مع كل جولة صراع جديدة بين الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل، وما يرافق ذلك من سيلان للدم الفلسطيني، يتجدد النقاش حول سبل محاربة إسرائيل الأمثل والأكثر فاعلية. يرافق ذلك، بين الذين يريدون تحرير فلسطين، نقاش حول جدوى العمل العسكري وكلفته وردود الفعل الدولية عليه، مقابل السبل الأخرى، في طقس أمسى شعائرياً بما يفرزه من حدة مشاعر وثيمات من أمثال «الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة» و«لا بديل عن المقاومة العسكرية»، وما إليه من مقولات حول محدودية السبل ويقينية الخيارات التي لا بديل لها. وكما جرى مؤخراً ويجري في كل جولة، تطغى أسئلة حول تعريف حركة حماس، ومحاولات لإعادة تعريفها كحركة مقاومة عسكرية مشروعة في وجه استعمار عنصري واحتلال وحشي وحصار إجرامي. هكذا ينجرّ النقاش التقدمي والتحرري إلى منطق الثنائيات الذي تُفرزه منظومة الممانعة ثقافياً، ما بين خير مقابل شر واحتلال مقابل مقاومة ورضوخ مقابل رفض.
ولكن يتعين على المرء تدوير زوايا حادة عديدة من أجل وصف حركة حماس بأنها شريكة في التحرير الوطني الفلسطيني اليوم، وليست سلطة من بين السلطات العديدة التي تعمل على تهميش الفلسطينيين وحرمانهم من تقرير مصيرهم. كيف لنا أن ننسى سجلّ حماس في الاستفراد بحكم قطاع غزة عبر خمسة عشر عاماً، منذ أن ظفرت بآخر انتخابات فلسطينية حرة في 2006؟ من بداهة القول طبعاً أن شركاء حماس في القيادة الفلسطينية استبطنوا لها سوءاً منذ ذلك اليوم، وعملوا بالشراكة مع إسرائيل على تقويض نتائج تلك الانتخابات بطرق عديدة، أهمها الحصار الإجرامي الذي تمارسه إسرائيل على قطاع غزة بأكمله. ولكن ذلك لا يُعفي حماس من مسؤولية حكم القطاع بسلطوية متناهية، وتعفين حياته السياسية، وتجميد الوضع القائم على اقتسام السلطة الفعلية مع حركة فتح، كلٌّ حسب مناطق نفوذه. يصعب على أي مراقب محايد، حينما ينظر إلى واقع «السلطة الفلسطينية»، أن يستثني حماس من هذه السلطة، وألّا يحاسبها على أدائها في السلطة.
- وأزيد من ذلك، إن جردة حساب بسيطة لرصيد حماس في الحكم منذ أن تفردت به يعكس نظرتها الدونية للفلسطينيين ولحقّهم في مساءلة حكامهم ومحاسبتهم – عدا عن إسالتها الدم الفلسطيني والاحتفاء بذلك في سبيل الحفاظ على سلطتها. فمن الاستقواء على النساء والبنات، إلى الاعتداء على الكتاب بالضرب، إلى أخيراً الفض العنيف لاعتصامات ومظاهرات حركة #بدنا_نعيش – الحركة التي ظهرت للاعتراض على الواقع المعيشي المتفاقم الصعوبة في قطاع غزة – يظهر لنا معدن الحركة بصفتها سلطة عارية تسعى لاحتكار الحكم في فلسطين، وكبت الاختلاف والتحكم في أجساد المحكومين وآرائهم ومعتقداتهم. وليس مصدر ذلك أيديولوجيا حماس الإسلامية فحسب، وإنما مشروعها القائم على تصدّر وسيادة (إن لم نقل احتكار) الكفاح المسلّح وشرعية حمل السلاح الفلسطيني. معنى ذلك أن مشروع حماس (وبغض النظر عن الأيديولوجيا) هو إقامة دولة (جهة تحتكر السلاح الشرعي تعريفاً) مرادفة للدولة التي تسعى السلطة الوطنية الفلسطينية لإقامتها – بلا أجهزة حربية وعبر المفاوضات السلمية. في هذا المنطق يوجد تسليم ضمني بأن إطار الدولة القومية الفلسطينية المحتكرة للعنف المشروع هو وحده ما يُنهي الاستعمار الإسرائيلي ويُنهي التهميش السياسي الفلسطيني، وتسعى حماس لموقع قيادي في هذه الدولة، إن لم تسعَ إلى تسيُّدها بالكامل.
ولكن هل هذه الدولة اليوم هي فعلاً من يحرر الفلسطينيين ويكفل حريتهم ويمكّنهم سياسياً؟ أكاد أجزم أن التصعيد الأخير في مواجهة التطهير العرقي والتهجير القسري الإسرائيلي على كامل التراب الفلسطيني يدل على عكس ذلك. التصعيد الذي بدأ في القدس، وانتشر إلى الضفة الغربية، وأدى إلى انضمام فلسطينيين الداخل في اللد وعكا وحيفا وغيرها للاعتراض على السياسة الاستعمارية في القدس، يعكس استفاقة كل مكونات الشعب الفلسطيني الذي يقطن فلسطين التاريخية على حقيقة بسيطة: غياب الحق الفلسطيني في تقرير المصير في جميع المناطق الفلسطينية، وتهميش الصوت الفلسطيني وحرمان الفلسطينيين من التمثيل السياسي على يد السلطات الثلاثة التي تتحكم في مصائرهم – أولها وأهمها السلطة الاستعمارية الإسرائيلية، وثانيها السلطة الوطنية الفلسطينية، وثالثها سلطة حماس في غزة. لقد كانت المواجهة الماضية «انتفاضة وعي في الأساس»، على ما نص بيان الكرامة والأمل، ولا يمكن إنكار السياق الدولي الذي سبق وساند هذه الاستفاقة وبدّى حقوق الفلسطينيين على مصير دولتهم: تقرير هيومن رايتس ووتش عن الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، تقرير منظمة كارنيغي عن التركيز على الحقوق الفلسطينية في ظل استعصاء حل الدولتين، وأخيراً قرار محكمة العدل الدولية النظر في الجرائم المرتكبة في الأراضي المحتلة عام 1967. ثم جاء اقتحام حماس لهذه الانتفاضة لغرض تجديد شرعيتها بدم غيرها (ما أتقنته الحركة من عام 2008)، وإعادة المواجهة إلى مربع جرائم الحرب الذي تتقنه إسرائيل وتتفنّن فيه، ليعكس ذعرها تجاه هذا الوعي – بحكم أن حركة حماس لعبت وتلعب دوراً أساسياً في تهميش الفلسطينيين وحرمانهم من تقرير مصيرهم في الأراضي التي تتحكم بها.
إن حلّ الدولة الفلسطينية ليس معطلاً فقط اليوم، بل هو أيضاً لا يحل المشكلة الأساس التي عبر عنها الحراك الفلسطيني الأخير، ألا وهي غياب التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني بأكمله؛ تمثيل سياسي يحمي الفلسطينيين ويدافع عن حقوقهم وحيواتهم، ويحيّد أسلحة العدو الأشد فتكاً ولا يستدرجها. إن حركة حماس، بوصفها سلطة فاقدة للشرعية الشعبية، شريكة في هذا الاستعصاء. وهي لم تمتلك تفويضاً شعبياً لخوض هذه الحرب نيابة عن هذا الشعب، ولم تسعَ له. آخر استطلاع رأي أُجري قبل الانتخابات في فلسطين دلَّ على استحواذ حماس أصوات 30 بالمئة فقط من المستطلعين. لا ندري ببساطة كم من الـ250 شهيداً الذي فقدناهم ارتضوا بذلك المصير. وليس لدينا أي دليل على الاستعداد الشعبي لتحمل القصف والدمار وخراب الأعمار والأرزاق في رابع حرب تشهدها غزة منذ تفرُّد الحركة بحكم القطاع. وإذ تذهلنا وتدمي قلوبنا مقاطع أمهات الشهداء وهن يواجهن الفقد الأعز بكبرياء وشموخ، فإن هذه المقاطع لا تصلح مؤشراً على رأي عام مستعد للحرب ومقبل عليها. في مجتمع يمتاز بتنوع وتعدد الشعب الفلسطيني، ليست بيوت العزاء وهتافات المسيرات هي التي تمنح التفويض، بل الفوز بالانتخابات، ومن غير المقبول استخدام الحرب كأداة في حملة انتخابية لرفع الشعبية المنحدرة ما قبلها. مقدار وبشاعة الجرائم الإسرائيلية لا يجب أن يحجب عنا أن سلطة حماس لا تملك الحق باتخاذ قرار الحرب والسلم نيابة عن سكان غزة، وأنها تنتفع (كما جميع سلطات العالم في الواقع) من صوت المعركة الذي لا يعلو صوت عليه، ومن تأجيل المساءلة إلى أجل غير مسمى. هنا يجب التنويه إلى المسؤولية المشتركة لترحيل المساءلة بين سلطة حماس والسلطة الفلسطينية، والتي يقرر رئيسها محمود عباس «الموعد الأنسب» للشعب الفلسطيني كي يحاسب حكامه السابقين ويختار حكامه المستقبليين.
يبقى القول إن حماس تحذو حرفياً خلف نهج حزب الله الخطابي والقتالي والسياسي في لبنان – من إعلان «الانتصارات الإلهية» وتصريحات «ما قبل ليس كما بعد»، إلى تعطيل السياسة ورفع القضايا السياسية إلى مرتبة القداسة، إلى تمجيد الوطن وتحقير المواطنين. وإن لُدِغنا، نحن الذين نؤمن بمشرق أكثر تحرراً وحرية، من جُحر حزب الله في حربه مع إسرائيل عام 2006 واستغلاله لتلك الحرب للانقضاض على لبنان (ولاحقاً على سوريا)، يجب ألا نُلدغ من جُحر حماس في حروبها العدة مع إسرائيل. بين ليلة وضُحاها، رأينا «حركة المقاومة» تتحول إلى ميليشيا فئوية تمارس السلطة العارية بحصانة «شرعية القتال»، وتعيد تعريف العدو والصديق، وتستخدم ترسانة السلاح على الأعداء الجدد – أي علينا. هذا نهج حماس كما هو نهج حزب الله، المنظمتين اللتين استفادتا (وتستمران بالاستفادة اليوم) من استثناء مديد لحركات المقاومة من منطق المساءلة.
في النهاية، يحق للفلسطينيين في كامل الأراضي الفلسطينية أن يختاروا وأن يسائلوا حكامهم، وأن يحصلوا على تمثيل سياسي لائق يدافع عن حقوقهم في أراضيهم. في ذلك الصدد، تحرير الأرض معيار ثانوي مقابل تحرير البشر، ويجب الإقرار بأن حماس عقبة كبيرة أمام ذلك. يُصرّ قادة السلطات الثلاثة في أرض فلسطين على مصادرة الحق الفلسطيني، وإن على مستويات متفاوتة. وتعمل السلطتان الفلسطينيتان على استغلال مناهضة الاستعمار الإسرائيلي حسب المصالح الفئوية لكل منهما. الدولة الفلسطينية المزعومة (سواء بقيادة فتح أو حماس) ليست حلاً للمعضلة التي فجّرت المواجهة الأخيرة. لا نريد دولة فلسطينية تولد لتموت، أو لتكون عبئاً على محكوميها بدل أن تكون سنداً لهم. ليس في المشرق التعيس نموذج لدولة تمكّن مواطنيها سياسياً، ولا لدولة تدافع عنهم، بل على العكس، لدينا نماذج لسلطات ودول لا تتورع عن استخدام السلاح ضد المحكومين الأضعف، وحماس ليست استثناءً في ذلك. ليس على الفلسطيني والفلسطينية الاختيار بين ظلمِ غريب وظلمِ قريب؛ يبدأ التحرير الفلسطيني وينتهي بتحرير الفلسطينيين من جميع سجّانيهم على حد سواء.