نتيجة وحشية النظام الشديدة وانتهاكه كل القوانين والدساتير، قلّما يتم الحديث عن البنية القانونية التي تقف وراء القمع في سوريا؛ البنية المكتوبة التي تعطي لأجهزة النظام الأمنية الأساس القانوني الذي تستخدمه في قمع وأَسْرِ المجتمع، ولا تُفسح المجال أمام إقامة دولة القانون. وبهدف مقاربة هذا الجانب من بنية النظام ومن معاناة السوريين، يمكننا أن نرجع إلى ما قبل نحو عشر سنوات، إلى يوم السابع عشر من شباط (فبراير) 2011، عندما تظاهر العشرات في ساحة الحريقة وسط دمشق، احتجاجاً على ضرب عناصر الشرطة لأحد الأشخاص، وكان ذلك الاحتشاد الاحتجاجي هو الإشارة الأولى إلى أن السوريين يوشكون على الانتفاض في وجه النظام السوري. وقتها قام وزير داخلية النظام في حينه، اللواء سعيد سمور، بالنزول إلى الحريقة وقد علت وجهَه ملامح المفاجئة، ليصف الحالة بجملته الشهيرة التي يعرفها جلّ السوريين: «عيب يا شباب هي اسمها مظاهرة».
كان استغراب وزير الداخلية طبيعياً تماماً، إذ كانت أعمال التظاهر والإضراب المناوئة للنظام نادرة في المشهد السوري طوال ثلاثة عقود، تحديداً منذ أعمال البطش والمجازر التي مارسها النظام في ثمانينات القرن المنصرم. لكن إلى جانب البطش وقوة السلاح الذي يُستخدَم دون الخضوع لأي قانون، كان النظام ولا يزال يستخدم القوانين في القمع أيضاً، والقوانين هذه في حد ذاتها مخيفة حتى في حال تطبيقها دون أي خرق أو تجاوز.
لم يكن المشهد الذي فاجأ الوزير في الحريقة يتضمن مخالفة لحكم سلطات الأمر الواقع فقط، وإنما أيضاً لقانون العقوبات السوري. لا يعتبر هذا القانون الإضراب والتظاهر مخالفات حتى، بل جرائم جُنْحية حيناً وجنائية حيناً آخر، تصل عقوبتها إلى الحبس (عقوبة مقيِّدة للحرية) والتجريد المدني، هذا في حال لم تُضَف تهمة أخرى مثل تهمة «وهن نفسية الأمة» الشهيرة، وبالتالي تصبح العقوبة أكبر. في الواقع، كان المشهد بالنسبة للوزير عبارة عن مئات من المجرمين الطلقاء.
الإضراب والتظاهر ممنوعان
الإضراب عن العمل من الوسائل الاحتجاجية السلمية التي يستخدمها العمال لتحصيل حقوقهم، لكنها في قانون العقوبات السوري تدخل تحت تصنيف «الجرائم الواقعة على حرية العمل»!! ينطبق ذلك حتى على العاملين لدى القطاع الخاص، ولكن بشكل أكثر تحديداً حين تكون بهدف الاعتراض على قرارات الدولة أو الضغط على سلطاتها، وكأنه يمكن أن يكون الإضراب لأسباب ترفيهية مثلاً! تنص المادة 331 من قانون العقوبات:
«إنْ توقَّفَ أرباب العمل أو العمّال عن الشغل بقصد الضغط على السلطات العامة، أو لمجرد الاحتجاج على قرار أو تدبير صادر منها، يُعاقَب المجرمون بالحبس أو الإقامة الجبرية لمدة 3 أشهر على الأقل».
والقانون السوري لا يعاقب على الشروع في الجُنَح إلا عند ذكر ذلك صراحة في نص القانون، ويكون ذلك بسبب جسامة الجنحة كما في السرقة، أو حين يُضمِر المُشرِّعُ غاية من وراء هذه المعاقبة، تماماً كما هو الحال في الإضراب عن العمل، حيث يعتبر مجرد الشروع في الإضراب، أو التحريض عليه والدعوة إليه، جريمة يعاقب عليها القانون، بغض النظر عن إتمام الإضراب أو عدمه. إذ نصت المادة 333 على أنه
«من تَذرَّعَ بالوسائل المذكورة أعلاه، فحَمَلَ الآخرين أو حاول حملهم على أن يوقفوا عملهم بالاتفاق فيما بينهم، أو ثبّتهم أو حاول أن يثبّتهم في وقف العمل، يعاقَب بالحبس سنة على الأكثر وبغرامة لا تزيد عن مائة ليرة».
أما بالنسبة للإضراب في القطاع العام (المادة 330)، فإن المُشرِّعَ لم يكتفِ بالتوصيف الجُنْحي للفعل كما هو الحال في المواد المذكورة أعلاه، بل تشدَّدَ كثيراً وحوله إلى التوصيف الجنائي، ذلك أن عقوبة موظفي الدولة المُضْربين عن العمل، أو الذين يقدمون استقالة جماعية، هي التجريد المدني، وهي عقوبة جنائية ماسّة بالشرف والاعتبار، تنطوي على حرمان المحكوم عليه بها من الكثير من الحقوق التي تؤثر في مركزه الأدبي والاقتصادي، ومن ذلك الإقصاء عن جميع الوظائف والخدمات العامة، والحرمان من كل معاش أو امتياز أو التزام من الدولة، والحرمان من أي مهمة في التعليم العام أو الخاص، وغير ذلك من أحكام تجعل حياة المحكوم بالغة الصعوبة، وأهمها الحرمان من الحصول على وثيقة «غير محكوم» طيلة فترة التجريد، ما يعني أيضاً منعه من إجراء كثير من المعاملات الرسمية، وحتى من العمل في القطاع الخاص إذا ارتأت الجهة التي يريد العمل لديها أن تطلب سجلّاً عدلياً نظيفاً. والحدّ الأدنى للتجريد المدني ثلاث سنوات، والأعلى خمس عشرة سنة، ولا تسقط هذه العقوبة بالتقادم، بخلاف العقوبات الأخرى الواردة في القانون. وفضلاً عن التجريد المدني، يمكن الحكم بالحبس البسيط من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات بحسب تقدير القاضي.
التظاهر من وسائل الاحتجاج السلمية أيضاً، وهو بدوره فعل مجرَّم في قانون العقوبات السوري، والتجريم لا يشمل التظاهر فحسب، وإنما أي تجمعات لا تأخذ الطابع الخاص (أعراس، أعياد ميلاد) كما تنصّ المادة 335. وقد تصل عقوبة المتظاهر في سوريا إلى الحبس لمدة عامين في حال رفض المتظاهرون ترْك المظاهرة بعد إنذار السلطات (المادة 338). والغريب في النص القانوني (المادة 336) أنه يُجرِّمً صراحة المظاهرة السلمية التي تحتجّ على أي «قرار أو تدبير اتخذتهما السلطة العامة»، في حال كانت مؤلَّفة «من سبعة أشخاص على الأقل»، ويُجرِّمُ أي تجمّع فيه عشرون شخصاً إذا «ظهروا بمظهر من شأنه أن يعكّر الطمأنينة العامة».
والدستور هو القانون الأسمى في الدولة، وقد كان دستور العام 1973 يضمن حق الاجتماع والتظاهر السلمي (المادة 39) دون ذكر الإضراب عن العمل، ثم جاء دستور العام 2012 ليضيف أيضاً الحق في الإضراب عن العمل إلى حق الاجتماع والتظاهر السلمي (المادة 44). وصحيح أن الدستور ترك الباب موارباً حين نصَّ على أن ممارسة هذه الحقوق يتم تنظيمها من قبل القانون، إلا أن قانون العقوبات يُغلِق الباب نهائياً بتجريمه ممارسة هذه الحقوق، وهو إغلاق يجعل من نصوص القانون سابقة الذكر غير دستورية ولا قيمة قانونية لها نظرياً. والمحكمة الدستورية العليا هي الجهة التي تَبُتّ بدستورية القوانين، وهي المسؤولة عن إلغاء كل نص قانوني مخالف للدستور. وقبل العام 2012 كان الدستور ينصّ أن رئيس الجمهورية هو الذي يعيِّن جميع أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وكانت مواد الدستور تنظِّم كيفية عملها. ثم جاء المرسوم 35 لعام 2012 لينظم تأليف وعمل هذه المحكمة، ولكن دون أن تدخل تغييرات مهمة على الأحكام السابقة. وعلى الرغم من أن المادة الأولى من المرسوم اعتبرت أن المحكمة الدستورية العليا «هيئة قضائية مستقلة»، إلا أن هذه الاستقلالية تم نسفها مباشرة بالعديد من مواد المرسوم ذاته، حين أعطت المادة الثانية رئيس الجمهورية حق تسمية رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية العليا، كما منحت الفقرة ب من المادة العاشرة لرئيس الجمهورية أن يقرِّر إقالة أعضاء المحكمة منفردين أو مجتمعين. كما أن الدستور السوري لم يُعطِ الحق بالطعن في دستورية القوانين للمواطنين أو الأحزاب، وإنما حَصَرَ هذا الحق برئيس الجمهورية وخُمس أعضاء مجلس الشعب (ربعهم في دستور 1973)، فيما منح للمحاكم سلطة اختيارية غير إلزامية في الطعن بدستورية القوانين. والخلاصة أن هذه المحكمة لا تستطيع القيام بشيء دون موافقة رئيس الجمهورية الذي يملك تعيين وإقالة جميع أعضائها، وهذا نتيجة للدستور والقوانين نفسها، حتى دون اللجوء إلى وسائل الترهيب المخابراتية غير القانونية.
الإصلاح ممنوع
في سياق «إصلاح الأوضاع» والاستجابة لبعض المطالب بعد قيام الثورة، تم في نيسان (أبريل) 2011 رفع حالة الطوارئ المعلنة منذ انقلاب البعث في الثامن من آذار (مارس) 1963، وكذلك إلغاء محكمة أمن الدولة العليا. وطبعاً رغم هذا لم تتوقف الانتهاكات والاعتداءات من قبل الأجهزة الأمنية، ولكن ليس فقط في سياق انتهاك النظام لكل قانون، بل حتى من الناحية القانونية، إذ حلّ قانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 محل أحكام حالة الطوارئ، ومحكمة الإرهاب محل محكمة أمن الدولة، ليبدو أن ما أعطاه النظام بيمينه أخذه مباشرة بشماله. ومن الحزمة الإصلاحية التي ادّعى النظام تطبيقها كان استصدار قانون التظاهر السلمي بموجب المرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2011. ومع أن هذا القانون جاء منسجماً مع نص دستوري بقي مُتجاهَلاً لعقود من الزمن، فإن بنوده لم تغيِّر شيئاً بالنتيجة، إذ ألزمَ القانون الجهة المنظِّمة للتظاهر بتقديم طلب ترخيص إلى وزارة الداخلية (الأداة القمعية)، بدلاً من إبلاغ هيئات منتخبة، كالبلديات مثلاً، على غرار كثير من القوانين الناظمة للتظاهر في العديد من الدول الأخرى. والهدف من الإبلاغ أو الإخطار في سائر قوانين الدول الأخرى، هو أن تتخذ السلطات الإجراءات اللازمة لتأمين سلامة المظاهرة والمتظاهرين والممتلكات العامة والخاصة، أما قانون التظاهر السوري فهو يطلب من منظِّمي المظاهرة القيام بمهام الدولة في ضمان سلامة الممتلكات العامة والخاصة (الفقرة 2 من المادة 5). فوق ذلك، وطوال ما يقرب من عشر سنوات، لم تستطع حتى الأحزاب «المعارضة» المحسوبة على النظام استصدار هذه الموافقة، لا بل تم استدعاء وتوقيف بعض من تقدموا بطلبات ترخيص لتنظيم مظاهرات من قِبَلِ الأجهزة الأمنية، فضلاً عن رفض طلباتهم طبعاً.
القانون ممنوع
لقد قنَّنَ النظام السوري دكتاتوريته دستورياً وقانونياً، وحتى بعد التعديلات الدستورية والقانونية «الإصلاحية»، يبقى أن أي نظام يحكم بحسب الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية بموجب الدستور والقوانين السورية، سيكون بالضرورة نظاماً دكتاتورياً، فكيف هي الحالة عندما يكون نظام الأسد؟
ولكن رغم عدم انضباط النظام بقوانينه، إلا أن هذه القوانين ليست زائدة عن الحاجة، بدليل أن النظام يستخدمها ضد جزء من محكوميه فعلاً، لكنها لا تسري على جميع معارضيه بشكل متساوٍ، فالمثول أمام القضاء لا يكون إلا للمحظوظين منهم كما هو معروف لدى السوريين. وليس بالإمكان معرفة آلية الفرز التي يتّبعها النظام بحق المعتقلين، فأصحاب الحظ الأوفر يتم تحويلهم من الأفرع الأمنية إلى القضاء المدني، والأقل حظاً يتم تحويلهم إلى القضاء العسكري أو المحاكم الاستثنائية كمحكمة الإرهاب سيئة الصيت المستبدلة بمحكمة أمن الدولة. بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ما زال ما يزيد عن عشرة آلاف سوري يخضعون لمحكمة قضايا الإرهاب. أما الأسوأ حظاً، فيتم تحويلهم إلى المحكمة الميدانية، وهي أشبه بمسرحية مكرَّرة تُصدر نوعين من الأحكام فقط: الإعدام أو السجن المؤبَّد. ليبقى أصحاب الأوضاع الأكثر كارثية هم الألوف الذين استُشهدوا تحت التعذيب بالأفرع الأمنية؛ أولئك الذين رُموا خارج كل قانون وإجراء. ورغم أن هذا الفرز يبدو في كثير من الأحيان عشوائياً غير واضح المعالم، إلا أنه يمكن أيضاً ملاحظة بعض الدلالات التي قد تؤثر ولو جزئياً عليه، كطائفة ودين المعتقل، أو المنطقة الجغرافية التي ينحدر منها، وأحياناً الوضع المادي والقدرة على دفع الرشاوى، أو الواسطة وشبكات المحسوبية.
إن القوانين في سوريا تنسجم مع هيئة وهيكلية النظام، الذي يقفز على هذه القوانين التي وضعها بنفسه في كل يوم. وهو انسجام يحتاج له النظام بشكل من الأشكال، فمن خلاله يمكن أن يمنح أبواقه حجة أنه يطبِّق القانون، وأن سوريا دولة قانون ولو بالحد الأدنى. كما أن أي دولة، في إطار علاقاتها بمحيطها الإقليمي والدولي، تحتاج لأن تمتلك قوانينها الخاصة المُعلَنة، وذلك كي يكون ممكناً التعامل معها في إطار العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية، بل وحتى من أجل رعايا الدول الأخرى المتواجدين على أراضيها، مقيمين كانوا أم سياحاً أم غير ذلك. في دولة القانون، يتمتع المواطنون بالحقوق والحريات المدنية قانونياً، ويمكنهم استخدامها في المحاكم. أما في سوريا، فإن نص القانون نفسه يتعارض مع مفهوم دولة القانون.