَّع البروتوكول نتيجة التفهّم التركي، بل كان السياق الأمني الداخلي والصراع مع حزب العمال الكردستاني المدعوم من سوريا في صلب الأسباب التي أجبرت تركيا على توقيع البروتوكول.
ولتثبيت هذا البروتوكول المُوقَّع بين سوريا وتركيا، جرى التوقيع على اتفاقية ثنائية بين سوريا والعراق عام 1990 (محضر مشترك بين سوريا والعراق، 17 نيسان 1989)، جرى فيها تحديد حصة كل دولة من مياه نهر الفرات التي سمحتْ تركيا بتدفّقها نحو الأراضي السورية. وتم تحديد النسب بواقع 42 بالمئة لسوريا، و58 بالمئة للعراق، وذلك بالاعتماد على طول النهر في كلا البلدين وحجم حوضه. هنا لا بد من القول إنه ما من اتفاقية ثلاثية حتى الآن حول تقاسم مياه النهر بين دولة المنبع ودولتَي المصب، وهو أمر تتهرب منه تركيا باستمرار، معتبرةً أن حصة العراق من مياه الفرات متصلة بسوريا، ولا شأن لدولة المنبع فيها.
في عام توقيع الاتفاق السوري-العراقي نفسه، وعلى الرغم من اتفاقية عام 1987، شهد حوض الفرات أزمة كبيرة مع حجز سد أتاتورك لكميات كبيرة من المياه. وعلّق حينها الرئيس التركي تورغوت أوزال على الأزمة بالقول إن «الفرات نهر تركي لا ينبغي تقاسمه»، منكراً بذلك أي حقوق سورية وعراقية بمياه النهر، ولعلّ ذلك يتسق مع إحدى الحجج التي تقدمها تركيا فيما يتعلق بالشق القانوني لحقوق الدول المشاطئة، حيث تعتبر نهري دجلة والفرات حوضاً واحداً، وبمثابة نهرَين عابرين للحدود وليسا دوليَّين.
وخلال فترة ملء سد أتاتورك وبحيرته العملاقة (بمساحة 817 كم مربع)، لم تأبه تركيا بالجفاف الذي أصاب سوريا والعراق، بل ذهبت إلى حد خفض التدفق على الحدود السورية في كانون الثاني (يناير) 1990 إلى أقل من 100 متر مكعب في الثانية. تزامن ذلك مع توتُّرات أمنية داخلية تركية تتعلق بالمسألة الكردية، ومع زيادة الدعم السوري لحزب العمال الكردستاني، بما يشمل السماح للمقاتلين الأكراد باستخدام شمال سوريا كقاعدة خلفية لعملياتهم. وبدل اللجوء إلى خفض التصعيد، اتجهت تركيا للتعنت أكثر في موقفها، مُظهرةً قدرتها على خنق سوريا مائياً وقطع المياه عنها في أي وقت تريده في حال لم تتوقف عن دعم حزب العمال وربط هذا الدعم بالخلافات المائية.
في الفترة الممتدة من 17 إلى 21 أيار(مايو) 1993، وبعد عام ونصف من التصعيد الناتج عن ملء بحيرة سد أتاتورك، عُقدت جولة أخيرة من المفاوضات في أنقرة، ضمّت سوريا وتركيا فقط، وذلك بهدف التوصل إلى اتفاق نهائي لتخصيص المياه قبل نهاية العام نفسه. هذه المفاوضات لم تصل إلى نتيجة مختلفة عن بروتوكول العام 1987، الذي كان من المفترض أن يكون مؤقتاً ومرتبطاً بفترة ملء بحيرة أتاتورك فقط.
في الأعوام التالية، ومع افتتاح سد بيرجيك وقنوات شانلي-أورفا عامي 1994-1995، تقلصت كمية المياه مرة أخرى على حساب سوريا والعراق، وظلت أنقرة ترفض أي مفاوضات حول مسألة المياه بدعوى دعم نظام الأسد لحزب العمال الكردستاني، وبلغت التوترات بين البلدين ذروتها في تشرين الأول (أكتوبر) 1998، عندما احتشد الجيش التركي على الحدود مهدداً بحرب على سوريا. رشح عن هذا التهديد التركي المباشر توقيع اتفاق أضنة عام 1998، ما سينهي تبني النظام السوري لحزب العمال ويجعل الأجواء أقل توتراً بين البلدين.
مفاوضات وبروتوكولات في عهد الأسد الوريث
استؤنفت مفاوضات المياه في عام 2001 بعد وراثة بشار الأسد للسلطة، وجرت بروح تعاونية أكبر. ولكن قبل ذلك، يمكن تلخيص الاستراتيجيات السورية لإدارة المياه ومواجهة مشاريع تركيا الحابسة لها، وحتى العام 2000، بأنها قامت على التنسيق بين كميات التدفق القليلة من تركيا مع التوسع المطّرد لمشروع الگاب من جهة، ومتطلبات العراق المائية من جهة أخرى، وعلى توظيف دعم حزب العمال الكردستاني في الضغط على تركيا من خلال التهديد الأمني الذي يسببه الحزب داخلياً.
الاستراتيجية |
الهدف |
النتائج |
---|---|---|
دعم حزب العمال الكردستاني (1984-1998) |
ربط أي اتفاق أمني يتعلق بمسألة حزب العمال الكردستاني مع ضمانات تركية بتدفق مياه الفرات |
الاتفاق الأمني عام 1987 (شرط تخصيص 500 متر مكعب في الثانية كحد أدنى) معاهدة التعاون الأمني الموقعة في أضنة عام 1998 وانتهاء الدعم السوري لحزب العمال وطرد زعيمه عبد الله أوجلان |
تجميد التمويلات الدولية لمشروع الگاب عبر مخاطبة وكالات الائتمان الدولية والبنك الدولي (1995-2002) |
إبطاء تنفيذ مشروع الگاب نتيجة نقص رؤوس الأموال الدولية، وربط هذه الاستثمارات بموافقة الدول المشاطئة في المصب (سوريا والعراق) |
دعم سوري للحملة الدولية ضد مشروع سد إليسو بالتنسيق مع حلفاء خارجيين، مثل المنظمات غير الحكومية والمنظمة الدولية للسدود سحب الاستثمارات البريطانية والسويسرية إعادة المفاوضات حول القضايا الهيدروليكية بين سوريا وتركيا (2001-2002) اتفاقية حول المياه بين سوريا وتركيا في حزيران (2002) |
ربط حصة سوريا من مياه الفرات بمحادثات السلام حول الجولان وبحيرة طبرية (1991ـ2000) | ربط حل قضية المياه في نهر الأردن وبحيرة طبرية مع ضغط أميركي على تركيا لزيادة تدفق نهر الفرات ورفع حصة سوريا من المياه | عرض قدّمته الولايات المتحدة خلال المحادثات المباشرة وغير المباشرة بين سوريا وإسرائيل |
مطالبات تاريخية بلواء إسكندرونة وإقليم هاتاي (1939-2002) | ربط المفاوضات مع تركيا حول مياه العاصي مع حل مسألة مياه الفرات | استبعاد تركيا من تَشارُك مياه العاصي مع سوريا ولبنان (1994) |
تزامنت وراثة بشار الأسد للسلطة عام 2000 مع تقوية العلاقات الثنائية بين سوريا وتركيا. واعتباراً من هذا التاريخ، طوّر الجانب التركي حجة جديدة لحبس مياه الفرات بعد أن انتهى التهديد الأمني، فحواها أن سوريا لا تمتلك بنىً تحتية ومناطق تخزين جيدة لمياه النهر في حال زادت تركيا من تدفق المياه، وأن من الأفضل لسوريا أن تحصل على المياه بموجب اتفاق العام 1987 ووفق تدفّق منتظم من دولة المنبع.
كما شهدت الفترة نفسها توقيع اتفاقية تنمية مشتركة بين سوريا وتركيا على نهر العاصي، الذي ينبع من أعالي سهل البقاع في لبنان، والذي كانت تركيا قد استُبعدت من تقاسمه مع سوريا ولبنان في 1994. كان التنازل التركي عن الحصة من نهر العاصي ثمناً قليلاً دفعته مقابل استفادة أكبر من نهر الفرات. فتركيا أدركت أن السوريين واللبنانيين يستخدمونه بشكل جائر، ويحصلون على 90 بالمئة من مياهه، ولا يصل إلى مقاطعة هاتاي سوى 10 بالمئة من مياهه بعد أن تكون ملوثة وغير صالحة لأي استخدام.
وعرفت حقبة التيسير الثنائي للعلاقات بين الدولتين تقارباً على صعد مختلفة، فبالإضافة إلى الاتفاقيات الأمنية العديدة – دائمة الارتباط بقضية المياه – المبرمة بين عامي 2001 و2003، جرى توقيع بروتوكول متعلّق بالمياه يسمح بتبادل الخبرات وعملية التدريب المتبادل بين الدولتين. ويحدد البيان المشترك بين السلطات المائية في البلدين، الذي تأسس في 23 آب (أغسطس) 2001، التعاون المستقبلي حول برامج التدريب والشراكة. وستتوَّج الانفراجة بين البلدين بتوقيع بروتوكول في حلب في 19 حزيران (يونيو) 2002. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا البروتوكول، رغم أنه يتعلق بالمياه، إلا أنه أتى بعد توقيع اتفاقية أمنية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، تنص على التعاون المتبادل ضد الإرهاب. جرى البناء على الارتباط بين المياه والأمن مرة أخرى في بروتوكول حزيران (يونيو) 2002، الموقّع في حلب بين سلطات مشروع الگاب في تركيا والمؤسسة العامة لتطوير واستصلاح الأراضي الزراعية في سوريا. صحيح أن هذا البروتوكول لا يذكر تقاسم المياه المشتركة أو إنشاء تركيا للبنية التحتية للصرف – التي من شأنها أن تمنع تلوث مياه المصب – غير أنه يضمن التزاماً تركياً بمشاركة خبراتها الهيدروليكية مع سوريا، وذلك من خلال تنظيم ندوات وتدريب للمهندسين السوريين الذين ستتم دعوتهم للمشاركة في برامج الري والمشاركة الريفية وتحسين التربة.
بعد انطلاق الثورة السورية، أكملت تركيا تنفيذ مشروع قنوات مياه شانلي-أورفا (2012)، والتي تسمح باستخدام المياه المحتجزة في سد أتاتورك لري السهول الحدودية مع سوريا في حرّان وماردين وجيلان بينار، وكذلك اكتمال حجز المياه في سد سيلفان (2011)، ولم تتخذ سوريا أية خطوة مقابلة نتيجة انشغال السلطة الأسدية بقمع المحتجين.
عودة إلى التفاوض والمسألة الكردية
استمر الربط بين القضايا الأمنية والمائية بين سوريا وتركيا طوال فترات التفاوض من عام 1984 إلى عام 1998، وكانت بنود بروتوكول العام 1987 تنص، بالإضافة إلى التعاون الاقتصادي والفني، على منع كل طرف من دعم الجماعات العنيفة في أراضي الطرف الآخر. والواضح أن هذا التداخل الأمني الذي كانت تستغله سوريا هو الذي كان يدفع تركيا إلى تقديم تنازلات، لكنّ الاستغلال السوري لم يكن ناجحاً تماماً، لأن الاتفاقية لم تؤدّ إلى تخصيص ثلاثي للمياه من المنبع كما كانت ترغب. وفي مناسبات عديدة كانت تركيا وسوريا على شفا الحرب، بسبب الاتهامات التركيّة لسوريا بمواصلة دعم حزب العمال الكردستاني: 1990، 1993، 1996 و1998. هذه الأزمات أدت مراراً إلى حشد الجنود والعتاد العسكري على الحدود المشتركة بين البلدين، ولكن في عام 1998 سيتم حل التدهور الجذري للعلاقات بين البلدين بإبرام معاهدة أضنة للتعاون الأمني، التي ظلت سريةً حتى كُشف جزء من تفاصيلها عام 2018، بالتزامن مع التحركات العسكرية التركية الواسعة داخل الحدود السورية.
وشملت معاهدة أضنة الأمنية تعهداً سورياً بمنع دخول واستعمال أراضيها من حزب العمال الكردستاني، وطرْد زعيم الحزب عبد الله أوجلان من البلاد، والتعهد بعدم إقامة معسكرات للحزب وعدم السماح له بممارسة أنشطة على الأراضي السورية تهدف إلى تهديد أمن واستقرار تركيا (محضر الاتفاق الموقع بين تركيا وسوريا في أضنة، 1998). وعلى عكس المعاهدات الأمنية السابقة لعام 1987 و 1992 و 1993، كان في معاهدة أضنة لعام 1998 أول اعتراف سوري بالطبيعة «الإرهابية» لحزب العمال الكردستاني، كما قبلت سوريا بإنشاء آليات رقابة مشتركة وشفافة لضمان تنفيذ بنود الاتفاق. وبالفعل، طردت سوريا الزعيم الكردي من أراضيها بعد أن لجأ فيها ما يقرب من خمسة عشر عاماً، وفي شباط (فبراير) 1999، ألقت السلطات التركية القبض عليه وصدر بحقه حكم بالسجن مدى الحياة.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن مسألة مياه الفرات كانت تتقاطع مع مفاوضات السلام مع إسرائيل، حيث قدّمت الولايات المتحدة، بصفتها وسيطاً، عرضاً بالضغط على تركيا لزيادة حصة سوريا من مياه الفرات في حال تقديمها تنازلات متعلقة ببحيرة طبرية.
على ما يبدو، كان استغلال الأمن الداخلي التركي، الذي انتهى مع توقيع اتفاقية أضنة، واحداً من استراتيجيات سوريا في مواجهة تركيا، لأن السبل الأخرى كانت غير ممكنة، فتركيا أقوى عسكرياً وأقدر على تعزيز موقفها عبر التحالفات الخارجية المتصلة بالنفوذ الاقتصادي على المستوى الإقليمي، كما أنها المسيطرة على منبع الفرات. يضاف إلى ذلك أن الخصومة المستمرة بين جناحي البعث في سوريا والعراق حالت دون اتخاذ موقف موحد وحازم تجاه السياسات المائية التركية. وعليه فإن أبرز سياسات سوريا كانت جرّ تركيا إلى ربط مصالح سوريا المائية بالمصالح الأمنية التركية، وهو ما كان يُجبر تركيا لاحقاً على قَرن أي اتفاق مائي باتفاق أمني، غير أن جميع هذه الاتفاقيات والبروتوكولات الثنائية غير مستقرة وخاضعة للتقلبات السياسية، ويبقى أي توزيع عادل لمياه دجلة والفرات والأمنَين المائيين السوري والعراقي رهناً بدولة المنبع.
وجهة النظر القانونية
تمّ تحديد مبادئ عدم الضرر والعدالة في التوزيع ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن الاستخدام غير الملاحي لمجاري المياه، كما تشير الاتفاقية إلى ضرورة مراعاة الاحتياجات المائية والاقتصادية والاجتماعية لجميع الدول المشاطئة المعنية، فضلاً عن احتياجات السكان الذين يعتمدون على المجرى المائي، بما في ذلك الآثار المباشرة والمحتملة (المادة 6 من الاتفاقية). هذه الاتفاقية تعزّز الموقف القانوني لسوريا والعراق في مواجهة تركيا، باعتبارهما دولتين تضمان أراضي واسعة على ضفاف نهري دجلة والفرات، وهذا ما دفع سوريا لأن تكون من أولى الدول التي انضمت للاتفاقية وصادقت عليها فور الإعلان عنها، غير أن تركيا لم تكن جزءاً من الاتفاقية، وترى فيها إضراراً بمصالحها وحقوقها المائية، وكانت قد صوتت ضد اعتمادها.
ولم تلجأ سوريا إلى القانون الدولي لتحصيل حقوقها المائية من تركيا لأن القانون الدولي ما يزال بدائياً في هذا الإطار، من ناحية أنه لا يوجد سلطة مركزية تحتكر استخدام العنف المشروع من خلال محاكم لها اختصاص واجب، كما أن اللجوء إلى محكمة دولية يتطلب موافقة الطرفين، وفي غياب اتفاق بين طرفي النزاع، تلجأ الدول إلى وسائل ضغط مختلفة ضمن نطاق التزامات ميثاق الأمم المتحدة (مثل عدم اللجوء إلى القوة في حل النزاعات، المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة). ذلك يعني أن اللجوء إلى مختلف وسائل الضغط هو السبيل الوحيد الذي كان متاحاً أمام سوريا في القانون الدولي.
وعلى الرغم من أن تركيا ليست طرفاً موقّعاً على اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية (1997)، والتي كانت سوريا من أوائل من وقعها وصادق عليها، إلا أن من مضمون قواعد هذه الاتفاقية، مثلاً، واجب عدم الإضرار، والاستخدام الرشيد، وواجب التعاون والمشاورة، وهذه جميعها جزء من القانون الدولي العرفي، وهي مُلزِمة لجميع الدول حتى لو لم تصادق على الاتفاقية.
خاتمة
يوضح سلوك الحكومات التركية المتعاقبة، منذ بداية المفاوضات حول مياه الفرات في العام 1962 وحتى اليوم، غياباً للرغبة بالاعتراف بحقوق جيرانها السوريين والعراقيين، وتجاهلاً للأضرار البالغة على معيشة ملايين الناس في هذين البلدين نتيجة تحكمها بالمياه، وهي تختلق لأجل ذلك ذرائع وحجج واهية تتناقض مع المنطق والقانون وقواعد حسن الجوار. إن حبس مياه الفرات عن السوريين والعراقيين لا يضرّ بسكان المدن والقرى الواقعة على ضفافه، بل يُضرّ بسكان هذه البلاد جميعهم، بحاضرهم ومستقبلهم.