ربما كان من الأفضل لهذا النص أن يُكتَب باللغة الألمانية، حتى يصل إلى عدد أكبر من القراء الذين نتوجه إليهم أو نناقش مواقفهم بخصوص ما يحدث في فلسطين في الأسابيع الأخيرة، غير أننا كنّا غالباً سنصطدم بصعوبات نشر محتوى يخالف توجيهات المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية الألمانية، مثل ضرورة استخدام تعبير «دولة إسرائيل» بدلاً من الاحتلال الإسرائيلي، والتشديد على أن صواريخ حماس هي صواريخ منظمة إسلامية إرهابية بدلاً من وصفها بأنها صواريخ مقاومة، وغيرها من الأمثلة والتوجيهات التي تمنع أي نص إخباري أو تحليلي من إعلان أي شكل من أشكال التضامن مع الفلسطينيين أو مناصرتهم. ولعلّ أوضح مثال على هذه التوجيهات هو ما نُشر على صفحات التواصل الاجتماعي عن التعليمات والبنود الأساسية التي أرسلتها إدارة قناة دويتشه فيله إلى موظَّيفها، طالبة ضرورة الالتزام بها عند تغطية «النزاع الإسرائيلي الفلسطيني» وفق تعبيرهم. لكن العائق الأكبر أمام نشر أي فيديو أو مقابلة أو نص متضامن مع فلسطين ضد ممارسات إسرائيل وصواريخها هو التهمة التلقائية والجاهزة دوماً، التي تتعاطى مع المحتوى المتضامن مع الفلسطينيين على أنه محتوى مُعادٍ للسامية أو يحرض على كراهية اليهود.
ولا يحدث ذلك فقط على منصات الإعلام الألماني أو صفحات التواصل الاجتماعي، بل حتى في دوائر الأصدقاء الألمان في الجامعة، مثلاً، ممن اعتدتُ أن أسمع منهم دائماً، وأتعلم أحياناً، عن مواقف تضامنية بشأن أحداث سياسية مختلفة، سواء مع اللاجئين والمهاجرين، أو التضامن مع السود في معركتهم ضد العنصرية، أو مع مظاهرات الدفاع عن عاملات الجنس وحقوقهنّ، والتضامن مع المثليين والمثلييات في يوم الفخر، أو ضد الممارسات الاقتصادية والسياسية التي تنتهك حقوق الحيوان والبيئة في ألمانيا. هم متضامنون فعلاً إذن، لكن ليس مع الفلسطينين هذه المرة، أو ربما يكون بعضهم متضامنين معنوياً، لكنهم يفضلون الصمت خوفاً من تهمة معاداة السامية أو تهمة كراهية اليهود.
ومع احترام حرية كل فرد في رغبته بإعلان تضامن أو موقف ما من عدمه، ما يدعو للتفكير هنا أنه في الوقت الذي يقاوم العالم فيه خوارزميات فيسبوك وإنستغرام التي تمنع نشر محتوى متضامن مع الفلسطينيين، يقاوم المتضامنون مع الفلسطينيين في ألمانيا خوارزمية من نوع آخر؛ خوارزمية تاريخية تعود جذورها إلى الهولوكوست، الجريمة الأشنع التي ارتكبها النازيون ضد اليهود في خضمّ بحثهم عن الإنسان الألماني النبيل والأصيل. هذه الخوارزمية التاريخية ربما تبدو أشد خطراً، لأنها لا تكتفي بمنع نشر محتوى يدعم القضية الفلسطينية، بل أيضاً تشوّه أحقية هذا الدعم وتقيسه بموازين سياسية وتاريخية أشد تركيباً وتعقيداً من التأييد السياسي المجرّد لإسرائيل.
من يتابع ويقرأ المواقع والصحف الألمانية الرسمية في تغطيتها للخبر الفلسطيني منذ بداية الانتفاضة الأخيرة، يلاحظ بسهولة أن استراتيجية الإعلام الألماني تعتمد على حجرَي أساس: أولهما إدانة صواريخ حماس والتأكيد في كل فرصة على حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها، وبالتالي يصبح كل ما يحدث من عنف وممارسات عنصرية وجرائم حرب في غزة مبرراً ضد صواريخ منظمة إرهابية هي حماس، وهي الحجة الأولى التي يجابه فيها الإعلام الألماني أي تضامن مع الفلسطينيين؛ أما حجر الأساس الثاني في تغطية أخبار فلسطين فهو اتهام المتضامنين مع فلسطين، والمظاهرات التي خرجت في برلين ومدن ألمانية أخرى، بمعاداة السامية ونشر كراهية اليهود في شعاراتها، وخاصة بذريعة انتشار فيديو لمتظاهرين يرفعون العلم التركي والعلم الفلسطيني ويهتفون بشعارات ضد اليهود في مدينة غيلسن كيرشين. وطبعاً قد تحدث في أي مظاهرة حوادث مشابهة، إذ يستحيل ضبط شعارات جميع المتظاهرين في أي مظاهرة. لكن في المظاهرة التي خرجت في برلين، والتي وصل عدد المشاركين فيها إلى أكثر من 3,000 متظاهر، كان هناك حذر شديد بخصوص عدم الهتاف بشعارات تشجّع على كراهية اليهود، بحسب المنشورات والتعليمات التي نشرها منظمو المظاهرة. وفي حال وُجدت حالات كهذه، فهي لا تمثل مظاهرة بأكملها طبعاً، ولا ينبغي أن تعني أن جميع الذين ضد إسرائيل هم ضد اليهود أيضاً.
الانحياز الألماني لإسرائيل، الذي أعلنت عنه ميركل في بداية التصعيد الأخير، هو أمر متوقع سياسياً. لكن أن يتم اختصار التضامن مع فلسطين إلى تضامن مع المسلمين ضد اليهود، اعتماداً على كلمتي السر الأساسيتين، حماس ومعاداة السامية، فذلك بحد ذاته إعادة تدوير وترويج للمنطق الألماني الأوروبي الاستعلائي حيال المهاجرين والمسلمين الذين لا يملكون حساسية الألمان وحذرهم في حماية واحترام اليهود. بحسب المنشور الذي نشره حزب اليسار على صفحات التواصل الاجتماعي، ألمانيا باتت تستورد معاداة السامية، فبعد عقود من محاولات المجتمع الألماني للتكفير عن ذنب الهولوكست ومعسكرات الاعتقال والتهجير، «يُحضِر هؤلاء المهاجرين كراهية اليهود معهم» ومصدرها الخلفية الدينية الإسلامية حتماً، بحسب هذا المنطق. وبالتالي من أجل الدفاع عن اليهود في كل العالم، والتكفير عن ذنب الهولوكست، يروِّج خطاب الإعلام الألماني – بشكل مباشر أو غير مباشر – لكراهية المهاجرين العرب والمسلمين، ولمعاداة السامية على أنها قضية تنبع من الهويات المهاجرة المسلمة، مع أن اضطهاد اليهود الأعنف ومعاداة السامية بشكلها الأكثر إجراماً صناعة نازية أولاً. وطبعاً لا يوجد ما يبرر كراهية اليهود أو إهانتهم في أي بقعة من العالم، لكن في الوقت ذاته لا يمكن القبول بتحويل التضامن مع الفلسطينيين، سواء في الشارع أو في الإعلام الرسمي الألماني أو على منصات التواصل الاجتماعي، إلى مسألة تخص المهاجرين أو المسلمين في ألمانيا، وعزل المجتمع الألماني عنها من خلال التهديد دائماً بشبح معاداة السامية.
والمثير للاهتمام أيضاً أن الفرق بين معاداة السامية وانتقاد ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية ليس بديهياً بالنسبة لفئة واسعة من المجتمع الألماني، تجد حتى اللحظة صعوبة بالغة في الفصل بين المسألتين، لذلك تبدو العودة إلى أساسيات شرح مجريات التاريخ مهمة ضرورية لمواجهة عمليات غسل الدماغ السّامة على المنصات الإعلامية الألمانية، التي تُعيق تشكيل خطاب إعلامي يضم شريحة أوسع من المقيمين في ألمانيا، أكثر توازناً وأبعد من معاداة السامية أو الإسلاموفوبيا.
في أحسن الأحوال، يمكن فهم حساسية وخطورة معاداة السامية بالنسبة للمجتمع الألماني، وكذلك فهم عقدة الذنب الألمانية التي تُعيق التضامن مع الفلسطينيين، لكن من جهة أخرى لا يمكن غضّ النظر عن أن إلصاق تهمة كراهية اليهود بالمهاجرين من خلفيات دينية مسلمة، وتحويل التضامن مع فلسطين إلى قضية تخص «إدارة أزمات» المهاجرين العرب والمسلمين، هو بحد ذاته ممارسة عنصرية ضد شريحة واسعة من المهاجرين، سوف تنتج مستوى جديداً من الصراع في المجتمع الألماني ضد الهويات المهاجرة، وضد القضايا التي يدعمها المهاجرون، صراع من أجل الاعتراف بأحقية هذه القضايا بالدرجة الأولى.
كذلك فإن النظر إلى معاداة السامية على أنها أزمة أعاد إحضارها المهاجرون إلى المجتمع الأوروبي، في سياق دعمهم للقضية الفلسطينية، هو في عمقه مؤشر على فكرتين في غاية السذاجة والخطورة في أن معاً، تصوران العالم على أنه غرف مغلقة يمكن فصلها عن بعضها: الأولى أن الصراعات في بقعة ما من العالم يمكن عزلها وحصرها في منطقة جغرافية ما طالما أنها لا تهدد الشأن الداخلي لدول ومجتمعات أخرى، أي أن اضطهاد وقتل الفلسطينين هو شأن لا يخص المجتمع الألماني، على عكس معاداة السامية التي تمس صميم وحدة المجتمع الألماني. وهذا يأخذنا إلى الفكرة الثانية، وهي إمكانية التخلي عن المسؤولية الإنسانية والأخلاقية بحجة تحديد أي القضايا أكثر أهمية وأولوية من وجهة نظر داخلية محدودة ومنغلقة على ذاتها. بذلك، يجد المتضامنون مع فلسطين في ألمانيا أنفسهم في حرب على عدة جبهات، ضد كل من العنصرية والاستعمار والمركزية الأوروبية والسرديات المشوهة، مضطرين للكتابة بالألمانية والإنكليزية والعربية (مع نقط وبدون نقط)، كل هذا من أجل إقناع شاب أو صبية ألمانية بحق أولي وأساسي وهو حق الفلسطينيين بالعيش بكرامة وحرية على أرضهم.