أكثر اللحظات التي أشعر فيها بالخوف تبدأ الآن، مع ما يسمى «وقف إطلاق النار». لأنّي أعرف أن الحرب العميقة والأصعب تبدأ الآن.
الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة «الوحش» التي كسرناها. الصحافة العبريّة تقول إنّ الشرطة «صُدمت» من الهبّة الشعبيّة، وهي الآن تحاول أن ترمم «قوّة الردع». أي تريد أن تستعرض عنفها ووحشيّتها حتّى تُعيدنا إلى مربّع الخوف والخضوع، حتّى تُرهبنا من جديد لئلا نخرج إلى الشوارع مجدداً، ولئلا نرفع نداء الوحدة الفلسطينيّة مجدداً.
بعد اعتقال أكثر من 1,500 شابة وشاب في الأسبوعين الأخيرين داخل أراضي 1948، أعلنت وزارة الأمن الداخلي في 22 أيار (مايو) عن عمليّة سمّتها «القانون والنظام»، ستجنّد فيها وحدات حرس الحدود والشرطة السريّة والوحدات الخاصة وكتائب الاحتياط، من أجل تنفيذ أكثر من 500 اعتقال خلال الساعات والأيّام القريبة بحق «بنك أهداف» محدد بهدف «تصفية حساباتها» مع الشباب. هذه الحملة، غير المسبوقة حجماً، هي إعلان حرب يجب ألا يمر بهدوء. قوى القمع الإسرائيليّة مهزوزة ومصدومة، وهي تحاول استرداد وحشيّتها بالعنف والسجون وبتدمير حياة شبابنا. هذا المستوى الأوّل.
ولكن هناك مستوى أعمق وأخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط أذرعها الاجتماعيّة لتعيد صياغة الذاكرة، لتمحو القصّة التي كتبها الناس بالشوارع، والتضحيات، ولتكتب مكانها رواية ترسّخ تقسيمنا وتخدم استراتيجية إسرائيل الاستعماريّة.
الناس التي نزلت الى الشوارع قدّمت نموذجاً رائعاً ومختلفاً في القوّة والشجاعة والتحدّي والوحدة والتكاتف. صحيح. لكن مسؤوليتنا هي أن نقدّم نموذجاً مختلفاً على صعيد آخر أيضاً: ألا نكرر هذه المرّة أخطاء الماضي، وألا نسمح بأن تُسرق قصّتنا منّا.
هذه الهبّة الشعبيّة عبارة عن مادّة خام، والسؤال هو من منّا يعرف أن يصنع منها أفضل شكل.
إسرائيل ستجرّب أن تصنع منها ضربة موجعة على مستوى الوعي والخطاب السياسي السائد: ستعطي امتيازات اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة لكل من يركض الى حضنها. سيُفلتون فلوساً كثيرة، ومشاريع كثيرة، حتى يشكّلوا طبقة سياسيّة اجتماعيّة «راقية» ترسّخ القناعة بالمواطنة الإسرائيليّة. وفي السنين القريبة المقبلة، سيجنّدون – ويخلقون – نُخباً اجتماعيّة وأكاديميّة وحقوقيّة وسياسيّة وثقافيّة، ورؤوس أموال، وجمعيات ومؤسسات وشركات وصحافة، ليسرقوا تضحياتنا – تضحيات الشباب الفلسطيني المسحوق تحت بشاعات الاستعمار وظروفه الاجتماعيّة من عنف وفقر وتجهيل وتهميش. سيحاولون أن يحوّلوا روح الثورة التي يحملها الناس، والانتماء الفولاذي لفلسطين والقدس والأقصى، يحوّلونه لقصّة «الفلسطينيين في إسرائيل»، وأن يرجعوا ليحكوا لنا عن «خصوصيّة الداخل». والله يعلم، ربما غداً يأتون لنا بـ«لجنة أور» لجنة اور أنشأتها الحكومة الإسرائيلية لـ«التحقيق» في انطلاق الانتفاضة الثانية وفي مقتل 12 شاباً متظاهراً في أيامها الأولى في أم الفحم. الثانية.
هذه كلّها إمكانيّة مظلمة، لكن هناك إمكانيّة ثانية. الإمكانيّة الثانية هي نحن. ونحن لسنا مما يُستخَفّ به.
في الانتفاضة الثانية كنّا أولاداً صغاراً. بعضنا لم يكن قد ولد بعد، وبعضنا كان كبيراً وإنما غير قادر.
لكننا اليوم نستطيع. وهذا ليس مجرّد واجب، هذه مسؤوليّة حياتنا.
مسؤوليّة حياتنا أن نبني ونرسّخ فكرة وحدة فلسطين. أن نرى المواطَنة قفصاً وسجناً يمنعنا أن نكون كثرة، وأن نعرف بعضنا البعض، ونتحرّك معاً، وأن نشكّل قوة سياسيّة حقيقيّة تصوغ حياتها وطموحاتها وأحلامها. مسؤوليّة حياتنا أن نخلق مشاريع، نخلق مبادرات، نخلق دوائر كلّها ترسّخ فكرة أننا شعب واحد، وأننا نريد حياة اجتماعيّة وسياسيّة واحدة حرّة. نضالاتنا لا بد أن تُصاغ بشكل يكسر «خصوصيّة» و«قفص» كل بقعة جغرافيّة. مسؤوليّة حياتنا أن نبدأ اليوم لنبني ونؤسس رؤية جديدة تعيش، وتعيد تعريف النضال الفلسطيني بعد سنين من خزعبلات «دولة أوسلو» أو سخافات «المساواة داخل إسرائيل».
لدينا لحظة مهمّة جداً، وهي فاتحة الإمكانيّات لكل شيء جديد. لا بد أن نتحرّك بقوّة وبسرعة، لنحكي، نتواصل، نبني، نفكّر، نفرض خطاباً جديداً. أن نرفض حياة الأقفاص، ونجعل كل من يريد أن يتمسّك بالتقسيم يخجل من نفسه. أن نقاتل لنغيّر في قلب الأطر الموجودة، ونخلق أطراً جديدة قائمة على مبدأ وحدة النضال الفلسطيني وكسر المعازل. ويجب أن نرى المستقبل أمامنا، مستقبلاً فيه ابن حيفا وابن خان يونس يتلقّون مستوى العلاج الطبي نفسه، وابن القدس وابن الناصرة يدرسون المنهاج نفسه (ويتمردون على المنهاج نفسه)؛ مستقبلاً ليس فيه حاجز واحد في كل فلسطين، وفيه أولاد أم الفحم يلعبون مع أولاد غزّة في حدائق القدس.
أنا لست متفائلاً ولا متشائماً. أعرف أن هذه لحظةُ ممكن، وأن لدينا قدرة أن نصنع منها ما نريد، إن كنا على قدر المسؤولية. ولا بد أن نكون على قدر المسؤوليّة، ليس فحسب لنصنع مستقبلاً أفضل، وإنما ليكون حاضرنا وحياتنا اليوم ذات قيمة حقيقيّة، ولكي نرد للناس التي كانت قبلنا، وناضلت وضحّت وظلمت قبلنا، لكي نردّ لهم حقّهم.