بفضل أحاديث ونقاشات جرت خلال الأشهر القليلة الماضية مع زملاء وزميلات، كان من الصعب والمُشجِّع في آنٍ معاً أن يكتشف المرء أنه ليس لوحده في استصعاب النظر نحو آذار الجاري، شهر الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة السورية؛ نظر وكأنه تحديق نحو شاهق من أسفل واد، حساباً لمقتضياتِ وكِلَفِ تسلُّقٍ مستحيل. ستصل الذكرى العاشرة إلينا لأنها هي المتحركة تجاهنا على بساط الزمن الراكض تحتنا، وتجاعيدُ وشيبٌ وصلعٌ وتعبٌ كثيرٌ على وجوهنا يشهد. لكن، كيف نصل نحن إليها؟ ماذا نفعل؟ ثمة صدّ نفسي، تقول زميلتنا نائلة، مشبّهةً إياه بشبح العيد الكبير الذي يقتضي التعزير والتحضير ويُرَكّب على العيد همّاً، كأن تتواصل معك صحفية أجنبية تحضّر لبرنامج عن «لاجئي الربيع العربي». ثمة استصعاب كبير للحديث الحر، حتى في «مساحات الأمان»؛ استصعاب يتحول – في حالة محرِّر يحاول إقناع كاتبات وكتّاب بالتفاعل مع «الحدث» مثلاً – وكأنه طلب استدانة إيجار الشقة لهذا الشهر إلى أن «يفرجها الله».

وماذا نفعل؟ يتساءل كثيرون وكثيرات من العاملين في الشأن العام، في السياسة والإعلام والأكاديميا ومؤسسات المجتمع المدني. ماذا ننظّم في «الذكرى العاشرة»؟ لكن، لماذا يجب أن «نفعل شيئاً» أساساً؟ ما أهمية «استدارة» الرقم أمام «كسور» وعشوائية حطام آمالنا؟ ولماذا يحتفي مهزومون بذكرى اندلاع كتابة هزيمتهم؟ أليس في الحديث عن ذكرى الثورة مكابَرة على أنها لم تعد موجودة سوى في تفكير إرادوي، يحتاج جهداً كبيراً لإثبات أنه ليس إنكارياً؟ صحيح، ولكن هل يصحّ أن نترك المساحة خالية لرقص الأَلَمْنَقُلّكُميين؟ لاحتفاليات أنصار النظام واعتذاريّيه؟ أنترك علم الثورة لاستعراضات العمشات؟ أنترك القصة للمراسلين الأجانب الذين سيكتبون الكثير من المواد والتقارير عن «الذكرى العاشرة لاندلاع الحرب السورية» خلال الأيام المقبلة؟ ماذا عن حرب السرديات؟ هل نترك أعداءنا يروون هم الحكاية؟ طيب، فليرْوُوها! ما المهم في هذا؟ على ماذا العِركة؟ البلد محطَّم ومنهار، ولا وقت لدى أهله للتفكير في ما حصل منذ عشر دقائق، فما بالك منذ عشر سنوات؛ والشتات يتلمّس طريقه الوَعِر، ومطالبتُه بالتوقف للتفكير في العشر الماضيات بدل الهمّ بالعشر المُقبِلات هو ترف «ناشطين» لَيتَهم يكونون أقل إنكارية وأكثر خَفَراً. وماذا تريد أن تتذكر أصلاً؟ مزيج هجين من البطولات والحسرات وتصفيات الحسابات؟ لأجل ماذا بالضبط؟

مصفوفة الأسئلة أعلاه قد تكون بين أفراد، أو داخل رأس الفرد نفسه. قد تأتي حليمةً بالشخص المُطالَب بالإجابة، أو قد تكون هراوةً على رأسه تستقصد كسره. تعلَّمنا خلال السنوات السابقة أن النجاة نهاية طريق خطِر يُفضي إلى طريق آخر، له خطورة من نوع آخر. النجاة صعبة لأنها وضعية إرهاق مسؤول. الناجي مُرهَق لأن النجاة كلّفته لحماً وروحاً؛ الكثير من اللحم والروح، وهو مسؤول لأن نجاته ليست له وحده، ففيها قِطَع من «نَجَوَات» كثيرة مُجهَضَة، يعرف أنها موجودة في لحمه وروحه، نَجَوات آخرين، بعضُهم أحباب قريبون، وأغلبُهم مجهولون لا يعرفهم الناجي. والناجي إنسان، يحب ويكره، ويتعب ويرتاح، ويغضب ويبتسم، ويفعل ويُخطئ، لكنه أيضاً صرح تذكاري لمعلومِين، ونصب تكريمي لجنود مجهولين. ما أبشع نصب الجندي المجهول، وما أكثر الحاجة له!

ليس من السهل على الناجي أو الناجية أن يتذكروا، ففي الذاكرة ما يسحب نحو الأسفل. كما ليس من السهل عليهم ألّا يتذكروا، فذاكرتهم لوحُ خشب يطفو على بحر؛ وليس من البسيط عليهم أن يفكروا في الحاضر وأسئلته، لكنهم يحتاجون لذلك لتثبيت نجاتهم – هل من ثورة ممكنة ضد مهب الريح؟ – وللاطمئنان على نجاة آخرين وأُخرَيات. ويستحيل التفكير بالمستقبل على الناجية والناجي بقدر استحالة عدم التفكير به. ماضينا ليس لنا وحدنا. ولا حاضرُنا. ولا مستقبلُنا.

ستخصِّص الجمهورية الأسابيع الثلاث المقبلة من جدولها التحريري لمواكبة خاصة لذكرى الثورة، تتوقف خلالها عن إصدار الأعداد الأسبوعية، وتنشر بدلاً من ذلك يومياً مواد متنوعة، لكاتبات وكتّاب سوريات وسوريين، فيها بعض التذكّر غير المتفجّع، وبعض التفكير في الحاضر دون جلد للذات ولا للآخرين، وابتعاد عن الهَلَع قدر الإمكان في محاولة تلمُّس بعض معالم المستقبل، القريب منه على الأقل. ليس مجموعُ المواد حكايتَنا الرهيبة، ولا هي حتى جزء بسيط من الأسئلة الممكنة، وقد لا تقترب حتى من جواب واحد شافٍ. إنها محاولة لأن نكون حنونين مع حطامنا وحطام غيرنا من السوريات والسوريين، ومع حطام بلدنا الرهيب.