عمر، كيف بتحب تعرف نفسك؟ 

أنا من القدس، انولدت وتربيت وبعيش وبشتغل وبتنفّس فيها. أنا كْوير، عمري 26 سنة، وعندي كلب اسمه أمل، وجزء من طاقم مؤسسة القوس للتعددية الجنسية والجندرية.

بدأت نشاطي في القوس عام 2016، وبالتحديد في مدينة رام الله، لما كنت طالب بكالوريوس علم اجتماع في جامعة بيرزيت. انخرطت في مشاريع مختلفة، مثل البدء بتنظيم ملتقى هوامش الفكري والثقافي في رام الله، والعمل على المدرسة الأكاديمية للسياسات الجنسية ضمن السياق الاستعماري في فلسطين، وإعداد الدليل صحفي لتغطية قضايا التعددية الجنسية والجندريّة.

انضميت لطاقم القوس المهني عام 2018 كمنسّق إعلام ومشاريع ثقافية، ومن حينها إلى الآن كبر دوري وتغيّر، كما كبرت وتغيّرت أنا. عشت بالقوس أكبر وأهم لحظات حياتي، وتعلّمت كتير. الصراحة ما بعرف كيف كان ممكن يكون شكل حياتي لو إني ما كنت جزء من هذه المجموعة/المؤسسة.

قبلما إسالك عن عملك ضمن مؤسسة قوس وانخراطكم بالنضال التحرري، بدي إحكي عن الأحداث الراهنة، أولاً شو بتسميها؟ انتفاضة؟ ثورة؟ حراك؟ يمكن صرنا حساسين للغة بسبب اللي بتعكسه كل كلمة من تاريخ وأحداث وخيبات وهزائم، أو انتصارات ومكتسبات.

بوافق معك على أهميّة اللغة والمصطلحات والمعاني اللي بتعكسها. الحقيقة ابتسمت وأنا بسمع سؤالك، لأنه قبل كم يوم صديقة إلي كانت بتحكي ساخرة إنو أفضل شيء بالأحداث الحالية هو إنو فش نقاش إذا هي انتفاضة أم هَبّة أم ثورة، واللي الصراحة أضحى نقاش مملّ وفقد معناه – ع الأقلّ فلسطينياً. وتيرة الأحداث كانت سريعة جداً، وكان الأهم هو الاستثمار فيها وعيشها أكثر من إيجاد مصطلح ملائم لها. أنا أرى أن ما نعيشه حالياً هو حالة من تكثيف العنف والقمع الاستعماري، وبِقابله تكثيف للمقاومة والمواجهة منّا كشعب فلسطيني، وهذا العنف وهذه المقاومة بنيويّين ومستمرّين في حياتنا في فلسطين تحت الاستعمار.

أنا لا أرى الثورة أو التحرير نقطة واضحة وواحدة، أو لحظة في التاريخ نصل إلها وخلص، بل حالة مستمرّة من التنظيم والمواجهة ومقاومة الظلم، وهذا من أهمّ الأشياء اللي تعلّمتها في القوس. اللي صار في آخر ثلاثة أسابيع كان انفجار لحالة المقاومة والمواجهة والإسناد والأمل كنتيجة لتراكم الغضب والقهر اللي ولّده الاستعمار لسنوات، ونقطة هامّة في مسارنا التحرري ومقارعة الاستعمار. طبعاً عشنا كتير ألم وفقدان وخوف وتوتّر، وهاي الأشياء كمان ستبقى، لكنها للأسف حتميّة في مسار الحرية والثورة سواء في مواجهة الاستعمار أو الأبوية أو النظام الاقتصادي الرأسمالي المتوحش.

وتيرة الأحداث في الأسابيع الأخيرة كانت سريعة جداً، وأنا بحكي معك حالياً وبعترف إنو ما كان إلي (ولا لرفيقاتي والناس في الشارع) فرصة نستوعب ونتأمّل وننظر للأشياء من بعيد. لكن عايشين الأحداث والتطورات بكلّ ما فينا، وفي راسنا كم هائل من الأفكار والمشاعر من حب وقوة وأمل وخوف وتوتر. وطبعاً حزن على الأرواح اللي فقدناها في كلّ مكان، وبالأساس في غزّة.

إنت من أول الناس اللي شاركوا بانتفاضة الشيخ جراح، واعتُقلت وانتشرت إلك صورة بتشبه صورة جورج فلويد اللي تعرض لعنف الشرطة الأميركية، ومكتوب عليها «لا نستطيع التنفس منذ 1948». حابة إحكي عن هاي اللحظة بالذات، عمر، هي الجهوزية اللي حسيناها عند الشباب الفلسطينيين للانخراط النضالي رغم سيرورة طويلة من النضال وكثير من الخسائر، كيف بتتكوّن؟ يعني باللحظة اللي كنت إنت غير معني مباشرةً كساكن من سكان حي الشيخ الجراح، كنت موجود. احكي لنا عن هالشي.

خليني أبدأ من إن لحظة اعتقالي والاعتداء عليّ كانت مؤلمة جداً، لكن مهمّ جداً أقول إن الشيء الوحيد المميّز فيها هو إنها تصوّرت وتوثّقت، وبالتالي خرجت صورياً بشكل قوي وانتشرت في العالم كلّه. مهمّ نكون واعيين إنو اعتداء مثل هذا بيمرّ فيه يومياً العشرات من صبايا وشباب القدس وفلسطين، بل وأعنف من هيك. في كتير ناس خسرت عينيها وخرجت بخسائر جسديّة صعبة في الأسابيع الأخيرة. وفي نهاية المطاف، جورج فلويد قُتل، والعشرات في غزّة وحول فلسطين استشهدوا، وأنا يمكن مجرّد حظّ عم بحكي معك.

صحيح أنا مش من حيّ الشيخ جراح أو سكّانه، لكن من أهم الأشياء اللي منحاول إيصالها من وقت تحوّلت قضيّة الشيخ جراح لقضية رأي عام هو إنو الحيّ مثال مصغّر على قصّتنا الفلسطينيّة ونكبتنا المستمرّة. طبعاً مهمّ جداً نلاقي حماية وحلّ للمنازل المهددة بالتهجير في الحيّ، لكن مهمّ أيضاً نوعي إن القضيّة أكبر من هيك، وإنها معركة ضدّ التطهير العرقي بشكل عام.

انطلاقاً من هاي النقطة تنبع الجهوزيّة والاستعداد للمواجهة في الحيّ من كل صبايا وشباب المدينة، طبعاً مع وجود عوامل أخرى مثل الحالة الثوريّة العارمة اللي جاءت امتداداً لمواجهات باب العامود والأقصى بداية رمضان، والإسناد من المقاومة في غزّة والقصف الوحشي على القطاع. وطبعاً لازم أذكر الدور المحوري اللي لعبوه سكّان الحيّ المناضلين الأحقاق، مثل الأبطال منى ومحمّد ومحمود الكرد.

شو الشي اللي تغير بالنسبة إلك بانتفاضة 2021 عن الحراكات والاحتجاجات الثانية اللي عرفتها، وعن الانتفاضات الثانية بحسب ما تروي الذاكرة الجمعية اللي يمكن ما عشتها لصغر سنك؟

عشت كتير على الرغم من صغر سني. بفلسطين فيه حالة عنف ومقاومة دائمة التجدد، وحتى شخص وُلد في بداية الألفيّة بِكون عاش كم هبة وعدوان على غزة وقمع سلطة فلسطينية وغيره (دقّوا عالخشب). وبالإضافة لمواجهة الاستعمار، إحنا كنسويات وأشخاص كْوير منعيش كمان فترات مواجهة محتدمة مع العنف المجتمعي، واللي لا تقلّ إنهاكاً وأهميّة عن مواجهة الاستعمار. مثلاً، في عام 2019 الشرطة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة أصدرت بيان تمنع فيه أنشطة مؤسسة القوس وتلاحق نشطائها وتحرّض ضدنا، وعشنا شهرين كثيفين ومجنونين مليانين دعم وتضامن وقمع وملاحقة.

عودةً للانتفاضة الحالية، في كتير أشياء جديدة وتغيّرت في الشهر الأخير، وتفاصيل جديدة يمكن ملاحظتها في الشارع. لكن في الصور الكبيرة في شيئين بارزين:

الأوّل هو حالة الوحدة والإسناد المذهلة التي عمّت كلّ فلسطين من نهرها إلى بحرها. المواجهة كانت في القدس والأراضي المستعمَرة عام 1948 وفي الضفة الغربية وغزة. هذا شيء يعطي الكثير من الأمل والقوّة، وبْفكّر هذا اللي كان يشحن الناس في الشارع.

وحتى نكون دقيقين وما نوقغ في مبالغات ورَمنَسة مُفرِطة، مهم أقول – عالأقل كيف أنا بشوف الأمور – إنه ما زال في فروق في شكل المواجهة والقمع. مثلاً، غزة ما زالت تدفع الثمن الأكبر، قتْل أي حركة سياسيّة في القدس ما زال بارز ومميّز، العلاقة اليوميّة المنهكة مع المستعمِر في أراضي 48 ما زالت تسبغ حياة فلسطينيات الداخل، وغيره. لكن حتّى لو كانت المواجهة ونوع القمع مختلفين، كان في وحدة في الهمّ والوجع، ووحدة في رؤية فلسطين كاملة وبتتحدّى الشرذمة.

الشيء الثاني هو مقدار الوجع والقهر اللي انفجر من الناس. مش عارف إذا بقدر أوصف الإشي، بس الوجع كان حاضر بعيون الناس وكلامها وستاتساتها عالفيسبوك. في إشي متراكم من زمان وكان لا بدّ ينفجر في وجه الظالم.

عمر الخطيب

إنت مناضل كْويري كمان، نضالك بجمعية القوس له فترة. حدثنا عما تقوم به قوس وعن تأسيسها وعما تعيشونه حالياً.

مناضل كلمة كبيرة، بس حلوة. حاسس بالإحراج والارتباك معها الصراحة.

مشوار القوس وعملها غني وكبير، وبحاجة لمقابلات كتير نحكي عنها. بدأ مشوار القوس عام 2001 كمشروع صغير في مدينة القدس، ومن حينها إلى الآن كبرت وتطوّرت كتير، وبقدر أقول بصوت عالي ومع الكثير من الفخر إنها حالياً من أكثر المؤسسات الفلسطينيّة تأثيراً وتغييراً.

هدف القوس الرئيسي تعزز النقاش حول قضايا التعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني. نحكي عن هذه القضايا أكثر بشكل واعي ومسؤول، ونواجه العنف اللي بِحيط فيها. إحنا مؤسسة سياسيّة بتشوف دورها هو مواجهة وتفكيك بنى القمع الكبيرة لأنها مرتبطة في بعضها ولا يمكن مقاومة أحدها دون الآخر، وعليه إحنا مؤسسة مناهضة للأبوية والرأسمالية والاستعمار.

مورد القوس الرئيسي وذخيرتها ورأسمالها هو ناشطاتها وناشطيها اللي بتقوم المؤسسة وعملها على جهودهم. مبنى القوس بتوزّع ما بين مجموعات محليّة من مئات الأشخاص في مراكز القوس الأربعة (القدس ورام الله وحيفا ويافا) بترددوا على فعاليات القوس وبستفيدوا منها، وقيادة قطريّة مما يزيد عن 60 شخص من كل مناطق فلسطين، تقود القوس وتحمل النشاط، وطاقم مهني من خمس أشخاص، ومجلس إدارة. نعمل في الكثير من المجالات، مثل مجموعات شبابيّة لأشخاص كْوير، إنتاجات معرفية وفنية حول قضايا التعددية الجنسية والجندرية، خطّ إصغاء ومعلومات، وحملات سياسية مناهضة للاستعمار، وغيره.

حالياً مِنعيش الأحداث زي باقي شعبنا ومجتمعنا، طبعاً مع وجود طبقة إضافية من الأسئلة والأفكار والمشاعر تتعلق بكوننا كْوير؛ مثل المرئية في الحيّز العام، واختلاط المشاعر ما بين الانتماء والغربة، وترقّب المستقبل وتغييراته، وغيره. شهدنا في الأسابيع الأخيرة حضور ملفت ومؤثر لأشخاص كْوير في الشارع والأحداث، واللي كان دايماً موجود بس بهذه الانتفاضة كان واضح المعالم أكثر.

من فترة شاهدت صورة لمناضلين كْويريين يرفعون لافتة مكتوب عليها «الكْويريين مع نضال الشعب الفلسطيني»، وتعليق عنصري بالأسفل تم تداوله «مثلكم مثل الديك الحبش اللي يحتفي بعيد الشكر»، بالإشارة للحريات الجنسانية المقموعة في بلداننا وتناقض النضال الكْويري مع النضال التحرري الفلسطيني. ما تعليقك على ذلك؟ وكيف ترى في الانتفاضة الحالية تَلازُم النضال النسوي الحقوقي والوعي المجتمعي للحريات الشخصية مع النضال التحرري من الاستعمار؟

أعتقد صار واضح في هاي الفترة، أكثر من أي وقت مضى، إن أي شخص فلسطيني أو عربي بشكر الاستعمار على «حرياته» أو بحتفي فيه هو تماماً مثل الخروف اللي بحتفي بجزّاره، سواء كانت حريات جنسية أو غيرها. الصاروخ لما ينزل على غزة أو الرصاصة لما تنطلق في القدس لا تسأل إن كان الشخص كْوير أم لا. وإن افترضنا جدلاً وجود حريّات أو نوع من الحماية لأشخاص كْوير فلسطينيات/ين (وهذه أسطورة بحاجة لتفكيك)، هذا لا يلغي كون الكيان الإسرائيلي الاستعماري كيان إجرامي، ووجوده واستمراره قائمين على الظلم والعنف.

التعليق اللي بتتحدّثي عنه هو جزء من عقليّة وسياسات كتير كبيرة، قصديّة أو غير قصديّة، منسمّيها في القوس من سنوات طويلة «سياسات الغسيل الوردي» (pinkwashing)، وهي سياسات شرسة بتقوم فيها حكومات أو أنظمة أو مؤسسات لاستغلال قضايا التعددية الجنسية والجندرية لتحقيق هدفين: الأوّل هو الدعاية لنفسها وتحسين صورتها، والثاني تعزيز الخلافات داخل مجتمع أو مجموعة عرقيّة معيّنة وتأجيج العنف فيها.

هذا التعليق هو مثال ممتاز جداً، بحاول يقول إلنا كأشخاص كوير فلسطينيين إنه لازم نكره مجتمعنا لأنه بذبحنا، وبالتالي مزيد من الانقسامات والشرذمة وانعدام لأي أمل أو أفق للتغيير المجتمعي، وبقول إنه الحامي الوحيد لكم هو الكيان الاستعماري المجرم اللي بسمّوه إسرائيل.

سواء في هذه الانتفاضة أو غيرها، لا يمكن بأي شكل فصل أشكال النضال عن بعضها أو التعامل مع نوع من القمع على إنه أهمّ أو أولى من الآخر.

لنكن صادقين مع أنفسنا ونضع الأمور في نصابها، في الكثير من الأحيان فيه أشكال «مقاومة» تعزز أنماط وخطابات قمعيّة أخرى، وشهدنا هذا الأمر في الكثير من اللحظات في هذه الانتفاضة. مثلاً، ممكن يكون الاحتفاء بالقدرة على تحدّي ومواجهة الاستعمار بقوّة وصلابة عم يعزز مفاهيم وخطابات تحتفي بالذكورة المفرطة (hyper-masculanity) ويعيد إنتاج تراتبيّة ذكوريّة تُعلي من شأن شخصيّة الشاب «الجدع» والبطل، المحمّلة جندرياً بشكل كبير، وهذا أمر إحنا مندفع ثمنه دوماً كنساء أو أشخاص كْوير. وهذا مجرّد مثال.

هون بيجي دورنا كمؤسسة ونشطاء بالتأكيد على مفهوم التحرر الذي لا يتجزّأ، والربط الدائم بين النضالات (المربوطة أصلاً لكن بحاجة لتسمية). طبعاً الطريق طويل ومش سهل، وفيه أكثر من جبهة، بس نَفَسنا كمان طويل ومقاومتنا مستمرّة.