بعد قرابة شهر على انطلاق الاحتجاجات في سوريا، كان واضحاً أن النظام قرّر استخدام العنف الدموي  في مواجهة المظاهرات التي وصلت البلاد في محيط يغلي من تونس إلى اليمن، فيما راح المتظاهرون يجاهرون بشكل واضح بأن الشعب يريد إسقاط النظام. عاشت سوريا ساعات مفصلية في مسار الاحتجاجات التي بدأت تتصاعد في المدن والبلدات لتُشكّل الثورة السورية، وذلك في اليوم الذي صادف «الجمعة العظيمة»، التي تسبق عيد قيامة المسيح، وهو الاسم الذي استخدمه منظِّمو المظاهرات الموجودون داخل وخارج سوريا ليكون شعار الحراك في الثاني والعشرين من نيسان (أبريل) 2011، اليوم الذي شهد حملة القمع الأكثر عنفاً ضد المتظاهرين حتى ذلك الوقت.

في داريا مثلاً، سقط أول ثلاثة شهداء من أبنائها، فيما خسرت بلدات الغوطة الشرقية كلها تقريباً شهداء في مظاهرات ذلك اليوم، التي اتسع نطاقها في عموم البلاد، حيث انطلقت عشرات المظاهرات في أحياء وبلدات وقرى من أغلب محافظات سوريا، من بينها عامودا في محافظة الحسكة والبوكمال في محافظة دير الزور، وفي بانياس وجبلة وحمص وحماة وسلمية، وفي نقاط عدة من محافظتي درعا وإدلب، كما في سقبا وحمورية وعين ترما وزملكا وعربين ودوما والتل وجديدة عرطوز وغيرها في ريف دمشق، وفي أحياء جوبر وبرزة والقابون والميدان في دمشق.

كان توسع الاحتجاجات على هذا النطاق ردّاً واضحاً من السوريين على الخطاب الاستفزازي لبشار الأسد نهاية شهر آذار (مارس)، قبل أسابيع من الجمعة العظيمة، الذي دفع أعداداً أكبر من المحتجين إلى الشارع على ما يبدو. لم ينجح تعنُّت الأسد، الذي كان في خطابه حذراً من ترداد أي كلمات يمكن اعتبارها تفهّماً للمتظاهرين، خلافاً لما فعله رؤساء دول أخرى وصلت إليها الثورات مثل مصر وتونس.

في ذاك اليوم المفصلي، شهدت دمشق أولى محاولات الوصول إلى ساحة رئيسية والاعتصام فيها، وهي المحاولة التي قام بها متظاهرو الغوطة الشرقية باتجاه ساحة العباسيين، وذلك على الرغم من الأحاديث المروِّعة عن مجزرة ارتكبها النظام بحق المعتصمين في ساحة الساعة في حمص قبل أيام قليلة.

بعد صلاة الجمعة، بدأت مظاهرات بلدات الغوطة الشرقية بالتجمع بين نقاط محددة ثم متابعة المسير. وصلت مظاهرة بلدة حمورية إلى سقبا، وانطلقت الجموع إلى جسرين، ومنها نحو المتحلق الجنوبي الفاصل بين دمشق وغوطتها الشرقية. يقول فادي أمين، وهو ناشط من الغوطة الشرقية شارك في تلك المظاهرة: «كان الجميع يعلمون أننا نتجه نحو ساحة العباسيين عبر منطقة الزبلطاني. كان هدفنا التجمع هناك والاعتصام في إحدى أكبر ساحات دمشق، في محاولة لاستخدام تكتيك ساحة التحرير في مصر». وعلى الرغم من أن جميع المتظاهرين كانوا يعلمون هدف تلك المظاهرة، وهو الخبر الذي انتشر بينهم مثل الإشاعة، لم يكن هناك منظِّمون ظاهرون على الأرض ولا قيادة واضحة للمظاهرة. كان المنظمون في تلك الفترة يحاولون الابتعاد عن الواجهة، لأنّ أجهزة أمن النظام كانت تستهدفهم بشكل مباشر.

من جوبر، الحي الدمشقي المتاخم للغوطة والمُلاصِق لساحة العباسيين من الجهة الأخرى، انطلقت مظاهرات أخرى باتجاه طريق المناشر، بعد أن اجتمع في عدة نقاط من الحي متظاهرون من زملكا وعربين وآخرون قادمون من دوما، وذلك بهدف التوجه نحو ساحة العباسيين أيضاً. محمد اسم مستعار لشاب من حي جوبر، شارك في تلك المظاهرات وهو يعيش اليوم في مدينة دمشق. يقول للجمهورية.نت: «انتظرنا متظاهري زملكا وعربين من أجل الانطلاق نحو طريق المناشر. كان العديد منا يعلمون الوجهة بعد أن تواصلنا عبر الإنترنت بشكل مباشر مع منظمي المظاهرة، الذين كان بعضهم في سوريا وآخرون خارجها. كانت الفكرة أن تكون هناك حلقات وصل من ناشطين خارج البلاد، من أجل عدم اكتشاف كل منظمي الاحتجاجات إذا ما اعتُقل أحدهم». اعترضت كمائن للأمن مجموعات من متظاهري جوبر ففرّقتهم واعتقلت بعضهم، فيما انطلق قسم آخر منهم نحو طريق المناشر، نسبة إلى مناشر الخشب الموجودة فيه، وكان واحداً من طريقين رئيسيين يصلان حي جوبر بالساحة الأكبر في مدينة دمشق، والتي يطلّ عليها أيضاً ملعب العباسيين الدولي.

على الطرف الآخر، إلى الجنوب الشرقي من ملعب العباسيين، كان متظاهرو بلدات سقبا وحمورية وجسرين قد اجتمعوا بمتظاهري عين ترما، ثم واصلوا سيرهم باتجاه دمشق، مارّين بالقرب من ثكنة عسكرية معروفة اسمها ثكنة كمال مشارقة. هناك هتف المتظاهرون، الذين لم يروا أي حاجز أقامته قوات الجيش قرب الثكنة، «الشعب والجيش إيد وحدة». يقول فادي في حديثه للجمهورية.نت: «عندما وصلنا إلى جوار الثكنة ولم نشهد أي مظاهر قمع للاحتجاجات، ازدادت شجاعتنا في التقدم نحو ساحة العباسيين، إذ كنا نتوقع صداماً مع الجيش أو الأمن في تلك النقطة. تقدمنا على أمل الوصول والاعتصام في ساحة العباسيين، حتى وصلنا إلى سوق الهال (سوق تجارة الخضار بالجملة في مدينة دمشق)، وهناك تغير كل شيء».

هناك، بدأت قوات الأمن المتواجدة بالقرب من بناء برجي في منطقة الزبلطاني، يسمى مجمّع الثامن من آذار، بإطلاق النار بشكل كثيف جداً: «اختبأنا خلف حاويات منتشرة بالقرب من سوق الهال. كنت في الصف الثاني، وأرى مطلقي النار بوضوح إذ لم يفصلنا عنهم سوى مسافة 300 متر. للوهلة الأولى تجمّدنا بسبب صوت إطلاق النار الكثيف، لكنني عرفت أنّ معظم تلك الطلقات كانت في الهواء. كنا لنموت جميعاً لو صُوِّبت نحونا بشكل مباشر». لم يستطع المتظاهرون بسبب الذعر الذي تسبّب به إطلاق النار الكثيف جداً، والذي بدأ يتسبّب بسقوط مصابين بعد ذلك. بعض المتظاهرين راحوا يشيرون إلى قناص موجود فوق بناء الثامن من آذار، ثم بدأ بعضهم يسقطون قتلى بالرصاص، وعندها وهنا بدأ المتظاهرون الذين كانوا قد وصلوا إلى منطقة الزبلطاني وسوق الهال بالهرب من المكان.

يتابع فادي تذكر تلك اللحظات: «هربنا باتجاه البساتين القريبة، ومنها نحو منطقة الكبّاس، لنُفاجأ بأنّ باعة متجولين في المنطقة بدأوا يضربون كل من يرونه هارباً ويشاركون في اعتقاله. حاول البعض منّا شراء الخبز من أفران منطقة الكبّاس، بهدف إيجاد حجة أمام حواجز الأمن التي طوقت المنطقة بالكامل».

حاول بعض المتظاهرين الواصلين إلى الزبلطاني الهروب والالتفاف من خلف سوق الهال، بهدف التوجه نحو متظاهري جوبر الذين كانوا في تلك الأثناء متّجهين أيضاً إلى ساحة العباسيين عبر طريق المناشر، لكن كمائن للأمن قامت باعتقال كثيرين منهم، فيما واجه متظاهرو جوبر ردة الفعل ذاتها. يقول محمد: «خرج العناصر فجأة أمامنا وبدأوا بإطلاق النار علينا، ولم يكن أمامنا سوى العودة إلى جوبر، أما من حاول التوجه عبر طرق فرعية إلى جهة أخرى تلقّفته كمائن تابعة للأجهزة الأمنية بالرصاص والاعتقال».

يقدّر مشاركون في تلك المظاهرات بوصول ما يقارب الألف متظاهر إلى منطقة الزبلطاني، ومثلهم عبر طريق المناشر، لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى ساحة العباسيين بسبب مقتل وإصابة واعتقال العشرات منهم. تتحدث التقديرات عن 25 شهيداً في محاولة الوصول إلى العباسيين وحدها، فيما بلغ عدد ضحايا ذلك اليوم في عموم البلاد نحو مئة شهيد، إذ تمت مواجهة غالبية المظاهرات بعنف شديد من قوات الأمن التابعة للنظام السوري. كانت تلك أكبر حصيلة يومية للضحايا في سوريا حتى تاريخها.

«عندما كنا في الطريق نحو ساحة العباسيين، لاحظتُ شباباً يحملون علب مرتديلا وآخرين يحملون زجاجات مياه غازية. كان الجميع يريد التجهز للاعتصام في ساحة العباسيين، وفي حين توقع الكثيرون مواجهتنا بعمليات قمع، لكن لم نكن نتوقع مثل هذا العنف الشديد، ليس حتى وصلنا إلى منطقة الزبلطاني حين أطلق الرصاص علينا مثل المطر»، يقول فادي أمين للجمهورية.نت.

لم تكن تلك المحاولةَ الأخيرة للوصول والاعتصام في ساحة العباسيين، لكنّ قمع النظام الشديد، الذي وصل بعدها أحياناً إلى استخدام أسلحة متوسطة في مواجهة متظاهرين عزّل، أدى إلى فشل جميع محاولات الوصول إلى ساحات دمشق الرئيسية. بدلاً من ذلك، صار لكل بلدة وحي وقرية ساحة رئيسية صغيرة، إذ لم يمنع القمع الشديد المتظاهرين من العودة مجدداً إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط النظام طوال الأشهر التالية، التي شهدت حراكاً ثورياً واسعاً واجه بعضاً من أعنف عمليات القمع التي يمكن تخيلها.