خروج
ربيع عام 2016، حسمتْ قرارها، الخروج هو الحلّ لتحمي نفسها وابنها. الحياة في غزة تذهب كل يوم إلى حد مجنون من الكَدَر. في ذات الوقت، رفض زوجها طلبها للطلاق، وضغط عليها بحرمانها من ابنها البالغ عمرُه حينها عامين. فقانون الأحوال الشخصية المعمول به في محاكم قطاع غزة الشرعية يحدّد سن الحضانة للأم بسبع سنوات للأبناء الذكور، وتسع سنوات للإناث، هذا إن حبست نفسها عليهم.
أسباب كثيرة وراء قرار بيسان بالانفصال، بدءاً من نوم زوجها في غرفة منفصلة منذ ولادتها لابنها ساجد، وقضائها أياماً في بيت أهلها أكثر من بيتها خلال فترة زواجها، ومروراً بنوبات الغضب والعصبية المُنْصبّة عليها منه بلا أسباب أو لأسباب تافهة. بدأت الخلافات الزوجية اليومية بعد توقف عمل زوج بيسان في مؤسسته التي أُغلقت أبوابها، فيما بدأ أهل بيسان بإعالتها مالياً، وهو ما زاد الضغط على زوجها الذي ظل بلا عمل وبحالة نفسية تسوء.
وبهربه تجاه الحبوب المخدرة، ذهب بالعلاقة لمرحلة اللاعودة.
«والترامادول خلّى الحياة جحيم، عفْشي في الدار وأغراضي دايماً مكسّرة، ابنه كان بلّش يزحف ويحكيله بابا، يفحّم عْياط بدو إياه، وهو يقله انقلع ع إمك». كان ساجد ابنهما في سنته الأولى، ويعاني مشاكل في معدته، أثّرت على نومه وصحته العامة، وحمّلت بيسان ذلك المجهود الثقيل على كتفها لوحدها، وإن طلبت مساعدة زوجها فالغضب عليها هو الجواب الوحيد.
في أحد أيام تلك الفترة، قصدت بيسان أحد قضاة المحكمة الشرعية في غزة، وشرحت له ما تمر به في علاقتها مع زوجها. كانت تتوقع أن تسمع منه: «اهربي، ولا تكتفي بالانفصال» بعد كل التفاصيل التي سردتها له، ولكن رد القاضي كان حينها: «ظِلّ راجل ولا ظِلّ حيطة». كان ذلك قاسياً عليها وغير محتمل للحد الذي دفعها لأخذ قرار بالانفصال غير الرسمي.
انعزلت عن العالم كله لتكون مع ابنها فقط. «في إيدي طفل وأنا كنت طفلة ومش عارفة كيف أحميه، وبنفس الوقت مش عارفة استسلم للوضع الموجود».
في الطريق إلى «هنا»
منتصف شهر أيلول من عام 2016، خرجت بيسان من غزة إلى مصر مع ابنها ساجد ذي العامين. تُنسيها مصر كل المتاعب، و«تونّسها» القاهرة بكل تفصيل مهما كان عابراً أو صغيراً. لم تكن تلك رحلتها الأولى إلى مصر، زارتها في عام 2010، كهدية قدّمها لها أهلها بعد تحصيلها لمعدل عالٍ في الثانوية العامة. أحبّت بيسان مصر، ويحب الفلسطينيون مصر، وخصوصاً الغزازوة منهم، مَن درسوا وعاشوا فيها أو زاروها أو مروا بها حتى. بوابتهم إلى العالم مرات، وإلى المهالك مرات كثيرة.
شهران من التردد على السفارة البولندية في القاهرة. حصلت أخيراً بيسان على تأشيرة شنغن كما خططت، بعد أن قدمت تقارير طبية مزورة تفيد بأن ابنها ساجد يعاني أزمة صحية تستلزم تدخلاً عاجلاً. التقارير الطبية المضروبة هي إحدى سبل أهل غزة للخروج منها، إلى جانب قبولات الجامعة المزورة وإقامات العمل المضروبة، وأي سبيل بوسعهم التشبُّث به ليُخلّصهم من إجراءات الحدود المعقَّدة والمغلقة أمامهم، بما فيها سبل الهجرة غير الشرعية بركوب البحر وسير البرّ.
لم تكن وجهة بيسان الحقيقية هي بولندا بل بلجيكا، البلد الذي كان، كغيره من جواره الأوروبي، وجهة للفلسطينيين الراغبين بتقديم طلبات لجوء سياسية. لم تكن بلجيكا الخيار الأول دائماً، لكنها أصبحت أفضل المتاح بعد تضييق ألمانيا والدول الاسكندنافية سياسات اللجوء، وخصوصاً عقب موجات الهجرة العربية اللاحقة لعام 2011.
تتذكر خمسة أيام في بولندا الباردة، لم تستوعب شيئاً ممّا حدث حينها. وعلى عكس ما كانت تسمعه من أصدقائها، لم يَبدُ البولنديين لطيفين لها. في غرفة الفندق المجاورة، كانت تقيم امرأة بولندية برفقة طفلها. ساجد يبكي في الغرفة، وابن البولندية يصرخ في الغرفة المجاورة. وكل حين، تقتحم البولندية عليها الغرفة، تصرخ في وجهها وتخرج، دون أن تفهم بيسان شيئاً من كلماتها سوى الغضب. لم يكن أمامها إلا الهرب إلى الشارع، وتحمُّل برودة جوّ المدينة المثلج، العصيّ على شخص أتى لتوّه من مدينة تطل على ساحل المتوسط.
طارت بعد الأيام الخمسة في بولندا إلى بروكسل، أعقبها شهران من التردد على المحامين وتحمّل تكاليف استشاراتهم الباهظة، بهدف الوصول إلى قرار سليم للخطوة القادمة. تجري طلبات تسليم المهاجرين واللاجئين بين الدول الأوروبية وفق اتفاقية دبلن، ففي حال كانت بصمتك الأولى في مطار ألماني مثلاً، وتقدّمت بطلب لجوء في بلجيكا، فوفق الاتفاقية مَن يكون مسؤولاً عن ملفك هي دائرة الهجرة في ألمانيا، وعليها أن تحدّد إن كانت تريدك أم لا. في الغالب لا تردّ الدول على هذه الطلبات، وفي حال ردت فإنها تتأخر، وهو ما لم يحدث مع بيسان.
في الأيام القليلة السابقة لأعياد الميلاد، سلّمت بيسان نفسها لدائرة الهجرة وتقدّمت بطلب لجوء سياسي، وفُرزت إلى مخيم. وبعد خمسة أيام فقط، تفاجأت بورود طلب بولندي لتسلُّمها من بلجيكا. تغيّر كل شيء بعد ذلك في المخيم. أعطوها مهلة أقل من عشر أيام لتُخلي الغرفة وتغادر المكان. وبات عليها تقديم طلب لجوء جديد في بلجيكا، ولكن بعد أن تترك المخيم وتختفي لستة شهور حتى تكسر البصمة البولندية. تستأجر خلال هذه المدة بيتاً على نفقتها «بالأسود» – كما يسمون الإيجار غير القانوني من الباطن – ودون أي حقّ في علاج، أو تعليم، أو تأمين، أو أي حقوق كانت.
ما بين مخيمين ووحدة
داخل كرفان مستطيل الشكل، مساحته تكفي سريراً وخزانة صغيرة وطاولة أصغر، قضت بيسان حوالي شهر في المخيم الأول.
«حياة المخيم صعبة، فما بالك على واحدة منفصلة ومعها ابنها. كم شخص بس يسمع كلمة ’منفصلة‘ بتخيّل إنو هاي المنفصلة هي واحدة مستعدة إنو تفتح رجليها ببساطة لأي حدا بقلها بِس بِس». لا يتوقف ذلك على المُقِيمين في المخيم، تقول بيسان، بل يمتد ليصل المدير والمشرف وعامل المطبخ حتى، عدا عن الذين يريدون أن يعيّنوا أنفسهم مسؤولين ورؤساء على أي امرأة تمشي بظِلّها لا بظِلّ رجل.
كانت تربط شعرها، وتلبس بيجامة فوقها جاكيت طويل يصل إلى ما تحت الركبة، بلا نقطة مكياج واحدة على الوجه، حفاية خفيفة في قدميها، ولبستان – إحداهما للمخيم وأخرى لخارجه، وكلتاهما «أستر» من بعضهما – كل ذلك لتقي نفسها شر الكلام الساقط من أفواه الشباب المصطفين في ممرّ المخيم. «يعني إذا في دكر يجي يقول والله كانت مغرية ولا شكلها حلو ولا زفت، مكنش، كنت مكتئبة وحالي بالويل، بس حلّوا عني».
مساءً، حين كانت تنتهي من دروس ساجد وتضعه في السرير لينام، تقف على باب الكرفان لتدخّن سيجارة أو لتجلس قليلاً. كانوا يتقافزون حولها: «إنتي من غزة؟»، «إنتي أم ساجد؟»، «طب وين زوجك؟». كانوا يُلقون على عتبتها كل الأسئلة التي لا تريد أن تعرف أنها موجودة في حياتها. ليست العلاقة مع الناس ما يُغضب بيسان، بل يُغضبها أن تُفرَض عليها في ظل فراغ لا يتغذى إلا على المخاوف التي تكبر في الرأس والقلب. يُغضبها أن يتكاتف الناس ليحكموا عليها، وألا تجد مساحة خصوصية وأمان لها ولابنها بالحد الأدنى، حتى بالصمت.
«ما جينا هان عشان نلبس قصير وندخّن ونشرب ونعيش حياتنا»، تقول ذلك، وتسرد حكايات النساء اللواتي تعرفت عليهن في مخيميّ اللجوء. إحداهن لا تستطيع رفع يدها في الصف إن كان أخوها برفقتها ولم يُعطِها إذناً. الثانية ممنوع عليها أن تأكل إلى حين انتهاء أخيها من الأكل. ضرب الأخوات والزوجات في منتصف المخيم بمثابة رياضة يومية للرجال، ولا أحد يتكلم. فتيات تعرضن للاغتصاب والتحرش، ولم يفعل أحد شيئاً.
«إحنا كنساء معاناتنا وين ما بدنا نروح رجل»، تقول بيسان وهي تكمل حديثها عن نساء أخريات، جمعتهن المعاناة المشتركة. كُنّ مشغولات بهمومهن، ويدعمن بعضهنّ كشابات، ويتلقَّين تعليقات لاذعة من الجيل الأكبر. اعتدن على التّجمع في حديقة المخيم، يشربن الشاي ويكسرنه بالبزر والترمس، وبقصص معاناتهن وقهرهن اليومي.
بعد خروجها من المخيم الأول، وبهدف أن تكسر البصمة البولندية، استأجرت بيسان بيتاً في الأسود لدى شاب عراقي غير متطفل في تعامله، أجّرها البيت بسعر زهيد، وسلّمها مفاتيحه، وطلب منها أن تتصل به إن احتاجت شيئاً.
كان البيت يقع في إحدى قرى الريف البلجيكي النائية، ممّا حد من قدرة بيسان وساجد على التّحرك. توصل ساجد للمدرسة كل صباح، ثم تعود إلى البيت؛ إلى الفراغ والتعب المزمن والوحدة وانتظار المصير الذي لا يغيّر شيئاً، وإلى جانب كل هذا تحمل همّ الشرطة، التي ستُرحّلها مباشرةً إن عرفت أنها تستأجر البيت بالأسود.
بعد أربعة أشهر في هذا البيت، تنقّلت بيسان وساجد بين بيوت عدة حتى انقضت الأشهر المقرّرة، وبات بوسعها التوجه إلى «الكومسريات»، المقرّ الحكومي الرئيس لوزارة الهجرة واللاجئين، لتقديم طلب لجوء جديد. يوم ذهبت إلى مبنى الكومسريات، ساعدها مترجم في تخليص الأوراق. سلّما الأوراق وتوجّها لصالة الانتظار. خرج القرار. وَشْوَشَ في أذنها: «سقطت البصمة الحمد لله». لم تفهم ولم تسمع إلا همهمات. سقطتْ على ركبتيها، وابنها نائم في عربته. صرخت وبكت، ولم تدرِ من أين خرج كل ذلك الوجع. تضحك وهي تحكي الموقف، وتعترف بأنها ليست ممّن «يُفَلّمون» في المواقف. تكون ثابتة في العادة ولكن «يأخذنا التعب أحياناً».
فُرزتْ إلى المخيم الثاني بعد كسر البصمة البولندية وقَبول طلب اللجوء. هناك قضت ستة شهور، حتى صدرت إقامتها، وفُرزت إلى بيت مؤقَّت خارج المخيم، وأُعطِيت فرصة أقصاها ثلاثة شهور للبحث عن بيت جديد تستأجره بنفسها.
كان نصيبها هذه المرة أيضاً في بيت بعيد وناءٍ، يقع في تقاطع يُعرَف ساكنوه بتعصُّبهم وموقفهم اليميني المتشدد الرافض للاجئين. أخذت أشباح الوحدة والاكتئاب تزورها، تحاول أن تروِّضها نهاراً بشمس الصيف الدافئة. تفرد ملاءة في الحديقة الواسعة خلف البيت وتستلقي. ولكن مع المساء ونوم ساجد، تبدأ نوبات البكاء المُرّ.
بعد ذلك بفترة وجيزة، انتقلت بيسان إلى بيت في غنت، المدينة التي تنثر على يومك طاقة مفرطة مشروطة بمصاعب قاسية وضرورية في معيشتها. «شو أعطتني غنت؟ وشو ما أعطتني؟»، أسئلة لم تشغل بالها كثيراً. كانت تفكر كيف لها أن تتعلم اللغة بأسرع وقت، كيف تنجز أسرع، كيف تتطور هي وابنها. سنتين من الإقامة في المدينة، وشوارع رئيسية لم تدخلها بعد، طوال الوقت لا وقت، ما بين كلّيّتها وتوصيل ساجد للمدرسة، والعودة مساءً للعشاء وتدريس ساجد وتحميمه، ثم تجد نفسها قد نامت قبله.
كانت قد التحقت في أيلول (سبتمبر) 2019 بإحدى كليات التمريض في بلجيكا. تعرف أن التمريض لا يناسبها، لكنه الخيار الأكثر جدوى، فهو على قائمة أكثر ثلاث وظائف مطلوبة في بلجيكا. تتفوق في الدراسة النظرية لكن تعصف بها صعوبات في التطبيق. يضيع تركيزها على المهمة المطلوبة في التركيز على نفسية الشخص أمامها. يمكنها قضاء ساعة كاملة تسمع عجوزاً تريد الاستحمام وتحكي مخاوفها. الحمام ليس مهماً، يمكن تأجيله دائماً بالنسبة لبيسان.
أوائل حزيران (يونيو) الماضي، انتهى الحجر المنزلي الذي بدأ في غنت منتصف آذار (مارس) إثر تفشي وباء كورونا. أثناء ذلك الوقت، وجدت بيسان مساحات لحزنها وهمّها عند أصدقائها، وأحياناً، في الكلمات التي تكتبها، والموسيقا. ساعدتها الكتابة على قراءة نفسها على الورق. لا تحدّق فيما تكتب وهي تكتب. تخرج التفاصيل التي لم تَرَها بعد. تقرأ ما كتبته في ذات اليوم، أو في اليوم اللاحق على الأكثر، ولا تعود له ثانية بالمرة. وتميلُ لسماع الموسيقا. تأخذها الأغاني العراقية والتونسية في الشهور الماضية، ولكن بالعموم لا تفضيلات بعينها. «أي موسيقا حلوة ممكن أسمعها، وتكون محفّز للأشياء اللي متخبية جواك، بتتعرف على الألم جواك عن طريق ألم الناس، بدي أحسّ بحياة الناس التانيين، عشان أنا أقدر أحس إنو حياتي ومعاناتي إلها قيمة».
ما قبل الخروج وما آل إليه الخروج
كانت قد أنهت بيسان دراسة الثانوية العامة في العام الدراسي 2009-2010، والتحقت بتخصص آداب-لغة إنكليزية في الجامعة الإسلامية، التي تُعد خياراً أول لكثير من طلبة غزة الباحثين عن مستوى أكاديمي ممتاز. كما ظلت الجامعة رافداً مهماً لحركات الإسلام السياسي في القطاع، وتحديداً حماس. ظلت قوانين الجامعة توافق توجهاتِها السياسية والاجتماعية، وانسحب ذلك على الحرم الجامعي الفاصل بين الطلاب والطالبات، وعلى سلوك الطلبة ولبسهم، وحتى متطلَّبات الجامعة وكادرها الأكاديمي والإداري.
إحدى هذه القوانين هي منع الطالبات من الدخول إلى الحرم الجامعي دون ارتداء العباءة الفضفاضة والحجاب، مع اشتراط خلوّ الوجه من أي مكياج. وقد عرّض ذلك بيسان لمضايقات متواصلة من موظفات الأمن على البوابة، وشكّل لها ضغطاً إضافياً للحالة النفسية السيئة التي صاحبتها من فترة الثانوية العامة.
بعد الفصل الأول، انتقلت إلى جامعة الأزهر، التي يمكن القول إنها تُشكّل المقابل السياسي للجامعة الإسلامية. سجلت في أول فصولها بكلية الآداب-لغة إنكليزية ولغة فرنسية، وفي الفصل اللاحق أكملت في تخصص اللغة الإنكليزية. كان التزامها في الجامعة حديدياً أول عامين، لكنه خفّ مع الزواج.
كانت لتوّها تبلغ العشرين من عمرها حين تعرفتْ على تيسير، في مطعم كانت تجلس فيه مع صديقتها، وكان هو هناك برفقة أصدقائه، وتَصادف أنه يعرف صديقتها، فسألها عنها في ذات اليوم وتعارفا لاحقاً. وفي فترة قصيرة طلب يدها للزواج. نصحها أهلها بأنها غير مستعدة للزواج بعد، ولكن بيسان كانت مصرة على قرار أُخِذ في لحظة تَصِفُها اليوم بأنها «لحظة مراهَقة غير ناضجة». رفض أهل تيسير الأمر في البداية، لأن بيسان وُلدت لعائلة لاجئة، وهو ابن عائلة «مواطِنة»، المسمى الذي يُطلَق في غزة على العائلات التي تسكن المدينة من قبل النكبة. فرغم كل التحولات التي مرّت بها البنية الاجتماعية في قطاع غزة منذ النكبة إلى يومنا هذا، وتحوُّل غزة المدينة لمخيَّم كبير، إلا أن حشداً من العائلات «المواطِنة» لا تزال ترى نفسها تحظى بسطوة اجتماعية متفوقة و«أصلانية» في المكان؛ سطوة من النوع الذي يُرفَض فيه نسب عائلات هُجِّر أبناؤها من قراهم ومدنهم عام 1948، وقَدِمت بهم النكبة إلى غزة.
في الوقت نفسه، التفتت بيسان إلى حراك 15 آذار الشبابي، والذي بدأ عام 2011 في قطاع غزة والضفة الغربية وتزامن مع موجات الانتفاضات العربية، واجتمع تحت مطلب إنهاء الانقسام الفلسطيني والدعوة لمظاهرات ونشاطات عديدة. في «جاليري غزة» كانوا يجتمعون، يفكرون ويخططون ويقترحون، يُصيبون ويخطئون، ويحلمون بفعل شيء بإمكانه زحزحة جبل الواقع من مكانه؛ الجبل الذي ظل يكبر ويكبر في الواقع، وفي صدر بيسان وكل أصدقائها الذين غادروا غزة في أوقات مختلفة. اتبعت الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية وغزة حيال الحراك سياسة الجزرة والعصا، بالاحتواء مرة والقمع مرات. سُجن العديد من أصدقاء بيسان واستُدعي أغلبهم للاستجواب.
أواخر 2013، حملت بيسان بساجد. كان صادماً لها الخبر، خصوصاً أنها وزوجها لم يكونا ينويان ذلك. «من أول لحظة حسيت بمسؤولية تجاه الموضوع، لكن شعوري كأم محسيتش فيه إلا بعد ما بلشت أتعب، الوحام والاستفراغ، صرت حاسة إنو هاد اشي كبير وأنا خايفة أفقده بأي وقت».
صيف عام 2014، الحرب الإسرائيلية على غزة في أوجها، وبيسان في الشهر الأخير لحملها. كانت مرعوبة من الوضع، تسيطر عليها أخبار استشهاد الحوامل وأطفالهن، وتطلب من أصدقائها على الفيسبوك أن يدعوا لها بألا تُنجب في الحرب. 51 يوماً، امتد خلالها العدوان الأكثر وحشية ودماراً على غزة، بعدها بأربعة أيام أنجبت بيسان ابنها في مستشفى الشفاء غرب غزة.
لشهور طويلة بعد الولادة، لم تخرج من غرفتها. أغلقت الدنيا عليه وعليها، تخبّئه وتحميه من العالم البشع في الخارج. لا تعرف متى وكيف ولماذا صارت أماً، لكنها تتأكد أنها أمّ في لحظة ارتمائه بحضنها.
تدرك بيسان الآن مبالغتها في حماية ابنها لدرجة لم يعد قادراً فيها على ملاقاة العالم الخارجي إلا من خلالها. «مكنتش مخلّياه يتنفس حبيبي، ولا أنا كنت قادرة أتنفس، الظرف مش طبيعي»، كانت تقول قبلها. «كأم منهكة كيف رح يكون الوضع لما بنرمى في وجهك عبارات إنو ابنك مش رح يكون راجل ما دام ضل ملزق فيكي، وين أروح بابني؟».
أتساءل إن كان كل ما مضى تحديداً هو ما يجعلها تُسائل أمومتها بأسئلة يتخفى حولها شعور بذنب لا ينتهي، أسئلة عن توزيع المسؤولية وتقاسمها بينها وبين والد ابنها، عن عُقدة الذنب والهرب للانفصال، عن حرمان الولد من أبيه، عن التربية والأمان، وعشرات الأسئلة. «لما يكبر ابني رح يسألني، ورح أقله أنا عملت اللي بقدر عليه»، تقول بيسان، التي بدأت بالتقاط أنفاسها من مسؤوليات الأمومة حين أتى والد ساجد إلى بلجيكا السنة الماضية.
أخذت ذلك القرار بعد تعبير ابنها اللحوح عن حاجته لوالده، ورؤيتها له يتعلق بالرجال من حوله. مرة كانت توصله للمدرسة، فقال لها: «ماما اشتريلي بابا زي هاد». كان يشير إلى رجل يوصل ابنه للمدرسة. يومها، أخذت قراراً أن تذهب إلى خيار التفاهم مع والده، وعرضت عليه أن يأتي إلى بلجيكا ليكون جوار ابنه. وافق، وسافر بعد أن أتمت له إجراءات لمّ الشمل. كان الانفصال بينهما لم يتم رسمياً بعد، لذلك اشترطت أن يأتي وورقة الطلاق في يده. الأمر منتهٍ عندها ولا فرصة لجريان المياه في نهر العلاقة مرة أخرى. كل ما كانت تريده هو أن يكون ابنها مع والده في ظل منظومة قانونية تحميها وابنها. أما هو فظلَّ يأمل بفرصة لعودة العلاقة بينهما.
احتدمت الأمور بينهما في أول أربعة أشهر من مجيئه، وخصوصاً بعد أن طال جلوس طليقها لديها في المنزل، إذ لم يكن لديه خيارات أخرى. لاحقاً وصلت لوضع غير محتمل، فخرجت هي من البيت إلى بيت آخر. تحسنت علاقتهما بعد ذلك. كان همهما المشترك رعاية ساجد، الذي أصبح يقضي بالتناوب أسبوعاً في بيت والدته وآخر عند والده. تطور ساجد مع أبيه كثيراً، بدأا يكتشفان بعضهما.
الأيام الثقيلة بصحبة المسؤوليات المضاعفة تركتها تحدّق في معنى حريتها كامرأة، في معنى معاناتها، وفي معنى أن تقول عن نفسها «نسوية بمعنى ما»: كيف تأكل؟ كيف تعبّر؟ كيف تحكي؟ كيف تشتم؟ كيف تصرخ وتغضب؟ وكيف تبكي وتضحك؟ وعاودتها كذلك أسئلة «الأنوثة» مرة ثانية: «جديد بلشت أكتشف إنو أنا أنثى، كنت دايماً الحدا اللي بلعب دور الأم والأخت ع الجميع، لكن تعا قلي إني حلوة، إنك معجب، بعرفش أتعامل، هل أفرح؟ هل أسبّلك؟».
«إنتا بعد هاد العمر من وين بدك تحفظ لحالك الحق في الحياة؟ إنتا مدمر أصلاً، الله بفكّش الدمار اللي فيك». الزواج، الحمل، الولادة والانفصال، إحباط تجربة العمل العام، الأمومة وأشباحها، غزة التي لم تربِّ فيها إلا الوجع والهم، رحلة الخروج، مخيمات اللجوء في بلجيكا، غربة البيوت العابرة، ومفاوضات الأُلفة مع مكان جديد. كلها تجارب لا يخرج منها الواحد خفيفاً كما دخل. «فقدت أشياء كثيرة في الطريق كانت من أهم الأشياء اللي بتعب عليها لتكوّن شخصيتي. فقدت جزء من روحي. بطّلت شايفة السعادة. بتصير تعمل مجهود مشان تكون سعيد، وبتضحك ع حالك. فش إشي بسعدك. كل شي بتوصله وإنت على حافة الموت، وإنت مرهق للآخر، وكل شيء بخسر معناه».
على ما يبدو، حين تقرر الحياة أن تكون ثقيلة وقاسية، فلا شيء في الكوكب بإمكانه أن يكون مفيداً. ماذا بوسع البدايات الجديدة أن تُصلح ممّا أفسده الدهر؟ ماذا لو بدأنا في ألف بلد جديدة، وأعطتْنا كل ما بوسعنا أن نتخيل، هل يمكن لها أن تمحو ما تركه فينا مكان لا يُنبت إلا الكَدَر والوهن؟ «شو لازم أتذكر في غزة؟ بيتي القديم، وبيتي الجديد اللي انقصف؟ في كل شبر في غزة في موت. شو بدها تكون ذاكرتك مع غزة غير الموت؟ بس أتذكر شارع البحر، شارع ساجد المختار، ما بتذكر إلا غصة، كل مكان مشيت فيه كنت مخنوقة فيه».
لا خطط واضحة عند بيسان لأيام حياتها القادمة في المكان الجديد. «بس فيه طاقة بدها تروح في المحلات الصح، خاوة». وما بين صدمات غزة وصدمات بلجيكا، تقول لنفسها، لا يجب أن أفكر كثيراً، حتى لو لم أكن سعيدة، سأُجبِر نفسي على الحياة. «وأعتقد إني بلشت أنبسط». تقولها بتردد بائن وهي تُعيد «أعتقد» ثلاث مرات بشكل متململ ومتقطّع. سألتُها إن كانت قد فكرت يوماً بسؤال «شو جابني هان، لشو كل هاد؟». أجابتني أن ذلك السؤال لم يغادر بالها، وتفكر به دائماً، لكن في المقابل لم تفكر لمرة واحدة بالعودة إلى غزة. «ليه ما كنت في وضع أفضل؟ ليه المفاضلة لازم تكون بين معانتين، بين حيوات مشوّهة بس؟».